أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبو ظبى للثقافة والتراث الترجمة العربية لكتاب "تكايا الدراويش.. الصوفية والفنون والعمارة فى تركيا العثمانية"، للمؤلف رايموند ليفشيز ونقلته للعربية عبلة عودة.
ويسلط الكتاب الضوء على فترة خاصّة من التاريخ الإسلامى فى تركيا، وهى فترة انتشار الطرق الصوفية وتألقها وزيادة عدد أعضائها ومحبيها، وذلك عبر عدة مقالات حواها الكتاب لباحثين وأكاديميين ومختصين فى التاريخ الإسلامى، والعبادات والتصوف، بالإضافة إلى اختصاصيين فى التاريخ والشعر والسّير الذاتية والاقتصاد والخط العربى، وقد اجتمعوا كلّهم حول موضوع "التكايا" لدراسته من جوانب عدة. وتأتى أهمية الكتاب من أنه يُدخِل القارئ إلى تفاصيل حياة العثمانيين اليومية فى بيوتهم ومزارعهم وعباداتهم.
وتخص المقالات التكايا الفاعلة فى إسطنبول خلال القرن الأخير من الحكم العثمانى (1836–1925)، مخالفة بذلك ما كان سائداً فى الأبحاث التى تناولت الفنّ المعمارى العثمانى، إذ كانت تركز على دراسة فن العمارة العثمانيّة فى المساجد الفخمة التى بنيت فى الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، مع أنّ هذه المساجد لا تمثل إلاّ جزءاً يسيراً من التراث المعمارى العثماني، فى حين تقوم عمارة التكايا على الجمع بين الفخامة السلطانية والبساطة الشعبية، وهذه ميزة تتفرّد بها، وهى تمثل عبر ذلك جزءاً مهمّاً من الطراز المعمارى العثمانى.
كما تناولت أبحاث الكتاب فنوناً أخرى ارتبطت طويلاً بالطرق الصوفية مثل فنّ الخط العربى، وما يحفل به من رموز وتقنيات فنية عالية، وكذا فنون النحت والنقش والرسم وطقوس الرقص الدورانى الذى عُرفت به الطريقة المولوية، التى ابتكرها جلال الدين الرومى، فضلاً عن الفنون الأدبية من كتابة فنية وقصائد شعرية تناولت الفكر الصوفى من جوانب متعددة، وأدخلتنا إلى رحاب الحياة اليومية للدراويش بتفاصيلها المثيرة،وما تزال بعض هذه الأعمال نابضة بالحياة حتى الآن، ممثلة جزءاً من التراث الموسيقى والأدبى فى تركيا وخارجها.
ومن أهم الباحثين فى هذا الكتاب، إيرا م. لابيدوس، الذى يتناول الصوفية فى القرون الوسطى، ويوضح بدايات عملية بناء "التكايا"، مشيراً إلى عمق جذور الصوفية التركية، وكيف يتعذر فهم المصطلحات والأفكار الصوفية بمعزل عن جذورها العربيّة، وهكذا فإن بحث لابيدوس يضع المصطلحات الدينية الإسلاميّة فى موقعها المناسب.
أمّا مقال "جمال كفادار" فهو يحلل تأثير الصوفية فى المجتمع التركى الحديث بالتوازى مع الحركة الصوفية فى الإمبراطورية العثمانية، كاشفاً بذلك اللثام عن مناطق كانت مهملة من قبل فى الدراسات الصوفية مثل دور المرأة، والدمج بين أكثر من طريقة صوفية، وهو يشرح أسباب تصدّر الطريقة المولوية لصورة الصوفية أمام العالم الخارجى، كما أنّ ملاحظاته تتعدّى فضاء الدراسات الاستشراقية المتعارف عليها، فهى تعتمد طرقاً علمية ترتكز على الدراسات الاجتماعية والتاريخية التى تنتهج الأسلوب الغربي. كما يظهر "كافادار" أن الصوفية تخترق بتأثيرها جميع جوانب الثقافة التركية الحديثة من شعر ولغة وسينما وموسيقى، لتبدو قوة ثقافية محرّكة فى تركيا الحديثة.
وهناك أيضاً الفصل الذى عقده "كلاوس كريسر" حول حياة الدراويش، وفيه يعرض معلومات مهمّة تتناول اليومى والمهمش فيها، متجاوزاً المعلومات التاريخية المحضة، وثمة مقال "رايموندليفشيز" حول الفنّ المعمارى فى التكايا الذى يتقصى الاتساق والانسجام الداخلى الواضح فى عمارة هذه التكايا.
ونقع فى الكتاب أيضاً على حديث جودفرى جودون عن عمارة "التكايا" وتطورها فى الدولة العثمانية، أمّا "بهاء تانمان" فإنّ بحثه يتخذ منحى اجتماعيّاً إذ يكشف النقاب عن طرق الحياة، والطقوس التى كانت تُمارَس فى التكايا.
أما الجزء الثالث يحوى دراسات قيمة تمسّ الحياة اليومية فى التكية من وجهات نظر مختلفة، ليرسم صورة مقربة، وثلاثية الأبعاد، عن كيفية عمل هذه المؤسسة – التكية، وحياة الناس فيها.
ويتعرض حامد الغار بالتفصيل لطريقة صوفية واحدة، فى حين يقوم كارتر فندلى بترجمة مخطوطة من مذكرات قيّم على إحدى التكايات. أما فردريك ديجونغ فيستعرض صوراً معروفة للخط العربى فى إيران ومصر والعراق كما هى الحال فى أنطاليا. ونجد هذا التوسع فى البحث لدى آنا مارى شيميل وهانس بيتر، أمّا آيلا الغار فتستطلع موضوعة الطعام، وتصل إلى جذورها فى القرون الوسطى، وفى سياق آخر تبحث نورهان أتاسى فى أزياء الدراويش وأصولها، وطقوس ارتدائها فى الطريقة المولوية.
وهكذا فإن هذا الكتاب بشموليته فى طرح موضوع التكايا وعلاقتها بالفكر الصوفى والطقوس والممارسات النابعة منه، ينير جوانب لم يولها الباحثون فى مجالات الدراسات الإسلامية والاجتماعية والدينية الكثير.
يعمل محرر الكتاب فى نسخته الإنجليزية: رايموند ليفشيز، أستاذاً فى فن العمارة فى جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وله كتاب حديث بعنوان "فن العمارة..رؤية جديدة" وقد قام بالإسهام فى هذا الكتاب ما يزيد على سبعة عشر خبيراً فى الثقافة العثمانية والتركية والصوفية، معظمهم يعمل فى أهم الجامعات العالية.
قام بترجمة الكتاب إلى العربية المترجمة عبلة عودة، وهى أكاديمية ومترجمة فلسطينية،حصلت على شهادة الماجستير فى اللغويات من جامعة باث – إنجلترا، وهى عضو مؤسّس فى جمعية المترجمين واللغويين التطبيقيين الأردنيين، لها ترجمة منشورة بعنوان"مذاق الزعتر" صدرت عن مشروع "كلمة" 2010،وفازت بجائزة أفضل كتاب مترجم، التى تمنحها جامعة فيلادلفيا للعام نفسه.