الدين يسر والخلافة بيعة
الحمد لله، الحمد لله قاهر الطغاة الظالمين، الحمد قاصم الجبارين المستكبرين المستبدين، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له القائل {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } وأشهد أن محمداً نصير المستضعفين ورائد المجاهدين الصادقين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين
أما بعد:
أيها الإخوة : يقول أمير الشعراء في العصر الحديث- أحمد شوقي - في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - و وفي شريعته:
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة ... بالحق من ملل الهدى غراء
الله فوق الخلق فيها وحده ... والناس تحت لوائها أكفاء
الدين يسر والخلافة بيعة ... والأمر شورى والحقوق قضاء
و الحق أن هذا تلخيص جيد لرسالة الاسلام , فالشريعة شريعة سمحة , ومصدر التلقي للمسلمين هو الله- جل جلاله - , {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } , (الله فوق الخلق فيها وحده ) والناس متساوون في الحقوق والواجبات , فلا محاباة , و لا محسوبية , وليس هناك من هو فوق القانون , و ليس هناك من يتجاوز أحكام الله , ( والناس تحت لوائها أكفاء ) : لواء الشريعة , (الدين يسر والخلافة بيعة ... والأمر شورى والحقوق قضاء) هذه هي معالم رسالة الاسلام , الدين يسر , والخلافة بيعة , بالاختيار الحر , ليس هناك من يفرض نفسه على صدر الأمة في الاسلام فرضا , و إنما هو اختيار حر بملء إرادة الأمة ,( والحقوق قضاء) والحاكم والمحكوم يقفون أمام القضاء العادل في الاسلام , لا يغيب القضاء ولا العدل , وكذلك يقول في قصيدة أخرى - وهو يرد على من يربط بين الاسلام والعنف , او بين الإسلام والإرهاب - كما يروج في أيامنا , هذه يقول :
(غزوت) على ألسنة المعترضين :
غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاؤوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لم يأت الإسلام بالسيف , إنما جاء بالكتب القيمة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ , رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً , فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } , جاء ليخاطب العقل والفطرة, جئنا للناس بالقلم و الكتاب {الم ذلك الكتاب } , {نون والقلم وما يسطرون} ما جئنا للناس بالسيف,
جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لم نرفع السيف الا عندما رفع السيف في وجوهنا , و اعتدي علينا و على دعوتنا و على عقيدتنا , رغم ذلك كله إلا هناك من يثير الغبار على الاسلام , و على دولة الإسلام, و على تاريخ الإسلام . الإسلام يؤيد التفرد -هكذا يقولون- والتسلط , الحكومات الدينية في الاسلام تتجاوز القانون , تغيب القضاء, تقر تعذيب الناس لانتزاع الاعتراف منهم, ربما أعانهم على ذلك تجارب في التاريخ , أو في الواقع , تجارب حكومات وصلت باسم الاسلام , فأساءت التطبيق هنا أو هناك , لكن عمادنا في الدفاع عن الاسلام , ليس تطبيقات البشر , و إن كنا نأنس بالتطبيقات الذكية في خير القرون , التطبيقات المؤمنة , لكننا نؤكد أن الناس ليسوا حجة على الاسلام , هناك تجارب تسود الوجوه -بلا شك- , تسود لها الوجوه في التاريخ والواقع , تجاوزوا فقه الإسلام , و تجاوزوا شريعة الإسلام , نعم , هذا حدث , و لذلك نحن نخاطب إخواننا الذين وصلوا الى مسئولية حكم الناس باسم الإسلام أن يتحروا التطبيق الحقيقي للدين , حتى لا يتسببوا في الإساءة للإسلام , لأن الناس أعينهم متعلقة بهم , والناس عندما يخطئ هؤلاء , إنهم ينسبون أخطاءهم الى الإسلام نفسه , هناك في التاريخ وقع ظلم , و وقع انحراف , صحيح , لا يجادل أحد في ذلك, لكن هناك صفحات مشرقة -وعلى كل الأحوال- فإنه لا يجوز تحميل الإسلام المسئولية عن أخطاء الذين ينتسبون إليه , إنما عمادنا في دراسة الحكم في الإسلام , وحقوق الإنسان , العودة إلى القرءان الكريم نفسه . العودة إلى السنة النبوية , العودة إلى استنباط الفقهاء النابهين العظماء , والى خير القرون, إلى عصور الخلافة الراشدة , وعصور أخرى كانت مشرقة بالتطبيق الإسلامي العظيم , ومن يقرأ ذلك في القرءان والسنة والتاريخ , يصل إلى هذه النتيجة , أن الإسلام لديه حساسية مفرطة