الدكتور محمد ربيع: مستقبل نظام السوق الحرتسببت أزمة أسواق العقار والبنوك الأمريكية التي بدأت في عامي 2007 و2008 على التوالي في دخول الاقتصاد الأمريكي في أزمة طاحنة، وانكشاف هشاشة البنوك الأوروبية والأمريكية، وتبلور أبعاد أزمة الديون الأوروبية.
وفي ضوء تواصل تلك الأزمات وما تركته من آثار سلبية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في أمريكا وأوروبا، ومنها ارتفاع معدلات البطالة، واتساع دائرة الفقر، وتزايد حالات الإفلاس الشخصية والتشرد، وتراجع الاستثمارات ومعدلات النمو الاقتصادي، فإن الأزمة اكتسبت اسم "الكساد الكبير".
وبعد مرور 4 سنوات على أزمة سوق العقار وأكثر من 3 سنوات على أزمة البنوك، لا تزال الأزمة الاقتصادية مستمرة وأزمة الديون الأوروبية تزداد تعقيدا واتساعا يوما بعد يوم.
جاء رد فعل الحكومة الأمريكية وحكومات بعض الدول الأخرى على تلك الأزمات مباشرا، ما قادها إلى العمل في اتجاهين متكاملين: انقاذ البنوك من خطر الانهيار، والتوسع في الانفاق وخفض الضرائب بهدف تنشيط الاقتصاديات الوطنية. كما قامت البنوك المركزية بخفض نسب الفائدة على القروض بهدف تشجيع الشركات على الاستثمار والمستهلكين على الانفاق، والإسهام في تنشيط الاقتصاد.
وفيما يمكن القول أن هذه السياسات ساعدت على إعادة بعض الثقة لأسواق المال ووقف عملية التدهور في معدلات النمو الاقتصادي، إلا أنها لم تستطع حل مشكلة واحدة من المشاكل التي رافقت وقوع الأزمات أو تبعتها، بل قادت إلى تعرية مشكلة العجز الكبير في ميزانية الحكومة الفدرالية الأمريكية ومعظم الحكومات الأوروبية، والتوجه نحو لومها والإدعاء بأنها سبب الأزمات والمشاكل.
نتيجة لهذا التطور في رؤية الأزمة وأسبابها، ارتفعت الأصوات المحافظة في أمريكا وأوروبا مطالبة بخفض العجز في الميزانيات الحكومية باعتباره المدخل لحل المشاكل، والأداة الأقدر على إعادة هيكلة الاقتصاديات الوطنية ووضعها مجددا على طريق النمو والازدهار.
ومع أنه لا يوجد دليل على صحة هذه الإدعاءات، إلا أن فشل الحكومات في بلورة سياسة بديلة من ناحية، ونجاح القوى المحافظة في الاستيلاء على مجلس النواب الأمريكي والسلطة في بريطانيا من ناحية ثانية، جعل خفض العجز في الميزانية يغدو الحل السحري الذي يتطلع إليه الحكام، والدواء المر الذي تتتظره الشعوب. وبسرعة، أقرت الحكومات على جانبي الأطلسي سياسات تقشفية تقوم أساسا على خفض المعونات للفقراء، وإعادة النظر في برامج التأمين الصحي والتأمينات الاجتماعية، وخفض ميزانيات المدارس، ورفع الرسوم على الدراسة في الجامعات الرسمية، ما أدى إلى شيوع الاضرابات ووقوع صدامات بين البوليس ومتظاهرين في عدة مدن أوروبية وأمريكية.
