على حسن السعدنى يكتب: لعنة التدخين على المدخنينصورة أرشيفية
اليوم السابع
أنا سيجارة عادية لا أزعم أنى من النوع الفاخر أو الغالي، ومع ذلك أشعر بالفخر بقدراتى العظيمة على إحداث كل هذا التأثير على من يدخنني، عندما يخرجنى من علبة سجائره ثم ينفضنى، ويقوم بإشعالى ويقبض علىَّ بإصبعين، فيضعنى فى فمه، ثم يحلق فى السقف، ويبدأ فى نفث الدخان فأعطيه هذا الشعور، وكأنه ملك العالم، وقد يكون فقيرا معدما ينتزع ثمنى من فم أطفاله الجياع، أو مريضا بالقلب، يحذره طبيبه ألا يأتى إليه مرة أخرى إذا لم يستطع أن يتخلص من ضعفه أمامي، أو صائما يعد الدقائق والثوانى على انتهاء وقت الحرمان والجميع يحذر الاقتراب منه؛ لأنه بعيدا عنى لا يمكن توقع ردود أفعاله، أو طالبا يحصل على مصروفه من والده فيشترينى ويدخننى خلسة بعيدا عن أعين من فى البيت، وكثيرا ما سألت نفسي، هل هذا الإنسان مُسَيَّر أم مُخيَّر؟
- هل الأفعال التى يقوم بها من أول شرائى على حساب ميزانية المنزل أيا ما كان حالها، إلى أن يلقى بالبقية الباقية مني، أحيانا يطأها بقدمه، وأحيانا لا يفعل، هل هى أفعال لا إرادية؟ أم هل هذا الإنسان كائن مسلوب الإرادة، مهما كانت هذه المتعة التى أحققها له ماذا تساوى بجوار الأضرار العظيمة التى يعلم فى أغلب الأحيان أنى أسببها، الأطباء يحذرون: أمراض قلب ورئة، ودم، وأورام، وعيون، وأسنان كريهة، لو كنت مكان هذا الإنسان لقلت لنفسي: أنا إنسان، كائن كرمه الله على كثير ممن خلقه وفضله عليهم تفضيلا.
- الله أعطانى عقلا مميزا عن جميع الكائنات الأخرى على الأرض، وجعل لى سيطرة كاملة على رجلى التى تحملنى لبائع السجائر وعلى يدى التى تشترى السيجارة وتشعلها، وأعطانى إرادة قوية استطعت أن أصل بها إلى القمر فلا تزول قدمى أمام الله حتى أُسأَل عن مالى كيف كسبته وفيم أنفقته؟ فماذا سأقول: أنفقته على دخان نفثته فى الهواء بعدما يكون فعل بى الأفاعيل، لو كنت مكان الإنسان لقلت لنفسي، لماذا هذه الازدواجية، ألست أنا الذى أرفض العبودية والذل والخضوع، ألست أنا الذى أرفع شعار الحرية والتحرر من كل القيود المقيتة، ألست أنا الذى ضحيت بروحي، وعلى استعداد أن أضحى بها، وأضحى ببصرى وأنا غير نادم من أجل غيرى أن يعيش عزيزا، ولكى أشعر بإنسانيتى وآدميتى التى لا تقف طلباتها عند الماديات مثل المخلوقات الأخرى؟ فكيف أكون أنا نفسى سببا فى الأذى لهذا الغير؟! وكيف أكون أسير هذه الماديات فى أسوأ صورها؟! ولماذا تقصر نفس هذه المشاعر الإنسانية الراقية عن إدراك ما يمكن أن تعانيه أرملة معدمة تعول أيتاما لهم أعين لا تفوتها رؤية الفاكهة عند بائعها، وأنوفا لا تعجز أن تشم رائحة الأطعمة الممنوعة، أوعليهم أن يقنعوا بالنظرة الحسيرة إلى طفل مثلهم حملته أمه بكل ما أشار إليه أصبعه من أصناف وأسماء مبتكرة لأشكال من الأطعمة النافعة والضارة، بينما أنفق مالى على دخان فى الهواء.