من الظلم ومن الظالمين, حتى إنه ليقر التعايش مع الكفر , و لا يقر التعايش مع الظلم . إن القرءان الكريم حمل حملة قوية ضد الظلم والظالمين , مئات الآيات تتحدث عن الظالمين , {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } , { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } , {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} , { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }, الظلم ظلمات يوم القيامة , اقرؤوا القرءان الكريم والحديث النبوي , حتى إن فقهاءنا من خلال دراسة هذه الحساسية الإسلامية من الظلم , وصلوا إلى تلك الفتوى الرائعة التي تقول :" إن الله ينصر الكافر العادل على المسلم الظالم " , والذي يرجع إلى تجربة الحكم في خير العصور , يجد أن من أهم سمات الدولة في الإسلام , أنها دولة قانونية , لا يغيب فيها القضاء , ولا يتجاوز فيها القانون , ولا يظلم فيها الناس , ولا يتفرد أحد على أحد , أو يتسلط أحد على أحد , المرجع في الحكم هو الله وحده {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } , { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }, {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } , هذا هو الأساس التي تقوم عليه الحكومة في الإسلام, الحكم لله , والحاكم هو سلطة تنفيذية , خليفة كان أو رئيسا أو ملكا , وينفذ في الناس باختيار الناس له حكم الله {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }, ما هو الهوى ؟ , الهوى هو الميل النفسي, لا تجنح لعواطفك ومشاعرك , لا تجنح لميولك : قبلية كانت أو حزبية أو مصلحية {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } , الأساس أن المرجع: حاكمية الله , يقول - صلى الله عليه وسلم - : " وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد- حاشاها الزهراء - سرقت لقطع محمد يدها " ,
الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء
وتتضاعف العقوبة على الجريمة كلما علا مقام مقترفها {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } , يضاعف لها العذاب ضعفين , نساء النبي , الولاة , الأمراء الذين يقترفون الجريمة - بالتصور الإسلامي - لابد أن يخصوا بنوع من العقوبة , لأن أعين الناس متعلقة بهم , والخلفاء الراشدون عندما تولوا حكم الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقولون في بياناتهم الأولى , يقول أبو بكر الصديق -رضوان الله عليه - :" القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه , والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له" , ليس هناك استقواء بالمنصب والحكم والأمارة وما شابه , { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } , الحكومة خادمة للأمة , والأمة معينة للحكومة , الدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء , لا يستقوي أحد على أحد, ولا يستعل أحد على أحد إلا بالعافية والتقوى , في الحكومة الإسلامية لا عقوبة بلا جريمة , ولا جريمة بلا ببينة ودليل, إن الله تعالى - وهو يسجل حادثة الإفك- يقول {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } , لا عقوبة الا بجريمة , ولا جريمة إلا ببينة ودليل , الحكومة الإسلامية حكومة قانونية , انظر إلى حادث الإفك , و أرجوا أن نهتم بما نسمع , و أن نسمع جيدا, ما هو حادث الإفك؟ زوجة سيد الخلق- أم المؤمنين - ترمى وتقذف وتتهم , لكن الحكومة الإسلامية بقيادة الرسول الأعظم لم تتحرك باتجاه أحد , حتى يأتي القانون , حتى يأتي الحكم من الله , وبقي المجتمع الإسلامي شهرا كاملا , وهو يضطرب ويفور , وأمنا أم المؤمنين -عائشة رضوان الله-عليها- كانت تقول:" لم يرقأ لي دمع , و إن حزني هذا فالق كبدي", وأبو بكر الصديق يضرب كفا بكف , ويقول :" والله ما رمينا بهذا في الجاهلية , أنرمى به في الإسلام؟" , وعائشة تبكي -كما ذكرت - والمجتمع الإسلامي متحفز وقلق , ما الذي يحدث؟ و طغمة المنافقين آمنة , لم يمسسها أحد , لأن ليس هناك بينة , لم يقعوا تحت طائلة القانون , لا عقوبة إلا بجريمة , ولا جريمة إلا ببينة ودليل , حتى تنزل القرءان الكريم {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } .
