يبدو اقتصاد الجيش وكأنه مخزن أسرار يغري الكثيرين في الداخل والخارج علي الحديث عنه, وهو حديث اختلط فيه الحق بالباطل في الكثير من الأحيان لأنه ببساطة لا توجد معلومات دقيقة عنه,
ففي الغرب تسود معلومات مفادها أن اقتصاد الجيش يشكل40% من الاقتصاد المصري, وهو أمر مجافي للحقيقة تماما, ومصدر الخطأ أنه يحسب الأصول المملوكة للجيش كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي, في حين أن الأدق هو حساب تلك الأصول كنسبة من إجمالي الأصول الإنتاجية في الاقتصاد المصري, أو حساب ناتج اقتصاد الجيش كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقا لهذه الطريقة, فإن حصة اقتصاد الجيش وناتجه ستقل علي الأرجح عن5% من الاقتصاد المصري ومن ناتجه.
لكن المذهل أن مساعد وزير الدفاع للشئون المالية والمحاسبية عندما أراد أن يطرح رؤية المؤسسة العسكرية حول هذه القضية, قدم دفاعا لا يمكن قبوله لأنه في غاية الخطورة علي وحدة اقتصاد الدولة ووحدتها هي ذاتها وقواعد العدل فيها, فقد ذكر أن القوات المسلحة ستقاتل من أجل مشروعاتها الاقتصادية التي بذلت فيها جهودا كبيرة, ولن تتركها لأي شخص أو جهة لأنها عرق الجيش, ولن تترك اقتصادها للدولة حتي لا يخرب وكأن الجيش ليس جزءا من الدولة!! واعتبر أن من يقترب من مشروعات الجيش يقترب من الأمن القومي. وأشار إلي أن القوات المسلحة لا تحصل إلا علي4.2% من الإنفاق العام, وهي أقل من وزارة التربية والتعليمولذلك قررت الاكتفاء الذاتي من صناعات غذائية, وملابس للجنود, وغيرها من الاحتياجات وأكد أن الجيش ملتزم بدفع الضرائب.
والحقيقة أن حصة الجيش من الإنفاق العام منخفضة, وكانت في الموازنة العامة2012/2011, نحو25.5 مليار جنيه, أي نحو5.2% من إجمالي الإنفاق العام وحوالي1.6% من الناتج المحلي الإجمالي, ومع زيادة الإنفاق في عهد حكومة د. الجنزوري, دون زيادة في مخصصات الجيش تراجعت النسبة إلي المستوي الذي أشار إليه مساعد وزير الدفاع للشئون المالية. ووفقا للبنك الدولي فإن متوسط الإنفاق العسكري في العالم يبلغ نحو2.6% من الناتج العالمي, وبذلك فإن الإنفاق العسكري في مصر يعتبر بين الأقل عالميا, ويحتاج لرفعه للضعف, لأن دولة قائدة في إقليمها مثل مصر ينبغي أن تحقق التوازن الاستراتيجي علي الأقل مع الكيان الصهيوني المعادي الذي نشأ بالاغتصاب ويستمر بالبغي والعدوان, بكل ما يتطلبه ذلك من تمويل تطوير البنية الأساسية العسكرية وصناعة أو شراء أسلحة متطورة, وتقديم رواتب كريمة وعادلة لأبناء القوات المسلحة من الجنود للقيادة, والاستغناء عن المعونة الأمريكية المشبوهة التي تهدف لاختراق الأمن القومي وتبتغي إبقاء تسليح الجيش المصري أدني من نظيره الصهيوني, حتي تحقق هدفها المعلن بضمان تفوق الكيان الصهيوني عسكريا علي مصر والبلدان العربية.