ولما كانت الفلسفة الرأسمالية هي أحد مكونات نظام حياة الشعوب الغربية عامة، وأن نظام السوق الحر تفرع عن تلك الفلسفة، فإن دراسة علاقة ذلك النظام بالأزمة لم تحظى بعناية. وفي الواقع، أثبتت أزمة العقار والمال أن نموذج الإدارة المستند إلى فلسفة التنظيم الذاتي للأسواق غير كفء وغير عادل. وحيث أن كل نظام غير كفء وغير عادل لا يخدم قضية، فإن نظام السوق الحر ليس صالحا وليس في مقدوره أن يعمر طويلا. إذ فيما تسبب في فقدان ملايين العمال وظائفهم وتدمير حياة عشرات الملايين من الفقراء حول العالم، تاركا العديد منهم بلا عمل أو أمل، أدى إلى توسعة فجوتي الدخل والثروة بين الطبقات الاجتماعية والدول، وتقويض القاعدة الصناعية لبعضها مثل أمريكا وبريطانيا.
يشير التاريخ إلى أن الأزمات الاقتصادية حين تطول، تتحول إلى أزمات اجتماعية تتطور إلى ثورات شعبية تطيح بالنخب السياسية والاقتصادية، وتعيد تشكيل نظم الحياة على اسس جديدة. فهل ستؤدي هذه الأزمة إلى الاطاحة بنظام السوق الحر وتحرير فقراء العالم من استغلال أثريائه؟
مع تفاقم مشاكل الفقر والبطالة وأزمة الديون الأوروبية والعجز في الميزانيات الحكومية، واتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية، وضعف الأمل في حدوث تغير ملحوظ في المستقبل القريب، إلا أنني لا أتوقع سقوط نظام السوق الحر قريبا. فالأزمات المجتمعية تدفع عامة الناس أولا نحو الماضي وليس نحو المستقبل، نحو الالتفاف حول التيارات الثقافية المحافظة والفلسفات القديمة التي لعبت دورا ايجابيا في حياة الناس سابقا، وإن كان الزمن قد تجاوزها.
ولما كانت الرأسمالية تشكل مع الديمقراطية فلسفة الحياة الغربية، فإن التغير المنتظر سيأتي على حساب الرأسمالية والديمقراطية معا، ما يجعل من الصعب أن يتخيل الناس حدوث مثل هذا التطور، ومن الأصعب أن يتخيلوا أنفسهم مشاركين في إحداثه.
ومع أنه ليس هناك عيب في رأسمالية ذات وجه إنساني كنظام إنتاج وإدارة اقتصادية، إلا أن السوق الحر قام باختطاف الرأسمالية قبل حوالي 30 سنة، واحتكار العمل باسمها فيما كان يقوم بتدمير روحها الإنتاجية وما لها من مسحة إنسانية. وهذا فتح المجال لقيام المال بشراء ضمائر السياسيين وربطهم بحباله بروابط مصلحية وتقويض العملية الديمقراطية، فيما كان الإعلام يقوم بتزييف وعي الجماهير وقيادتها إلى السكوت على قيام نخبة صغيرة بمصادرة إرادتها، ما جعل العملية الديمقراطة تفقد قدرتها على تغيير القيادات الفاشلة وتصحيح الأخطاء.
وفي سبيل تكريس الأمر الواقع وتفتيت الجماهير، قام الإعلام بالتعاون مع التيارات اليمينية بجر عامة الناس إلى براثن الجهل وعهود التفرقة العنصرية ولوم الآخر. وهذا يعني أن التيارات التقدمية التي تطرح فكرا بديلا وتسعى لخلق مجتمع جديد يعمه السلم، وتأسيس نظام إدارة اقتصادية يجمع بين الكفاءة والعدالة لن يكتب لها النصر قريبا. لذلك، أتوقع أن تسير الأمور من سيء إلى أسوأ، وأن يمر العالم بأزمة اقتصادية كبيرة تأتي في أعقاب فشل سياسة التقشف قبل أن تتجه الجماهير إلى البحث عن بديل وتبدأ في الارتياح لفكرة التضامن العالمي ضد الظلم والفقر والجهل، ومن أجل تحقيق عدالة اجتماعية لا تستثني أحدا.