ومما ادعاه " جولد زيهر " كذلك أن عبد الملك بن مروان منع الناس من الحج أيام محنة عبد الله بن الزبير ، وبنى قبة الصخرة في المسجد الأقصى ، ليحج الناس إليها ، ويطوفوا حولها بدلاً من الكعبة ، ثم أراد أن يحمل الناس على الحج إليها بعقيدة دينية ، فوجد الزهري وهو ذائع الصيت في الأمة الإسلامية مستعدًا لأن يضع له أحاديث في ذلك ، فوضع حديث : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الأقصى )) .
مع أن الذي عليه أكثر المؤرخين أن الذي بنى قبة الصخرة إنما هو الوليد بن عبد الملك وليس عبد الملك بن مروان وحتى على افتراض ثبوت القصة التي تفيد بأن عبد الملك هو الذي بناها فليس فيها على الإطلاق ما يفيد أنه كان يريد من ذلك أن يحج الناس إليها ويتركوا الحج إلى الكعبة ، لأن مثل هذا الفعل فيه من الكفر الصريح ما لا يمكن أن يسكت عنه علماء الإسلام في ذلك العصر ، ولم نر أحداً من أهل العلم ، بل ولا من خصوم بني أمية الذين كانوا لهم بالمرصاد ، ذكر ذلك من جملة المطاعن والمآخذ عليهم
ثم إن الإمام الزهري ولد سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين للهجرة ، ومقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان سنة ثلاث وسبعين ، فيكون عمر الزهري حينئذٍ اثنين وعشرين عاماً على الرواية الأولى ، وخمس عشرة سنة على الرواية الثانية ، فهل يعقل أن يكون الزهري في تلك السن ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية ، بحيث تتلقى منه حديثًا موضوعًا يدعوها فيه للحج إلى القبة بدلاً من الكعبة !!؟
أضف إلى ذلك أن النصوص التاريخية كلها تقطع بأن الإمام الزهري لم يلتق بعبد الملك لأول مرة إلا بعد مقتل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه بسنوات ، فقد نقل الذهبي وغيره عن الليث بن سعد أنه قال : " قدم ابن شهاب على عبد الملك سنة اثنين وثمانين " ، و ابن الزبير إنما قتل سنة ثلاث وسبعين ، وبعد مقتله استتب الأمر لعبد الملك فلم يكن بحاجة إلى من يضع له أحاديث يصرف الناس بها عن الحج حتى لا يلتقوا بابن الزبير
وأما حديث : ( لا تشد الرحال... ) الذي زعم بأنه موضوع مكذوب ، فهو حديث صحيح مروي في أصح كتب السنة ، فقد أخرجه البخاري و مسلم في صحيحهما ، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد وغيرهم حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيميه : " هو حديث مستفيض متلقى بالقبول أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق " ، وقد روي من طرق مختلفة من غير طريق الزهري ، فلم ينفرد الزهري رحمه الله برواية هذا الحديث حتى يتهم بوضعه
وليس فيه أبداً فضل قبة الصخرة ، أو الدعوة إلى الحج إليها والطواف حولها بدلاً عن الكعبة ، وغاية ما فيه فضل الصلاة في بيت المقدس ، وهو أمر دلت عليه النصوص ، وذكر شيخ الإسلام اتفاق علماء المسلمين على استحباب السفر للعبادة المشروعة فيه
فلا يصح أبداً أن يربط هذا الحديث الصحيح بغيره من الأحاديث المكذوبة في فضائل الصخرة والتي ليس للزهري فيها يد أو رواية ، وقد نقدها أهل العلم وبينوها حتى قالوا : " كل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى "
ثم زعم " جولد زيهر " أن الزهري اعترف اعترافاً خطيراً في قوله الذي رواه عنه معمر : " إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث " فقال : إن هذا يفهم منه أنه كان مستعداً لأن يخضع لرغبات الحكومة في كتابة بعض الأحاديث ، مستغلاً اسمه وشهرته في الأوساط العلمية
وقد حرف " جولد زيهر " هذا النص الذي نقله تحريفاً يقلب المعنى رأساً على عقب ، ويوهم القارئ أن الزهري رحمه الله كان له دور في وضع بعض الأحاديث ، مع أن النص الصحيح الذي أثبته المؤرخون - كابن عساكر في تاريخ دمشق و ابن سعد في الطبقات ، و الخطيب في تقييد العلم ، و الذهبي في السير وغيرهم - أن الزهري كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس -ليعتمدوا على ذاكرتهم ، ولا يتكلوا على الكتب - فلما طلب منه هشام وأصر عليه أن يملي على ولده ليمتحن حفظه ، أملى عليه أربعمائة حديث ، فلما خرج من عند هشام ، نادى بأعلى صوته : " يا أيها الناس إنا كنا منعناكم أمراً قد بذلناه الآن لهؤلاء ، وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة " الأحاديث " ، فتعالوا حتى أحدثكم بها ، فحدثهم بالأربعمائة حديث " ،فيكون معنى العبارة إنهم أكرهونا على كتابة أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعد أن كنا نرويها من حفظنا
ومما يؤكد هذا المعنى رواية الدارمي بإسناد صحيح لقول الزهري : " كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه السلطان ، فكرهنا أن نمنعه أحداً " ، وهو يدلك على مبلغ ديانة هذا الإمام ، وأمانته وإخلاصه في نشر العلم ، حيث لم يرض أن يبذل للأمراء ما منعه عن عامة الناس ، فجاء هذا المستشرق الحاقد ، فأسقط " أل " ليتغير المعنى تماماً ، وينقلب رأساً على عقب فيصير المعنى إنهم أكرهونا على وضع أحاديث من عندنا ننسبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ولم يكتف بما تقدم ، بل أخذ يبحث عن كل شاردة وواردة ، ويتصيد كل ساقط من القول ، ليتخذ من ذلك دليلاً على التشكيك في أمانة الزهري ودينه وخلقه ، حتى وإن كانت النصوص التاريخية - التي يتجاهلها عمداً أو يحرفها إذا اقتضت الضرورة - تكذبه وتدحض كل شبهاته ، ومن ذلك زعمه بأن الزهري حج مع " الحجاج بن يوسف الثقفي " الذي عرف بالجور والظلم ، مع أن الثابت تاريخياً أن الزهري رحمه الله إنما حج مع عبد الله بن عمر وكان معه حين اجتمع مع الحجاج كما ورد ذلك في تهذيب التهذيب .
