المرحلة الثالثة: المرحلة الأبجدية
1-النشأة:
المرحلة الثالثة والأخيرة من تاريخ الكتابة هي المرحلة الأبجدية التي سميت هكذا نسبة إلى ترتيب الحروف في الأبجدية السامية الأولى وهي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ، وهو الترتيب الذي غيره في العربية أبو الأسود الدؤلي عند تنقيط الحروف إلى الترتيب الحالي الذي يقال فيه أيضاً إن الخليل بن أحمد هو الذي صنع ذلك.
كانت النظرية السائدة أن الأبجدية اشتقت من رسوم الكتابة الهيروغليفية في منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد، إلا أن اكتشاف أبجدية أقدم منها بخمسة قرون، وهي الأبجدية الأوغاريتية، التي تستعمل أشكالاً مسمارية لا علاقة لها بصور الكتابة الهيروغليفية، ألغى هذا الرأي تماماً. فالأوغاريتيون استوحوا أشكال أبجديتهم الأوغاريتية، التي تحتوي على كل الأصوات السامية القديمة (وهي ثمانية/تسعة وعشرون صوتاً)، من الكتابة المسمارية، ولكننا لا نعرف على وجه التحديد كيف اختزلوا الكتابة المقطعية إلى الكتابة الأبجدية، بينما ننستطيع أن نتايع ذلك الاختزال في الأبجدية الفينيقية، حيث قام الفينيقيون باستعمال الصور الدالة على مسميات بعينها (مثلاً: صورة الثور للدلالة على الثور؛ صورة العين للدلالة على العين؛ صورة المربع للدلالة على البيت؛ صورة الموج للدلالة على الماء وهلم جراً) ليس للدلالة على تلك المسميات، بل للدلالة على الأصوات الأولى لتلك المسميات كما سيتضح أدناه.
يسمى "الثور" في اللغة السامية الأم: /أَلِفٌ/ ـ بلفظ التنوين تَمِّيماً ـ و"البيت": /بَيْتٌ/ و"العين": /عَيْنٌ/ وهلم جراً.
في بداية القرن الخامس عشر قبل الميلاد بدأ الفينيقيون باستعمال الرمز الدال على "الثور" ـ وهو رأس ثور مثلث الشكل بقَرنَيْن وعينَيْن ـ ليس للدلالة على على كلمة /ألفٌ/، بل للدلالة على الصوت الأول من كلمة /ألفٌ/ فقط، وهو حرف الألف. ثم استعملوا الرمز الدال على "البيت" ـ وهو مربع ـ ليس للدلالة على على كلمة /بيتٌ/، بل للدلالة على الصوت الأول من كلمة /بيتٌ/ فقط، وهو حرف الباء. ثم استعملوا الرمز الدال على "العين" ـ وهو صورة العين ـ ليس للدلالة على على كلمة /عَينٌ/، بل للدلالة على الصوت الأول من كلمة /عَينٌ/ فقط، وهو حرف العين، وهكذا دواليك حتى أتوا على أصوات لغتهم، وهي اثنان وعشرون صوتاً فقط.
ثم رتب الفينيقيون الأبجدية مبتدئين بحرف الألف ثم الباء ثم الجيم ثم الدال إلى آخر ترتيب أبجد هوز. ونحن لا ندري بالضبط لم رتبوا أبجديتهم هكذا، أي لم بدؤوا بالألف ولم يبدؤوا بغيره؟ وقد يكون لذلك علاقة بالمعتقدات الدينية لقدامى الكنعانيين حيث كان الثور يرمز عندهم إلى كبير آلهتهم بعل. وقد يعني "البيت" للساميين ذوي الأصول البدوية لا شيء أكثر من "المعبد" الذي يعبد فيه إلههم، ولكن هذه مجرد تكهنات.