في خلافة عمر -رضوان الله عليه- وما أدراك ما عمر؟ عندما جاءه قاتل أخيه -زيد - , قتل زيد ابن الخطاب ثم أسلم , وجاء إلى عمر , فلما تعرف إليه عمر و أنه قاتل أخيه , قال له: "اغرب عن وجهي , فاني لن أحبك حتى تحب الأرض الدم" , عبر الرجل الكبير عن مشاعره تجاه هذا المواطن , لكن هل هذه المشاعر تحرم هذا المواطن من حقوقه؟ لا , ولذلك هذا الرجل الذي كان يتنسم عبير الحرية في ظل الخلافة الإسلامية , قال لعمر :" أو يمنعني هذا حقي" , كرهك لي يحرمني , يجعلني في آخر القافلة , و أولياؤك هم مقدمون , قال عمر :"لا حقوقك كاملة مثلي وزيادة " , أنت مواطن لك الأمن والحرية ولك الكرامة , و حقك يصل إليك, فنظر إليه الرجل وقال له :" إذا يبكي على الحب النساء ", أنا لن أبكي على حبك , يخاطب رئيس الدولة -الرئيس الأعلى- أيها الناس.
هل تعلمون -أيها الأعزاء- أول قضية نظر فيها عثمان ابن عفان - رضي الله عنه- عندما ولي الحكم , قضية واحد من أبناء عمر ابن الخطاب , لما ثارت الشبهات حول بعض الناس أنهم شاركوا في قتل أبيه , وهذه الشبهات كانت راجحة , و أقرب إلى اليقين , غضب هذا الولد وحمل السيف , وذهب إلى هؤلاء وقتلهم, لكن عثمان الذي ما مرت على ولايته أيام , لم يرض بذلك وقبض على ابن عمر ابن الخطاب , وقال له:" لقد فتقت في الإسلام فتقا, لم يفتقه أحد قبلك", لقد تجاوزت القانون , وأصر على القصاص منه , إلا أن المسلمين تراضوا مع أولياء الدم , لكن يقول المؤرخ الطبري - في وصف أحوال المسلمين عندما واجهوا هذه المخالفة القانونية – يقول:" وأظلمت الأرض بالناس ثلاثة أيام " , الإسلام حساس من الظلم , الإسلام حساس جدا من ظلم الناس , الإسلام يريد أن يوفر العدالة للناس , والطمأنينة والأمن النفسي , والأمن الاجتماعي , والأمن السياسي , لقد حرفوا حتى كلمة الأمن , عندما تسمع كلمة الأمن يتبادر لذهنك معنيان: أحدهما قبل الأخر , الأمن بمعنى الشرطة , والأمن بمعنى الأمان , لكن الأمان يتأخر عن المعنى الأول, من القهر الذي يعيشه المسلمون في هذا الزمن, - للأسف الشديد- لأننا لا نجد الأمن والأمان الا في التطبيق الإسلامي الحقيقي{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} , لا يظلم أحد في الإسلام , -وكما قلت -لا تقع عقوبة إلا بجريمة , ولا جريمة إلا ببينة{ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين} , هل الظن ينهض دليلا ؟ لا , ينهض دليلا بالعكس لتخفيف العقوبة , ادرؤوا الحدود بالشبهات , الشك يفسر لصالح المتهم , أما أن يكون الظن أساسا للعقوبة ,هذا لا يجوز في شرع الله أبدا , { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } , الإكراه , التعذيب إكراه , الحبس إكراه , القيد إكراه , الضرب إكراه , الإكراه في الإسلام هدر , رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه , يقول عمر ابن الخطاب :" إن الرجل ليس بأمين على نفسه , إذا ضربته أو جوعته أو أوثقته, فلربما يعترف بما لم يجنه " , لا الظن , و لا الإكراه له قيمة في الإسلام , في الإسلام لا يؤخذ أحد بجريرة