- هل يعجز شعب ضحى الكثير من أفراده بنعمة البصر أن يضحى بنقمة السيجارة؟ تقول الهدف مختلف، كلا لو دققت ستجد أنه نفس الهدف، رفض العبودية والخضوع، من أجل مصلحة الوطن العامة وأفراده نعم الإصرار على التدخين يعنى أن هذا الإنسان قد أصبح عبدا للسيجارة أو للمتعة الزائفة المؤقتة للتدخين، وإلا فما هو التفسير المنطقى المعقول وراء الإصرار على سلوك ليس فيه فائدة واحدة، ولكن أضرارا من كل صنف ولون، ولماذا يحتاج نفس هذا الإنسان إلى مرض عضال يجبره على استجماع عزيمته للتخلص من هذه العبودية؟ لو كنت مكان هذا الإنسان لتفهمت حديث النبى عليه الصلاة والسلام: " فِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد". إن النبى كان يعطى محاضرة علمية عن كيفية اتقاء الأمراض المعدية الخطيرة، فليست هذه مهمته، ولكن يوجهنا توجيها دينيا رشيدا حكيما، يقول لنا إن صحة الإنسان أمانة فى عنقه، سيحاسب أمام الله إذا فرط فيها، وأن التوكل على الله لا يعنى ألا نأخذ بالأسباب فلا نتهاون فى وقاية أنفسنا، ولا نلقى بها إلى التهلكة، والعلم يخبرنا أن المدخن لا يؤذى نفسه فقط، ولكن وربما بصورة أسوأ كل المحيطين به أسرته، أطفاله، زملائه، مجالسيه، فهم يدخنون إجباريا معه، وعلى ذلك أنا لا أرى أن حال المدخن يختلف كثيرا عن حال المجذوم إلا فى أن الأخير غالبا لا ناقة له ولا جمل فيما ابتلاه الله به، بينما الأول هو الذى يصنع كل هذا بنفسه وبمن حوله.
- فكيف يقبل إنسان باختياره بدلا أن يكون مصدر سعادة وتيسير لهم، يكون مصدر إزعاج وتخوف، وضرر منتظر، وأن السلوك الرشيد المفترض من هؤلاء أن يبادروا بالفرار منه، لو كنت مكانه لقلت لماذا كل هذا الضعف والتخاذل، ماذا لو صممت، وعزمت وتوكلت على الله، وأقسمت على نفسى ألا استسلم، ألم ينجح الآلاف فى الانتصار على أنفسهم فلماذا أكون أقل قدرة من غيرى على استنفار قدراتى وإخراجها من مكامنها، نعم سأتعرض لبعض المتاعب ولكن أليست هذه الحياة كلها متاعب، أليست اختبارا لقدرتنا على مغالبة أنفسنا، هذه المتاعب أتوقعها جيدا فلماذا لا أستعد لها، وأرغم نفسى على تجاوزها، لو أخلصت لأمكننى أن أتحول من كائن شره للتدخين يشعل السيجارة من السيجارة، إلى إنسان سعيد بقوته وسيطرته على نفسه لا يكاد يطيق رائحة الدخان بل ويفر من المدخن. قلت فى بداية كلامى أنى سعيدة لأنى أملك كل هذا التأثير على الإنسان، ولكن فى الحقيقة أنا لست سعيدة؛ لأنه تأثير شديد السوء، ومع ذلك فأنا فى الحقيقة لست مسئولة عنه، المسئول هو الإنسان الذى يزرع ويصنع، ويستورد ويبيع ويشتري، ويشعل وينفث، أنا فى الحقيقة بريئة من هذه اللعنة، فليست لى أى إرادة فيما يفعله هؤلاء الآدميين بى وما أفعله بهم.