لكن إيماننا بأن جيشنا هو درعنا التي ينبغي أن نضمن لها تسليحا متقدما وبرامج وطنية لتطوير الأسلحة ورواتب كريمة بكل ما يتطلبه ذلك من زيادة الإنفاق العسكري, هو أمر مختلف تماما عن مسألة وجود اقتصاد خاص بالجيش, لأن وجود مشروعات تخص أي وزارة هو منطق تفكيكي للدولة وظالم للشعب, إذ بنفس هذا المنطق يمكن لوزارة الزراعة أن تقوم باستصلاح الأراضي وزراعتها أو بيعها وإنشاء شركات لتربية وتسمين الماشية والطيور, والاحتفاظ بالحصيلة لنفسها, ونفس الأمر بالنسبة لوزارة الكهرباء التي يمكن أن تنشئ شركات لإنتاج الأسلاك والمحولات والمصابيح وتحتفظ لنفسها بالعائد من تلك المشروعات, وهكذا الأمر بالنسبة لباقي الوزارات, لتتمتع قيادات الوزارات وربما بعض العاملين فيها بمستويات دخول عالية تحققت من أصول الأمة من أموال وأراض وشركات ومن استخدام مجندي الأمة في العمل في مشروعات اقتصادية خاصة بالوزارة, كما في حالة شركات الجيش, وبما يخالف الهدف من تجنيدهم, بينما يظل الشعب في وضع أدني من زاوية الدخل ومستوي المعيشة, وهو خلل وظيفي وظلم اجتماعي فادح.
إن القواعد الراسخة لاقتصاد الدولة, هو أن يكون موحدا وتابعا للحكومة وليس إقطاعيات لكل وزارة, فوحدة القطاع العام للدولة وعودة العائد منه لوزارة المالية لتقوم هي بتوزيع المخصصات علي كل الوزارات, حسب الرؤية الكلية للاقتصاد والاحتياجات المتنوعة, هو أمر بديهي في أي دولة حديثة, وما عدا ذلك من السماح بوجود قطاع عام خصوصي لبعض الوزارات فهو منطق تفكيك الدولة, وهو جزء من فساد عصر مبارك.
أما القول بأن الاقتراب من اقتصاد الجيش هو اقتراب أو بمعني آخر مساس بالأمن القومي, فإنه أمر غريب وخارج المنطق, إذ ما هي علاقة إنتاج المياه والخضر والفاكهة والمكرونة ومحطات توزيع الوقود وتأجير صالات الأفراح بالأمن القومي؟! إن الحديث عن شركات التصنيع العسكري وبرامج إنتاج الأسلحة, هو وحده الذي يتعلق بالأمن القومي من زاوية نوع الأسلحة والبرامج, وليس من زاوية التصرفات المالية.
أما الحديث عن أن المشروعات الاقتصادية للجيش تدفع الضرائب للدولة, فإنه مجاف للحقيقة تماما, لأن قانون الضرائب يعفي مشروعات جهاز الخدمة الوطنية بوزارة الدفاع من الضرائب كلية.
والغريب أن ذلك الحديث تضمن الشكوي من أن مخصصات الجيش أقل من وزارة التربية والتعليم, رغم أن هذا أمر بديهي في كل الدنيا, فالإنفاق العالمي علي التعليم يبلغ في المتوسط4.5% من الناتج العالمي, ونحو18% من إجمالي الإنفاق العام العالمي. أما الإنفاق العسكري فإنه يبلغ نحو2.6% من الناتج العالمي, ونحو10% من إجمالي الإنفاق العام في العالم.
أما القول بأنه لن يتم ترك اقتصاد الجيش للدولة حتي لا يخرب, فإنه يعني الاستسلام لمنطق انتشار الفساد وسوء الإدارة في الجزء المكشوف من اقتصاد الدولة وهو اقتصادها المدني, بدلا من تبني خطة للإصلاح الشامل, وتطهير اقتصاد الدولة من القيادات الفاسدة وضعيفة الكفاءة من فلول النظام الفاسد للديكتاتور المخلوع مبارك. إن أي دستور يحترم قواعد وحدة القطاع العام للدولة ينبغي أن ينهي أي اقتصاد خاص بأي وزارة, وأن يضع القواعد لضمه فورا للقطاع العام, ونفس المنطق ينبغي أن يطبق علي الصناديق الخاصة حتي تكون هناك مالية عامة واحدة, فليس هناك أي منطق في أن تكون هناك دولة داخل الدولة من خلال اقتصاد وصناديق الوزارات والمؤسسات الذي هو علامة من علامات فساد عصر الديكتاتور المخلوع مبارك.
أحمد السيد النجار