ثم أخذ الإغريق في أوائل الألف الأول قبل الميلاد الكتابة عن الفينيقيين وحاولوا كتابة لغتهم فيها إلا أنهم اكتشفوا أن الأبجدية الفينيقية لا تحتوي على كل الأصوات اليونانية من جهة (خصوصاً الحركات)، وأنها تحتوي على أصوات غير موجودة في اللغة اليونانية مثل حروف الحلق من جهة أخرى. فاستعمل اليونانيون حروف الحلق للدلالة على الأحرف الصائتة في اليونانية لأن الأبجديات السامية لم تكن تحتوي على أحرف صاتة فيها، فاستعمل اليونان حرف العين الفينيقي للدلالة على الـ o، والحاء للدلالة حلى حرف الإيتا (وهيئته في اليونانية: η وهو مثل حرف الـ i ولكنه أكثر مداً منه) وهلم جراً. ثم أسمى اليونانيون نظام الكتابة التي أخذوها عن الفينيقيين بـ αλφαβετα = Alfabeta والسبب في ذلك قانون صوتي في اليونانية يحول دون انتهاء الكلمة اليونانية بالفاء فأضافو إلى "ألف" فتحة وألحقوها بالباء أيضاً لتصبح "ألفابيتا" كما رأينا، وهي "الألفباء" في العربية. أما الـ Abecedarium في اللاتينية، فهي ترجمة حرفية لـ "أبجدية".
وأخيراً أشير إلى أن الأبجديات السامية لا تحتوي إلا على حروف ساكنة، لثلاثة منها ـ وهي الألف والواو والياء ـ استعمالان اثنان الأول هو استعمالها أحرفاً ساكنة والثاني هو استعمالها أحرف مد للدلالة على الحركات الطويلة. وهذا يعني أن للغة السامية الأم ثلاث حركات فقط ترد قصيرة ويعبر عنها بالفتح والضم والكسر، وطويلة ويعبر عنها بالألف والواو والياء. والعلة في عدم ورود الحركات القصيرة على شكل أحرف كما هو الحال عليه بالنسبة إلى حروف المد، هو القاعدة السامية العامة التي تحول دون ابتداء كلمة سامية بحركة أو بحرف ساكن. وإذا عرفنا أن الأبجدية السامية اشتقت من الأصوات الأولى لكلمات سامية بعينها كما أبنت أعلاه، فهمنا جيداً السبب في عدم احتواء الأبجديات السامية حروفاً تدل على الحركات الثلاث القصيرة لأن ذلك غير موجود في كلامهم.
2- الأبجديات السامية حسب الترتيب الزمن:
الأبجدية الأوغاريتية:
هي أقدم كتابة أبجدية سامية ظهرت إلى الوجود بداية الألفية الثانية قبل الميلاد غربي سورية. اشتق الأوغاريتيون أشكال أبجديتهم من الكتابة المسمارية. ويتعتقد اعتقادا قوياً أن الأوغاريتيين كانوا عرباً.
هيئة الأبجدية الأوغاريتية، وفيها جميع الأصوات الموجودة في العربية:
خط المسند:
لا ندري على وجه التحديد متى تم وضع خط المسند، ولا يعرف شيئاً عن مراحل تطوره، ويعتقد أنه أقدم كتابة أبجدية سامية على الإطلاق. فهو أقدم من الأبجدية السينائية (1500 ق.م.)، وقد يكون أقدم من الأبجدية الأوغاريتية (2000 ق.م.). وفي الواقع هنالك اختلاف شديد بين مؤرخي الأبجديات بخصوص تاريخ خط المسند. زد على ذلك أن هنالك لغزاً محيطاً بهذا الخط هو عدم تشابهه مع أي من الكتابات القديمة باستثناء تشابه جيمه مع الجيم في الأبجدية اليونانية /Γ/. فنحن نستطيع أن نتابع تطور الكتابة الفينيقية، المشتقة من الكتابة الهيروغليفية، ولكنا لا نستطيع ربط خط المسند بأي من الكتابات القديمة. ولخط المسند شكلان: الشكل القديم والجديد:
الشكل القديم لخط المسند (2000 ق.م.؟):
الشكل الجديد (السبئي) لخط المسند: (600 ق.م.):
الأبجدية الفينيقية:
اشتقت الأبجدية الفينيقية من الكتابة المصرية القديمة، الهيروغليفية، اشتقها الفينيقيون وطوروها في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
ويعتقد عالم الآثار اليهودي أولبرايت أن الذين طوروا الأبجدية الفينيقية بناء على الصور الهيروغليفية كانوا "عبيداً ساميين" كان الفراعنة استعبدوهم واستخدموهم في مناجم صحراء سيناء، وذلك دون تحديد هويتهم لأن ذلك غير ممكن. وربما أراد أوابرايت نسبة اختراع الأبجدية الفينيقية إلى اليهود بربط ذلك برواية الخروج من مصر التوراتية. ومهما يكن، إن اكتشاف الأبجدية الأوغاريتية في غرب سورية ـ وهي أقدم من الفينيقية ـ أفسد على أولبرايت فكرته التي لم يأخذ بها أحد من علماء الساميات وتاريخ الكتابة.
