الألعاب الشعبية:
قبل عدة أجيال لم تكن المصانع قد بالغت في إنتاجها الكبير من ألعاب الصغار والكبار، وكذلك فقد كان مستوى المعيشة منخفضاً بصورة كبيرة لا يسمح للأسرة أن تنفق الكثير من دخلها على شراء أدوات الألعاب، وكان لا بد للأطفال والشباب من أن يبتكروا بأنفسهم وسائل اللعب والتسلية، ومن مواد بسيطة متوفرة في بيئتهم، مثل: العصا، والحجارة، والعلب الفارغة، وقطع الخشب، والمعادن المهملة، وبقايا القماش، وغير ذلك من المواد التي تتوفر بعد إنجاز الأعمال التي يمارسها الكبار، وهذا النوع من الألعاب يسمى بالألعاب الشعبية، نظراً لأنها تمارس في الأحياء الشعبية من القرى والمدن.
ولا تنفصل الألعاب عن حاجات الطفل المادية سواء منها ما يتصل بحياته اليومية، أو حاجته الفسيولوجية التي يكون اللعب فيها أساسا ضرورياً لنموه وتطوره. وبالطبع فأنني لن أتطرق إلا لذلك النوع من الألعاب التي يتعلمها الطفل بشكل عفوي متوارث من أقرانه في بيئته المحلية... أما تلك الألعاب المثقفة التي قد يتعلمها في المدرسة، أو في مكان آخر بأسلوب تلقيني، فهي لا تندرج تحت تعبير شعبي – أي فلكلوري – وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما يمكن أن نسميه الآن لعبة شعبية؛ ربما كانت في الماضي (لعبة مثقفة) جاءت عن طريق التعليم الرسمي، ويعتبر المقياس في شعبية اللعبة هو تقبل جماعة الأطفال لها وتكيفهم معها، بحيث تصبح جزءاً من ميراثهم، وبحيث تحمل أفكارهم الخاصة وألفاظهم ومصطلحاتهم المحددة، وبالتالي ربما شيئاً من أغانيهم التي تقوم بمهمة التوضيح والتلوين.
وبصورة عامة يمكن القول: أن ألعاب الأطفال الذكور تتجه وجهة ذات علاقة بأعمال الذكور الكبار، مثل: الصيد، وتقليد وسائل الإنتاج، والفروسية، أما ألعاب الإناث تتجه وجهة تلتصق بدور المرأة – الأمومة – والعناية بالبيت.
ولنبدأ بلعبة قديمة من ألعاب الأطفال الذكور وهي
"المقلاع"، والمقلاع عبارة عن شريط رفيع ينسج من الصوف، أو من قماش عادي يثنى بشكل طولي، ويحمل عمودياً بعد وضع حجر صغير في وسطه، ويقذف الحجر لأغراض تتفاوت بين صيد العصافير، أو توجيه الماشية، أو في حالات العراك. ويبدأ الطفل في استعمال المقلاع لمجرد الرغبة الكامنة في استخدام عضلات ذراعه، ثم يهتدي إلى الإفادة من ذلك في اصطياد العصافير، وعندما يكبر قد يستغلها في أغراض أخرى، فالراعي يوجه بها الماشية عندما يقذف بها حجراً على بعد من العنزة الشاردة ليلحقها بالغنم، والشاب المشاكس يعتدي بها على الغير.
ويميل الأطفال الذكور في ألعابهم لتقليد الكبار، والتشبه بهم، وهم بهذا الصدد يرصدون تعامل الإنسان مع وسائل الإنتاج، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهي تناسب المرحلة الحضارية التي يعيشها الطفل. ففي الجيل الماضي وعندما كان الجمل وسيلة من وسائل النقل، ومصدرًا لرزق الكثيرين من الناس، كان الأطفال يأتون بكيس من الخيش يملؤونه بالتراب ثم يرفعونه على صخرة أو حجر عال، يقولون لأنفسهم: هذه جملنا، ثم يأخذون في وضع أدواتهم على الكيس مقلدين الأسلوب الجماعي الذي يحمل به الرجال أثقالهم على الجمال.
وفي مرحلة حضارية أخرى، نجد الأطفال يصنعون من الأسلاك وعلب التنك المستديرة هيكل سيارة ويقودونها وهم يتبادلون عبارات وأصواتاً يستعملونها عند استعمال السيارة وتحميلها وحتى دورانها. ناهيك عن تقليد الأطفال في ألعابهم الفلاح، والبائع، والمدرس، إضافة إلى ذلك تقليدهم القوة عند الرجال، وعادات الفروسية، فيشكلون فرقاً تتصارع على نوال لقب الفريق الأقوى، ويتراشقون بالحجارة أو يتصارعون بالأيدي
(لعبة المباطحة، أو يتنافسون في المهارة بالقفز، و إبراز المقدرة على التخفي في الاستعانة بالحيلة والذكاء، أو المقدرة على الجري، ففي لعبة (الطميمة) استعراض لإمكانيات الطفل في التخفي والجري والتفكير معاً، إذ عندما يختبئ الولد عن ناظري رفيقه والذي يفترض فيه أن يكتشف مكانه، يكون الولد في صراع وموازنة للإمكانيات تقلد الصراع بين الكبار، وترصده.
ويقلد الأطفال دور الرجال في تحميل المسؤولية في لعبة
الكورة، وفي هذه اللعبة يأتي الأولاد بلعبة قديمة فيضربونها حتى تستحيل إلى شكل من أشكال الكرة غير المنتظمة، وبطريقة القرعة يصبح أحد الأولاد بمثابة ابن لهذه الكرة و هي أمه، وعليه أن يوصلها بعصاه إلى حفرة متفق عليها، وفي نفس الوقت يحاول الآخرون من رفاقه أن يمنعوا عملية إيصال (الأم) إلى (البيت)، ومن السهل اكتشاف الرموز العميقة التي تكمن وراء هذه اللعبة، فالوصول إلى البيت الذي يمثل الهدوء و الرفاه وحماية الأم هي الأهداف الأساسية للبشرية، والأم هنا رمز للمسؤولية والتي قد تكون مجرد رمز لكل إنسان يتوجب على المرء أن يحمل همه وتبعاته.
وإذا انتقلنا إلى ألعاب الإناث نجدها مستمدة من وحي دور المرأة في المجتمع والذي كان في الجيل الماضي يتركز في مسائل الأمومة، والطفولة، والعناية بالبيت، ولذلك كانت ألعاب البنات تدور حول بناء بيت من المواد الأولية المتوفرة في البيئة، مثل: الحجارة، والخشب، والعيدان، والصفائح المهملة، وربما من التراب نفسه؛ إذ تعمد البنت إلى وضع يدها داخل كومة تراب وتأخذ في الضغط فوق التراب مكونة ما يشبه (الطابون) وهي تغني:
يا طابون انهد انهد لا جيب لك خشب البد
انهد بمعنى انهدم، والبد هو معصرة الزيت القديمة المشهورة بخشبها الضخم، والبنت هنا واثقة من أن الطابون الترابي لن ينهدم، وإذا حصل ذلك، فستبنيه بخشب المعصرة.
وتحرص البنت عند بنائها للبيت – اللعبة – أن تهيئ فيه أول ما تهيئ نموذجاً لسرير الطفل، وقد يكون هذا النموذج مجرد علبة كبريت فارغة، أو علبة أخرى تضعها على قواعد من الحجر الصغير المكعب الشكل، وتضع البنت في هذه العلبة – المهد- نموذجاً تصنعه بنفسها لشكل طفل أو طفلة، أما الوجه فيتألف من قطعة عملة صغيرة مستديرة مغطاة بقماش أبيض، أما الجسد فهو عبارة عن عود من الخشب على شكل صليب يكون الذراعين والجذع، وتكسو البنت هذا الصليب بالأقمشة، وقد تصنع لهذه اللعبة ثوباً برميلي الشكل ذا أكمام، وتخيطه بمعونة والدتها أو بنفسها، وبعد أن تكتمل صناعة اللعبة تفترض البنت أنها أصبحت أماً لذلك النموذج، فتأخذ في تحضير الفراش له وغالباً ما يكون ذلك من الورق والقماش المتوفر في شعبي بيتها، ثم تأخذ في تصور الحياة وقد انبثقت من ذلك النموذج فتهدهده وهي تغني له، وتنشد له التهليل تماماً كما تفعل أية أم تغني لطفلها لينام.
وتتداخل أحياناً الألعاب الشعبية هذه، فقد تلعب البنات ألعاب الأطفال الذكور، وقد يلعب الكبار ألعاب الصغار كما هو الحال في لعبة (الحاح والدقة)، وتكمن تفسيرات عميقة الغور وراء كل هذه الملاحظات، وإنني اعتقد أن هذا المقال هو مجرد لمس أولي لموضوع الألعاب الشعبية، ذلك الموضوع الذي يشمل النواحي الوصفية للألعاب كما توارثها الأطفال جيلاً عن جيل، وتفسير تلك الألعاب بما يوضح الحياة الشعبية وفك رموزها التي تكمن في ممارسات اللعب في الحياة اليومية