وأخيراً عاب على الزهري أنه تولى القضاء " ليزيد الثاني " وكان الأولى به - لو كان تقياً- أن يهرب كما هرب الشعبي والصالحون محتجاً بحديث : ( من ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين ) ، فجعل من ذلك مبرراً كافياً لاختلال مروءته وسقوط عدالته
مع أن أحداً من أهل العلم لم يعتبر تولي القضاء من موجبات الجرح ، والاتهام في العدالة ، وقد تولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القضاء بين الناس ، وولاه بعض الصحابة كعلي و معاذ و معقل بن يسار وغيرهم ، كما تولى الخلفاء الراشدون بأنفسهم القضاء ، وولى عمرُ أبا الدرداء قضاء المدينة ، و شريحاً قضاء البصرة ، و أبا موسى الأشعري قضاء الكوفة ، وجاء في كتاب تولية عمر له قوله : " فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة .... " إلى أن قال : " فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ، ويحسن به الذكر "
كما تولى كثير من التابعين القضاء لبني أمية وغيرهم مثل شريح ، و أبي إدريس الخولاني ، و الحسن البصري ، و عبد الرحمن بن أبي ليلى ،و القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، و مسروق ، ومنهم من تولى القضاء للحجاج نفسه ، ومع ذلك فلم يرد عن أحد من الأئمة جرح أي منهم ، لتوليهم منصب القضاء ، بل رأيناهم على العكس من ذلك اتفقوا على تعديلهم وتوثيقهم
وقد نص أهل العلم على أن القضاء تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة ، وأنه قد يجب أحياناً على من تعين عليه ، لما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأداء الحقوق إلى أهلها ، والإصلاح بين الناس ، وأن تولي القضاء للظلمة جائز بلا نزاع ، وأما الوعيد الوارد في الحديث وغيره من الأحاديث فالمقصود منه حث القاضي على توخي الحكم الشرعي ، والعدل بين الناس ، وتحذير من لم يكن أهلا لتولي هذا المنصب ، أو لم يؤد الحق فيه ، وليس المراد منه النهي عن تولي القضاء مطلقاً ، قال ابن فرحون في تبصرة الحكام : " واعلم أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد ، فإنما هي في قضاء الجور للعلماء أو الجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم , ففي هذين الصنفين جاء الوعيد "
نعم فرَّ كثيرٌ من العلماء من القضاء ، وتحمل بعضهم في سبيل ذلك بعض الأذى ، ولكن أحداً منهم لم يفعل ذلك لكونه مسقطاً للعدالة وداعية إلى الجرح ، وإنما فعلوه بدافع الورع والزهد ، والخوف من أن يلقوا الله وعليهم تبعات من أمور الناس
وبهذا يعلم أن تولي القضاء ليس مسقطاً للعدالة - كما أراد أن يصوره جولد زيهر - ، بل هو شرف عظيم لمن قام بحقه ، ولو لم يكن فيه إلا النيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بين الناس بما أنزل الله ، لكفى بذلك شرفاً وفضلاً
هذه هي أهم الشبه التي أثارها هذا المستشرق الحاقد حول إمام من أكابر علماء السنة والحديث ، والتي أراد من ورائها إفقاد الثقة به لدى المسلمين ، وبالتالي إفقاد الثقة بالحديث النبوي ، وهي - كما ترى - شبه وأباطيل لا تستند إلى أية حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما هي من نسج خياله ، وصنع أحقاده ، وعدائه للحديث وأهله ، والله غالب على أمره
المراجع :
- السنة ومكانتها في التشريع د.مصطفى السباعي .
- المستشرقون والحديث النبوي د.محمد بهاء الدين .
- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية الأمين الصادق