تتكون الأبجدية الفينيقية، شأنها في ذلك شأن الأبجديات الكنعانية، من اثنين وعشرين حرفاً فقط، بعكس الأبجدية العربية والسبئية والأوغاريتية التي تتكون من ثمانية/تسعة وعشرين حرفاً تحتوي على جميع الأصوات السامية الأصلية.
هيئة الكتابة الفينيقية:
الأبجدية الآرامية:
اشتقت الأبجدية الفينيقية من الأبجدية الفينيقية، اشتقها الآراميون وطوروها في القرن العاشر عشر قبل الميلاد.
ومن الجدير بالذكر أن الأبجدية الآرامية القديمة انتشرت انتشاراً كبيراً الشام والعراق (بعد سقوط الدولة الآشورية في القرن السادس ق.م.) واستعملها أقوام كثيرة لذلك يختلط الأمر على غير المتخصصين بشأن تسميتها.
هيئة الكتابة الآرامية القديمة:
وأول من استعملها هم أصحابها الآراميون، ثم أخذها عنهم السامريون في القرن الثامن قبل الميلاد وعدلوها تعديلاً طفيفاً ودونوا فيها بعض نقوشهم القديمة، لذلك تسمى هذه الأبجدية أحيانا بالأبجدية السامرية وهذه التسمية غير دقيقة. ثم استعمل العبران في القرن الثامن قبل الميلاد أيضاً هذه الأبجدية الآرامية/السامرية ودونوا فيها بعض نقوشهم القديمة، لذلك تسمى هذه الأبجدية أحيانا بالأبجدية العبرية القديمة، وهذه التسمية غير دقيقة أيضاً. فهذه الأبجدية التي استعملها الآراميون والسامريون والعبران هي الأبجدية الآرامية القديمة.
هيئة الكتابة السامرية:
الأبجدية الآرامية المربعة:
تعرف هذه الأبجدية بالكتابة اليهودية أو الكتابة المربعة نظراً لأشكال حروفها التي تشبه كثيراً المربعات المجردة. أما اليوم فتسمى بالكتابة العبرية أو اليهودية لأنها كتابة اليهود.
لم يطور اليهود أبجدية مخصوصة بهم بل أخذوا عن الآراميين كتابتهم ودونوا فيها ـ ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد ـ أسفار العهد القديم (800 – 500 ق.م.) ثم المشناة (القرن الميلادي الأول) ثم التلمودين البابلي والمقدسي (القرن الثاني حتى السادس الميلادي).
تتكون الأبجدية العبرية ـ شأنها في ذلك شأن كل الأبجديات الشمالية الغربية ماعدا الأوغاريتية ـ من اثنين وعشرين حرفاً فقط كلها حروف صامتة. استعار اليهود والسريان عن العرب نظامَيْ الإعجام والحركات وضبطوا بهما أصوات لغتهم في القرن التاسع الميلادي. ولهذه الكتابة ثلاثة خطوط متباينة:
الخط المربع المستعمل في الطباعة فقط، وهيئته:
خط اليد ويستعمل في الكتابة اليدوية فقط (مثل الرقعة عندنا) وهيئته:
خط الحبر راشي الذي استعمله في تدوين تعليقاته وشروحه على أسفار العهد القديم، وهيئته: