تونس .. قرية الأحلام على بحيرة قارون إيلاف - فتحي الشيخ من القاهرة:في قرية تونس الجبل علي شاطيء بحيرة قارون بمحافظة الفيوم، ولد حلم من رحم اثنين من الشعراء وكانت بذرته الجمال البكر الذي سحرهم بتعويذته المكونة من تداخل ثلاث الوان الاخضر والازرق والاصفر مثلت الارض الخضراء والصحراء ومياه البحيرة المجاورة، الي جانب ما صبغته هذه الطبيعة الخالبة علي اهل المنطقة من طيبة وبساطة فطرية بهذا المناخ السحري ليبدأ الحلم ويتحول الي حقيقة، يصف الاديب عبده جبير هذا اللقاء قائلا كانت الصدفة هي البطل الذي جعل الابطال يلتقوا مع هذا المكان الساحر في عام 1963 جاء إلي المنطقة الشاعران عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب.. كان لديهما حلم ومشروع يعملا عليه وهو إعادة اكتشاف منابع الثروة اللغوية للمصريين خاصة في أغانيهم وأشعارهم العامية،جاء حجاب والأبنودي علي شواطيء بحيرة قارون بالفيوم بحثا عن مواويل القبائل العربية التي كان بعضها استقر هنا عندما جاءت هذه القبائل لتستقر في هذا المكان وبسبب قلة العمران فيه سمي المكان قرية تونس الجبل، ولعبت الصدفة لعبتها و حكمت علي الشاعران أن تكون تونس مستقرهم، هنا اكتشفوا أن الثروة المصرية الحقيقية، أرض بكر وسماء صافية ومياه قريبة.
كان كل شيء مادة خام حتي البشر، قرر الثلاثة في لحظة ثورية أن يؤسسوا وطنا للبهجة وللاحلام معا في تونس وقد كان، سعوا لشراء قطع من الأرض وأتوا بالعمال الذين دربهم حسن فتحي علي فنون عمارة الفقراء ليبنوا أول بيوت بالطوب اللبن في القرية علي الطراز النوبي، وهنا كانت صدفة اخري حيث كان المهندس حسن فتحي قد درب بعض ابناء القرية علي الاسلوب الذي يبني به المعتمد علي القباب اثناء بناء بيت لاحد سكان القرية.. في تلك اللحظة كانت تونس تتشكل وتتحول من منطقة معزولة إلي حلم داعب خيال المثقفين خاصة في فترة الستينيات.
كان اكتشاف حجاب والابنودي لهذا المكان العبقري مجرد بداية ليفد بعد علي المكان فنانون آخرون منهم الرسام والعازف والشاعر والكاتب الصحفي والدبلوماسي والنحات وصانع الفخار وفي صناعة الفخار تحديدا كانت هناك ايفلين زوجة سيد حجاب التي اتت معه الي المنطقة و قررت ان تفتح مدرسة لتعليم صناعة الفخار بها لتتعدد بها ورش صناعة الفخار والخزف بعد ذلك . محمد عبلة الفنان التشكيلي اتي الي تونس منذ 28 عام يصف البدايات قائلا انها كانت صعبة نظرا لافتقاد المنطقة الكثير من الخدمات ولكن كان سحر المكان قد تمكن منا لنتحمل هذه الظروف بل ونتحدها ويؤكد عبلة هذا بقوله يكفي ان تقضي هنا ليلة واحدة ليسحرك الليل هنا، يتذكر عبلة الأيام الأولي في تونس: «الحياة هنا كانت قاسية ومعظم الأراضي كانت عبارة عن أحجار وهضاب بالإضافة إلي قلة المياه، فنحن في آخر مراكز الفيوم يوسف الصديق التي تعاني من ندرة المياه.
