خطبة عن الفتنمعاشر المسلمين :
إن من المقرر في شريعتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصح لهذه الأمة وتركها على البيضاء فما من خير إلا دلّها عليه وما من شر إلا حذرها منه . ومن الشر الذي حذرها :
أن هذه الأمة في آخرها ستتعرض لطوفان من الفتن والإبتلاءات وألوانٍ من المحن والمدلهمات , فتنٌ من استشرف لها استشرفته وابتلعته , فتنٌ تحار فيها أناةُ الحلماء , وتطيش بسببها عقول العقلاء , وتضطرب معها قلوب ذوي الألباب ، فتنٌ تموج أعاصيرها موج البحار فتتغير فيها المفاهيم وتنقلب الحقائق فيشرعن للهوى , ويستخف بالدم ,ويتعملق الأقزام , وتنطق الرويبضة .
روى مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من صحابته في سفر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة فاجتمع الأصحاب حول الرسول صلى الله عليه وسلم فخطبهم خطبةً عظيمة كان مما قال فيها :
إنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها وتجئ فتنةٌ فيرقق بعضها بعضا وتجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجئ الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه .
وقال صلى الله عليه وسلم ( ستأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها على الخائن ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ، قيل وما الرويبضة ؟ قال : الرجلُ التافه يتكلم في أمر العامة ) . رواه الإمام أحمد وابن ماجه وهو حديث صحيح .
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج وهو القتل القتل ) .
وقال صلى الله عليه وسلم ( تكون فتنٌ على أبوابها دعاة إلى النار فإنْ تموت وأنت عاضٌ على جِذْلِ شجرةٍ خير لك من أن تتبع أحداً منهم ) رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح
إخوة الإيمان :
إن الخوف من الفتن وردها والتحذير من ويلاتها سنةٌ سابقةٌ لسادات هذه الأمة وسلفها الصالح ، روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التربَ يوم الخندق حتى اغبـَّر بطنه وهو يقــــول :
والله لولا الله ما اهتدينــا ... ولا تصدقنا ولا صلينــا
فأنزلنْ سكينــةً علينــا ... وثبت الأقدام إن لاقينــا
إن الأُولى قـد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينـــا
ويرفع بها صوته : أبينا أبينا .
وها هو الخبير بشأن الفتن وأبوابها حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : إياكم والفتن لا يشخص إليها أحدٌ إلا نسفته كما ينسف السيل الدِمْـن .
عباد الله :
إن الحديث عن الفتن وتوصيفها ليتأكد في هذا العصر الذي ماجت فيه الفتن من كل صوب حتى غدا كثيرٌ من الناس ـ إلا من رحم ربي ـ حيال هذه الفتن كالورق اليابس تصرِّمهم رياح الشهوات وأعاصير الشبهات يمنةً ويسرة فضــلاً عن الفتن العظام التي حلت بالأمة من ضرب الذل عليها وتدنيس مقدساتها على يدِ أنذل الخلق وأجبن الخليقة ناهيكم عن تمالئ عباد الصليب مع أحفاد المجوس على عراق الإسلام ولا زالت حلقاتُ كيد الأعداء ومكرهم الكبُّـار مستمرةٌ في كثير من البلدان الإسلامية , يبغون فيهم الفتنة والتبعية والذل والصغار ,, فمعرفة هذه الفتن وحقيقتها ، والعلم بها وفقه الخلاص منها مطلب شرعي لأهل الإيمان . وفي المقابل فإن الغفلة عن أبواب الفتن ربما كان سبباً في السقوط فيها والسعي إليها .
ومع هذه البلايا وتلك الفتن نذكر ببعض المعالم المهمة التي ينبغي أن لا تغيب عنا مع لهيب المحن .
أولاً :
أن هذه الفتن جزءٌ من سنن الله تعالى التي قدرها على عباده من أمة محمد وممن قبل أمة محمد ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) .
وإذا كان أمر الفتن واقعٌ قدراً لا محالة فإن الاستعداد لها بالعلم والعمل مطلب شرعي بالعلم حتى يعرف المسلم صور الفتن وأبوابها لئلا يسقط فيها مع المبادرة بالعمل قبل أن تغشى الفتن .
يقول عليه الصلاة والسلام : (بادروا بالأعمال ستاً:طلوع الشمس من مغربها أو الدُّخانَ أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمرَ العامة)رواه مسلم في صحيحه .
ولذا فإن الذين يثبتون في الفتن هم أصحاب الأرصدة السابقة من الأعمال الصالحة ، وتأمل معي قول عائشة رضي الله عنها في فتنة حادثة الأفك لما قالت عن زينب بنت جحش : ( أما زينب فعصمها الله بالتقوى وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك ) .
وما نُجيَ يوسف عليه السلام من أعظم فتنة ؛ فتنة النساء إلا لِما معه من درجات التقوى والإيمان السابق الذي عصمه من تلك الفتنة ( كذلك لنصرف عن السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )
ثانياً :
أن هذه الفتن المتنوعة قد جعل لها أسباباً فوجود السبب مؤذنٌ بوجود الفتنة وسبب كثير من هذه الفتن هو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى : \" فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليــــم \" .
ومن مأثور أقوال الفاروق : أنه ما نزل بلاء إلا بذنب . وأصدق منه قول المولى جل وعلا ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)
فواجب على الأمة أن رامت كشف الفتنة وقشع الغمة أن ترجع منهاج النبوة وأن تمتثل أمر نبيها على مستوى العامة والخاصة ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً وأشد تثبيتاً ) .
ثالثاً :
إن هذه الفتن والبلايا إنما هي في الحقيقة امتحان من الله لعباده ، ففي الضراء والمحن , ومع طنين الشهوات ورنين الشبهات تمتحن معادن القلوب فيتكشف للجميع القلوب المؤمنة من القلوب التي فيها مرض ولذا عقب الله آية اليلاء بقوله ( وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) .
ففي الفتن تمتحن المشاعر والعواطف فهذا بارد الإحساس عديم المشاعر وآخر مشاعره متوهجة وعاطفته تغلي غيرة على الدين ، وفي الفتن تمتحن الألسن على الصدق والكذب والتثبيت مما ينقل ويقال أو الإسراع في القيل والقال وهل يتكلم اللسان بالعدل والإنصاف أم بالهوى والإجحاف ، تمتحن الألسن في النطق بالحق والسكوت على الباطل فربما صدع اللسان بالحق فكان أعظم الجهاد وربما توارى عن كشف الباطل فكان شيطاناً صامتاً .
وصدق الله :
\" ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب \"
رابعاً : من المعالم التي تبرز في الفتن .
أن هذه الفتن بحسب قوتها تحدث انقلاباتٍ كبرى في عقائد الناس وفي أفكارهم ومواقفهم .
ففي الفتن تبرز الردة , وتميع القضايا الثابتة , ويرخص أمر الدين , وتتغير المسلَّمات ، وهذا ما صوره لنا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله ( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل ) رواه مسلم في صحيحه.
فإذا كانت العقائد تتغير في الفتن فدونها من باب أولى كتغير المرء من السنة إلى البدعة أو من الهداية إلى الضلالة أو من سلامة الفكر إلى الولوغ في الفكر المنحرف إما جفاء أو غلـــو .
ولذا فإن من الأمور المهمة أيام الفتن التأكيد على قضية التوحيد ، والسعي على تثبيت العباد على الهدى والدين وتوعية الناس بسبيل المبطلين المشككين في ثوابت الأمة أو المستهترين بشعائر الدين مع التذكير على قضية الزهد في الدنيا وأن ما عند الله خير وأبقى .
خامساً : ومما يقال في قضية الفتن .
أن الفتن تختلف من مكان لآخر ، فبعض البقاع أكثر فتناً وأشد محناً فقد جاءت السنة النبوية مبينة بياناً واضحاً أن الفتن تظهر بشدة من جهة المشرق ثبــت في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول:\"ألا إن الفتنة هاهنا ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرنُ الشيطان \" .
ووقع مصداق ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فجاءت الفتن والويلات على الأمة الإسلامية من جهة المشرق فقتل الفاروق على يدِ رجلٌ من المجوس من الفرس ثم جاء خوارج أهل العراق فألبوا على الخليفة عثمان حتى انتهى أمرهم على سفك دمه وأحدثوا شراً عميقاً في الأمة لا تزال آثاره إلى يومنا هذا .
وهل ظهرت الشيعة والخوارج والقدرية والجهمية وباقي الفرق الضالة إلا من جهة المشرق .
أما القتل والدمار فأعظمه على الأمة كان من جهة المشرق ولا يزال المشرق منبعاً لتصوير الأفكار الضالة والمعتقدات البدعية كالبهائية والقاديانية والشيوعية وها هم الرافضة اليوم يحاولون ابتلاع العالم الإسلامي وتصدير الثورة المزعومة عن طريق المشرق .
وإذا علم أن الفتن تهيج أكثر من المشرق كان لزاماً على أهل الإسلام بذل الجهد المضاعف في الدعوة هناك تعليماً وتقويماً وإحياء للسنة وترشيداً مع نصرتهم والوقوف معهم في محنهم النازلة وجراحاتهم النازفة .
