الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبييين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فبمناسبة قرب موسم الحج وتوجه كثير من الناس إلى بيت الله الحرام أحببت
أن أضع بين يدي أخوتي طلبة العلم عامة والحجاج منهم خاصة هذا المبحث اللطيف في بيان
حكم رفع اليدين عند رؤية البيت الحرام
للدكتور جاسم كاظم عبادي الشمري
وأود أن أذكر بأن هذا المبحث ينشر لأول مرة على الشبكة العنكبوتية وهو مستل من رسالته للدكتوراه في الفقه المقارن
والحمد لله رب العالمين.
حكم رفع اليدين عند رؤية البيت الحرام
اختلف الفقهاء في حكم رفع اليد عند رؤية بيت الله عزَّ وجل على قولين[1].
رجح الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى كراهة رفع اليد عند رؤيته[2].
وهو المشهور من مذهب الحنفية[3], وبه قال المالكية[4] رحمهم الله تعالى.
ومروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما[5].
حجتهم:
1. سُئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ عن الرجل يرى البيت يرفع يديه ؟
فقال: ( ما كنت أرى أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يفعله )[6].
وفي رواية عنه قال: ( ما كنت أظن أحدا يفعل هذا إلا اليهود... )[7].
وجه الدلالة:
يبين هذا الأثر أن هذا الرفع ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من هدي أصحابه رضي الله عنهم، بل هو من صنيع اليهود[8].
2. قالوا: رفعُ اليدين عند رؤية البيت حكم شرعي، وهو لا يثبت إلا بدليل، وهو منتفٍ ها هنا، بل ورد ما يخالفه؛ وهو أثر جابر المتقدم[9].
وذهب طائفة من العلماء إلى استحباب رفع اليدين؛ عند رؤية البيت.
وهو مذهب الشافعية[10]، والحنابلة[11]، وقول عند الحنفية[12].
وهو قول الثوري وابن المبارك وإسحاق[13]، وإبراهيم النخعي وخيثمة[14].
واختاره ابن حبيب[15] وابن جزي[16] من المالكية.
وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم[17].
قال النووي رحمه الله : ( وبه قال جمهور العلماء )[18].
حجتهم:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: ( اللهمّ زد هذا البيت تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً، ومهابةً، وزد مَن شرَّفه وكرَّمه، ممّن حجَّهُ، أو اعتمرهُ، تشريفاً، وتكريماً، وتعظيماً،وبراً )[19].
وجه الدلالة:
رفعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يديه عند رؤية النبي ودعاءه، يدل على مشروعية ذلك واستحبابه، لأن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم إفادة الندب والاستحباب، فمن رأى البيت قبل دخول المسجد أو بعده فعل ذلك[20].
2. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم على الصفا، وحين يقوم على المروة، وحين يقف مع الناس عشية عرفة، وبجمع والمقامين حين يرمي الجمرة )[21].
وجه الدلالة:
الحديث نص في مواضع رفع اليدين، ومن جملة تلك المواطن؛ عند رؤية بيت الله الحرام.
3. كان ابن عمر رضي الله عنهما يرفع يديه عند رؤية البيت[22].
وجه الدلالة:
فعل ابن عمر رضي الله عنهما هذا؛ فيه مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت الحرام، مع ما عُلم من شدة إتباعه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن ذلك له أصلاً في السنة، لاسيما وأن هذا الأثر قد روي مرفوعاً.
مناقشة الأدلة:
أولاً: مناقشة دليل أصحاب المذهب الأول.
1. نوقش دليل أصحاب المذهب الأول، وهو أثر جابر رضي الله عنه؛ سنداً ومتناً:
أما من حيث السند:
فقد ضعفه طائفة من العلماء منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق[23].
لأنه من رواية المهاجر بن عكرمة المكي، وهو مجهول[24].
وأما من حيث المتن:
فأجيب عنه: بأنه لو صحَّ؛ لما أفاد الحُكم؛ يتبين ذلك من وجوه:
الأول: قالوا: دليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ ودليلكم قول جابر رضي الله عنه، ولا حجة في قول الصحابي إذا خالف المرفوع[25].
الثاني: أخبر جابر عن ظنه ورأيه، وقد خالفه في ذلك ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين[26].
الثالث: أن رواية المثبت للرفع أولى، لأن معه زيادة علم، إذ فيها إثبات الرفع، ورواية جابر نافية، والقول في مثل هذا، قول من رأى وأثبت[27].
الرابع: ويمكن الجمع بينهما، بأن يحمل الإثبات على أول رؤية، والنفي على كل مرة[28]، أو عند الخروج من البيت وتوديعه.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: ( باب ذكر الخبر المفسر للفظة المجملة التي ذكرتها، والدليل على أن جابر بن عبد الله إنما أراد بقوله: ( لم يكن يفعل هذا ) أي لم نكن نرفع أيدينا عند الخروج من المسجد من الطواف والصلاة، لم نكن نستقبل البيت، فنرفع أيدينا بعد ذلك، لا أنا لم نكن نرفع أيدينا عند رؤية البيت أول ما نراه.
ثنا محمد بن يحيى ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا قزعة حدثني أبي سويد بن حجير ثنا المهاجر بن عكرمة قال: سألنا جابر بن عبد الله عن الرجل يقضي صلاته وطوافه ثم يخرج من المسجد فيستقبل البيت، فقال: ما كنت أرى يفعل هذا إلا اليهود )[29].
لذلك بوَّب الإمام الدارمي رحمه الله تعالى على أثر جابر رضي الله عنه؛ بقوله : ( باب إذا ودَّع البيت لا يرفع يديه )[30].
الخامس: الدعاء مستحب عند رؤية البيت[31]، وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء[32].
2. وأما قولهم : رفع اليدين حكم شرعي، وهو لا يثبت إلا بدليل، وهو منتفٍ ها هنا، بل ورد ما يخالفه؛ وهو أثر جابر رضي الله عنه.
فأجيب عنه: بأنه كلام مستقيم لا غبار عليه، وهو حجة عليكم، لا لكم.
فبعد ثبوت ضعف حديث جابر رضي الله عنه؛ ليس لكم دليل ولا مستند على النفي والمنع.
فإن قيل: الأصل العدم، أي عدم الرفع.
فأجيب عنه: نعم، إلا أن يأتي ما يخالفه، وهي أدلة المذهب الثاني، وقد ثبت ذلك الرفع عن بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.