أيها المبتلى لا تحزن
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, وبعد:
إنّ من حكم الله الباهرة, وسننه الماضية, أن جعل الدنيا دار بلاء, فمازج بين حلوها ومرّها, بين فرحها وشقائها, لحكمة أرادها.
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
وعليه فهذه وقفات مع ما يعايشه ويكابده كثيراً منا في حياته ومعاشه, من آهات وآلام, حسيّة ومعنويّة, يذرف لها الدمع, ويكتوي بها القلب, وتتفطر بها الأكباد.
1- لا بد للعبد أن يستشعر حِكَم الابتلاء وعاقبته, وفوائده:
حتى يكون من الثابتين الصادقين, قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
وقال أيضاً: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}.
إذا الحكمة من الابتلاء هي تمحيص الصادقين من الكاذبين.
فإذا استحضر العبد هذه الحكمة كان ذلك دافعاً له على الثبات زمن المحن.
- ومن حكم الابتلاء أيضاً: تمحيص الذنوب, والخطيئات, حتى يقدم العبد على ربه طاهراً نقياً, فالعبد إذ أخذ بالذنب في دنياه كان ذلك من رحمة الله به, قبل أن يعرض على ربه, في يوم لا درهم فيه ولا دينار إنما الحساب بالحسنات والسيئات.
فعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" (رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا والترمذي وقال : حديث حسن صحيح).
وفي صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها".
- ومن حكم الابتلاء: رفع درجات العبد يوم القيامة.
2- لا بد للعبد أن ينظر في أخبار الأخيار من سلفنا الصالح, كيف عانوا شظف العيش, واكتووا بقلة ذات اليد رغم ذلك صبروا واحتسبوا.
بل كان الواحد منهم يعدّ الابتلاء والمصائب من جملة النعم.
فعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: "رأيت في يد محمد بن واسع قرحة, قال: فكأنه رأى ما شقَّ عليّ منها, فقال: أتدري ماذا لله تعالى عليّ من هذه القرحة من نعمة ؟ فأُسْكِتُّ, قال: إذ لم يجعلها على حدقتي, ولا على طرف لساني, ولا على طرف ذَكَري, فهانت عليَّ قرحته"] رواه ابن أبي الدنيا في الشكر [.
وقال أبو حازم رحمه الله: "نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا, أعظم من نعمته عليَّ فيما أعطاني منها, إني رأيته أعطاها قوماً فهلكوا" "] رواه أبو نعيم في الحلية [..
3- ليعلم العبد أنّ ما يلحقه من ضيق وتضييق إنما هو بسب غربة هذا الدين في هذا الزمن, وطوب للغرباء في زمن الغربة.
فلا بد للعبد أن يعتزّ بانتمائه للغرباء, لأنّ حبل النحاة موصول إليهم.
كما جاء في الحديث الصحيح: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء" رواه مسلم.
4- لا بد للعبد من الصبر على البلاء, واعتقاد الفرج من الله جلّ وعلا, وإدمان الدعاء وصدق الالتجاء لله جلّ وعلا.
وليحذر العبد من اليأس من رحمة الله, والقنوط من فرجه.
وقد حذّر الله من مسلك القنوط في كتابه, وعدّه نبيه صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر.
قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكبر الكبائر سوء الظن بالله».
قال المناوي في شرح هذا الحديث: "وذاك بأن يظنّ أن الله ليس حسبه في كل أموره, وأنه لا يعطف عليه, ولا يرحمه, ولا يعافيه, لأنّ ذلك يؤدّي إلى القنوط"( التيسير بشرح الجامع الصغير 1/199).
وقال ابن حجر الهيثمي رحمه الله: "وقد اتّفقوا على أنّ الشخص الذي يئس من وقوع شيء من الرحمة له مع إسلامه, فاليأس في حقّه كبيرة اتفاقاً, ثم هذا اليأس قد ينضمّ إليه حالة هي أشدّ منه, وهي التصميم على عدم وقوع الرحمة له, وهو القنوط, ثم قد ينضمّ إلى ذلك أنّ الله تعالى يشدّد عقابه له كالكفّار, وهذا سوء ظن بالله تعالى (الزواجر عن اقتراف الكبائر" 1/171- 172).
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
منقول