أحد , الأصل لا تزر وازرة وزر أخرى {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـا إِذاً لَّظَالِمُونَ }, هذه إطلالة موجزة في وصايا عمر ابن عبد العزيز لولاته ولأمرائه , يقول لهم كلاما في غاية الأهمية, كلام ينبغي أن تقف عندها هيئات حقوق الإنسان, وجمعيات الحريات , وما شابه , لتعرف عظمة هذا الإسلام, يقول عمر:" ولا تدعن في سجونكم أحدا في وثاق , ولا تبيتن مسلما في قيد إلا مطلوبا بدم " , هذا هو تاريخنا , وهذا هو قضاءنا , وهذه هي قوانيننا , وهذه هي حكوماتنا, يشوهون الإسلام , يقولون:" إن الحكومات الإسلامية تظلم الناس , وتستبد بهم, أين هذا ؟ أين يحدث هذا ؟ " , هذا هو الإسلام, وفي وصية أبي يوسف الفقيه – المثقف المستنير الذي وضع كتاب الخراج لهارون الرشيد - يقول لهارون :" وأمر ولاتك أن ينظروا في أمر أهل السجون كل يوم, فمن كان عليه أدب أدب وأطلق , ومن لم تكن عليه قضية خلي سبيله فورا , وحذرهم من الإسراف والتجاوز في التأديب الى ما لا يحل وما لا يسع, فان النبي -صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن ضرب المصلين, وقد قال ظهر المسلم حمى " محمي لا ينبغي أن يقترب منه أحد بشبهة أو ظن أو بجريرة آخر , لا يجوز.
و أحد الصحابة -رضوان الله عليه- عندما زار الشام وجد مواطنين هناك يقفون في الشمس , وفي رواية تقول: كان يصب عليهم الزيت , فقال : ما هذا؟ قال :" الأمير أمر بذلك , لأنهم تأخروا في دفع الجزية ", وكان هذا الصحابي يعرف ان الإسلام دين هداية , وليس دين جباية , نحن دعاة وهداة , لسنا جباة , نحن نريد ما في الرؤوس , وما في القلوب , لا ما في الجيوب , هذه دعوتنا , ففزع الصحابي- لعل اسمه حكيم ابن هشام أو هشام ابن حكيم - دخل على الأمير , وقال :" أيها الأمير , والله لقد سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم – يقول:" إن الله يعذب الذين يعذبون الناس" " , ولم يخرج حتى أمر الأمير بإدخال هؤلاء المظلومين من غير المسلمين , لأن الجزية كانت واجبة عليهم , وأخيرا أيها الإخوة المؤمنون , هل سمعتم أو قرأتم المسألة التي يترجم لها الفقهاء بعنوان باب من روعه السلطان ؟ أي من روعته الحكومة , من خوفه السلطان , هكذا يقول الفقهاء في كتبهم , و أصل هذه القصة أن عمر ابن الخطاب- رضوان الله عليه- " أرسل إلى امرأة سمع عنها كلاما, فلما جاءها المرسلون من قبل عمر, قالوا لها :" إن عمر يريد أن يراك " , قالت :" ويل أمي , مالي ولعمر؟ " فأجهضت من الخوف , فاستشار عمر علي ابن أبي طالب فقال له علي :" يا أمير المؤمنين إن عليك الدية " , أنت الذي أفزعتها , وتسببت في إجهاضها , إن عليك الدية , فأخذ الفقهاء من هذه القصة , مسألة باب من روعه السلطان, أقول قول هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله نكال الظالمين , الحمد لله غياث المستغيثين , الحمد لله صريخ المستصرخين , و أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له القائل " وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ " و اشهد أن محمدا رسول الله وقف في وجه الطغيان و قاوم الظلم و الاستكبار , اللهم صل على سيدنا محمد و على اله و صحبه أجمعين , أما بعد:
أنا أقول أن العرب والمسلمين يعيشون أياما نكدة , ودليلي على ذلك قول القائل :
ومن نكد الدنيا على الحر ... أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
وقوله أيضا:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
هل هناك ما هو أنكد على المسلم من أن يتحاكم إلى خصمه ؟ أن يكون خصمك هو القاضي , إن العرب والمسلمين يبحثون عن حلول لقضاياهم عند أعدائهم , ينتظرون اعتراف الجهة الفلانية, ينتظرون المفاوضات مع الجهة الفلانية, ينتظرون كذا وكذا , أليس هذا نكدا ؟ أليس هذا دليلا على أنهم يعيشون أنكد الأيام ؟ لكن المشكلة أننا جلبنا ذلك على أنفسنا لأنفسنا , والأمر كما قال أحدهم :
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ ... والماء فوق ظهورها محمول
لدينا الثروة , ولدينا المواقع الإستراتيجية , ولدينا البشر , ولدينا المقدرات والإمكانات , ولدينا المنهج , {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }, كل ذلك موجود لدينا , لكننا نفتقد الإرادة, ونفتقد العزيمة , استسلمنا , أخلدنا , أراد الله أن يرفعنا , كعرب ومسلمين بهذه الرسالة , فأخلدنا إلى الأرض , واتبعنا أهوائنا , وتفرقنا , وانفتحت الدنيا علينا بأهوائها وشهواتها {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} , حتى في هذا الوطن المنكوب , تجد هناك الأنانية والجشع والطمع , وتجد هناك الفرقة والكراهية , إلى متى -أيها الإخوة- سيبقى العرب والمسلمون يتسولون الحلول من أعدائهم ؟ من الذي أنشأ هذا الكيان وزرعه في قلب قلوبنا , في قلب العالم الإسلامي , من هم هؤلاء الذين نركض ورائهم ليقدموا لنا الحلول ؟ الحل عندنا نحن , أن نعتصم بمنهجنا المنهج الإلهي { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً }, أن نتوحد - أيها الإخوة - . كنا ونحن صغار يعلموننا قصة الرجل الذي جمع أولاده ثم أعطاهم العصي المفرقة , فكسروها , ثم أعطاهم العصي مجتمعة فعجزوا عن كسرها , حتى هذه الدروس نستسخفها اليوم , ولا نذكرها, إنما هي من وعظ العجائز , وماذا يكون وعظ العباقرة؟ الانقسام هو وعظ العباقرة , والركض وراء أعدائهم , ماذا بقي- أيها الإخوة- لنا ؟ لماذا لا نستثمر ما لدينا من إمكانيات , مواقع وثروات , وأموال , ومنهج إلهي رباني, لماذا لا نوحد صفوفنا ؟ونتوكل على الله, ونقيم أحكام الإسلام , ودولة الإسلام , ونتوحد تحت هذه الراية العظيمة , راية الحرية والكرامة , تحرير الإنسان , لا اله إلا الله محمد رسول الله, ثم نمضي ماذا يفعل الله بنا وبأعدائنا .
اللهم املأ قلوبنا إيماناً، واملأ عقولنا وعياً، وآت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إننا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها الكفر وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى دينك والهداة إلى سبيلك وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
منقول