يبتسم عبلة وهو يتذكر و يحكي لنا عن الأكل الذي كان متاحا خلال السنوات الأولي له في تونس، ويقول: «المش والبيض بالسمنة كانت الوجبة اليومية لنا.. ويوم الجمعة كان اليوم الوحيد الذي نأكل فيه الطبيخ باعتباره يوم السوق
لا ينكر الفنان التشكيلي فضل تونس عليه، فهي مصدر إلهامه، ونقاء طبيعتها علمه كيف تكون لوحاته واضحة الأفكار، ويقول: «بعد قدومي إلي هنا تحولت إلي البساطة الفنية وتخليت عن التعقيد.. هنا عشت تجربة أن تبدأ الحياة من الصفر.. تعبت كثيرا لكنني كلما نظرت إلي البحيرة أمامي أنسي أي مجهود أو تعب
وكان هناك اتفاق غير مكتوب بين الجميع أن يعتمد البناء علي خامات طبيعية، كانت خامات الأرض والطفلة هي الأساس، وخبرات عمال طيبين تدربوا علي نماذج عمارة الفقراء هي التصميم الرئيسي والوحيد. نشط العمال وعمل معهم المثقفون، وبدأ الأهالي يدركون أن شيئا ما يولد في هذا المكان فشاركوا في صنعه بمجهودهم وبالوقوف بجوار المثقفين الذين حلموا بان هذا مكان مثالي للاحلام .
و كما اثرت بساطة المكان علي الفنانين وعلي ابداعتهم كان لهم هم ايضا ثر كبير علي المكان تمثل في العديد من الورش التي يتم بها صناعة الفخار وزخرفته وكذلك علي وعي اهل المكان، في كتاب دوري تصدره جامعة كاليفورنيا حول العلماء الفطريين والاكتشافات الحديثة، كان صورة احمد سليمان احد ابناء القرية تحتل مكان في الكتاب بعد ان اكتشف ثلاث انواع من الطيور، من
بين 25 شابا دربتهم هيئة أجنبية مهتمة بشئون البيئة والحياة البرية استمر أحمد في مراقبة الطيور البرية الوافدة إلي شواطئ قرية تونس علي البحيرة. يقول أحمد عن نفسه: «مراقبة الطيور غية ودراستها علم وحبها منحة ربانية».
رحلة أحمد مع الطيور البرية ليست مجرد مهنة يتكسب منها لقمة عيشه، فالرجل يعتبر نفسه حامي حدود السماء المفتوحة وأحد عشاق الطيور بأنواعها المختلفة. حديثه في الغالب يدور عن الطيور، نسأله عن المستقبل، فيرد: «خايف علي المحمية من بنادق الصيد» نتحدث معه عن تونس فيتحول فجأة ليتابع طائراً بني اللون يحط بهدوء علي سلك كهرباء يعتبر مصدر طاقة نصف القرية علي الأقل. أحمد لا يحب الطيور فقط، بل يعتبرها جزءا من أسرته.. فيومه يبدأ معها، وينتهي بعد الاطمئنان إلي أن كل طائر قد استقر في عشه. هذه المتابعة اليومية جزء من عمل مراقب الطيور الشاب، فالسياح الذين يأتون إلي المكان بحثا عن طبيعة بكر وثروة برية لا تتكرر يجدون ضالتهم في خبير طيور شاب وهب حياته لمراقبة وإحصاء الطيور. في إحدي جولاته يكتشف أحمد 3 أنواع جديدة لطيور برية ويراسل أصدقاءه في أوروبا والولايات المتحدة مستفسر عن هذه الانواع ليكتشف الجميع انها انواع جديدة.
بعد مرور اكثر من ربع قرن كان الحلم قد كبر ليضم بين طياته احلام كل من شغفوا حب بالمكان وبالحلم لنجد علي ارض الواقع مدرسة لتعليم صناعة الفخار والاكاديمية الشتوية للفنون وانشطة زاد المسافر الفندق البيئي الذي افتتحه عبده جبير في تونس الي جانب انشطة لرصد وحماية الحياة البرية في المكان ليبقي محافظ علي خصوصيته الساحرة.