وفي الحديث الصحيح :
( انصر أخاك طالماً أو مظلوماً )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين
واستغفر الله العظيم ،،
الخطبة الثانيةالحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اجتبى . أما بعد :-
فيا عباد الله :
ومن علامات السعادة وأسباب الفلاح أن يسلم العبد من الفتن ، ومن نجا من الفتنة في زمانها فقد نجا من عظيمه ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( إن السعيد لمن جُـنِّب الفتن .. قالها ثلاثاً ) رواه أبو داوود وهو حديث صحيح .
ولذا كان عليه الصلاة والسلام وهو المؤيد من ربه دائماً ما يستعيذ من الفتن فكان يقول في صلاته قبل أن يسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا ) .
ومن مأثور دعائه
نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ) .
وسأل ربه قائلاً : وإذا أردت بعبادى فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين . فما أحوج العبد المسلم أن يجأر إلى ربه بمثل هذه الدعوات ، علّ رحمةً من ربه تصيبه فيجنبه من ظلمات الفتن ، أو يسلِّمـــه منها إذا اشتد تمحيصها .
أخوة الإيمان :
وإذا أظلت الفتنة وادلهمت الخطوب على الأمة وازداد اشتباك المصائب فالواجب الفزع إلى الله تعالى والانكسار بين يديه وإعلان التوبة الصادقة يقول
الله عز وجل حاثاً على التوبة زمن الفتنة والبأس ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعــــوا ) .
وذم سبحانه وتعالى أقواماً لا يتوبون عند نزول الفتن والمدلهمات فقال عن المنافقين : ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرةً أو مرتين ثم لا يتوبـــون ولا هم يذكرون ) .
ومما يستعان به في زمن الفتن ويكون تسليةً لأهل الإيمان مع صدمات المحن : التحلي بالصبــر والمصابرة لأن هذه الفتن جزءٌ من أقدار الله المؤلمة والله عز وجل قد جعل الصبر مع التقوى جزءٌ متين يتقي به المؤمن أنواع البلاء ، قال تعالى ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتـــاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) .
قال عليه الصلاة والسلام : ( إنَّ من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم ، قالوا : يا بني الله أومنهم قال : بـــل منكـــم ) رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني بشواهده .
أيها المسلمون :
إنكار القلب للفتن وبغضها برهانٌ على صحة الطريق وسلامة القلب لله فيحفظ الله لعبده بعد ذلك دينه وقلبه فلا تهزه فتنة ولا تعصف به محنة يقـول صلى الله عليه وسلم : ( تعرض الفتن على القلب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب انكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على ابيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ... الحديث ) . خرجه مسلم في صحيحه .
أيها المسلمون :
الكتاب والسنة هما سفينة النجاة من الغرق في بحار الفتن ففيها العصمة لمن اعتصم وفيهما الثبات لمن ثبت عليها يقول تعالى \" فمن اتبع هداي فلا يضـــل ولا يشقــى \" ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مودعاً أمته : \"وقد تركت فيكم ما إن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتــــاب الله ... \" رواه مسلم في صحيح .
واعلم الناس بنور الوحيين ومقاصد الشرع هم علماء الأمة فالرجوع إليهم والأخذ عن رأيهم هو صمام أمان من السقوط في الفتن بعد توفيق الله تعالى .
* ومن أسباب النجاة من الفتن التي دل عليها الشرع لزوم جماعة المسلميــن
والحرص على بقاء الجماعة ونبذ الفرقة مع إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصيحة ، وتصويب الخطأ ، وتقويم المعوج .
إخوة الإيمان :
العمل الصالح زمن الفتن له مزيِّـة وفضل على غيره قال صلى الله عليه وسلــم ( العبادة في الهرج كهجرة إليّ ) خرجه مسلم من حديث معقل بن يسار .
فضلاً عن أن دفاع الله عن الأمة ورد كيد أعدائها إنما يكون بقدر عبوديتهم وإيمانهم ، ولذا كان السلف يقولون : على قدر العبودية تكون الكفاية .
ومن الواجبات المنوطة بأهل العلم ورجالات التربية والتأثير بثُ الطمأنينة في قلوب الناس ، وإحياء روح التفاؤل وتبشيرهم بوعد الله ونصره ، وإيضاح شروط تنزّل هذا الوعد من آيات القرآن وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام مع ربطهم بالتاريخ والمحن التي مرّ بها المسلمون لترتفع بذلك المعنويات وتزداد الفاعلية وتزول النظرة السوداوية لواقع الأمة الإسلامية .
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون واحرصوا على ثبيت الإيمان في قلوبكم واحذروا من الفتن ومضلاتها اعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
هذا وصلوا وسلموا على الناصح لأمته المشفق عليهم من الفتن صلى الله عليه وسلم
منقولة