بالصور.. وادى الحيتان يبوح بأسراره فى الفيوم
خطط لإقامة أول متحف للبقايا الأحفورية بالشرق الأوسطبوابة الوفد - الفيوم – محمد السيد علي:
رأيناها ملقاة على الأرض، تعلوها الرمال التى تهددها بالتلف، فى حين يراها الغرب كنوزا تحوى داخلها أسرارا تكشف تاريخ منطقة الفيوم قبل 40 مليون سنة... إنها بقايا أحفورية في وادى الحيتان داخل محمية وادي الريان في محافظة الفيوم، صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو" عام 2005 كمنطقة تراث عالمي واختارتها كأفضل مناطق التراث العالمي للهياكل العظمية للحيتان فى العالم.
كيف لهذه الحيتان أن ترقد فى وسط الصحراء؟ هذا ما كشفت عنه تلك البقايا الأحفورية. كانت في الأصل حيتاناً ضخمة عندما كان الوادي يقع تحت بحر "تيث" الذي تكونت مكانه صخور مترسبة وحفظت بين طياتها بقايا الحيتان والنباتات والحيوانات التى كانت تعيش آنذاك، ثم تحولت مع مرور الوقت إلى بقايا أحفورية.
قطعنا مسافة تزيد عن 100 كيلومتر من القاهرة فى زيارة نظمها الاتحاد الدولى للصحافيين العلميين من خلال برنامج "سكوب2" لتدريب الصحافيين، الأحد 22 نيسان (أبريل) 2012. وصلنا إلى طريق وعر مغطى بالحصى وبعض كثبان الرمل والتكوينات الصخرية يمتد لمسافة تزيد عن 40 كيلومترا، تركه المسؤولون عن المحمية على حاله عمداً لعرقلة وصول عابثين محتملين إليها ، خصوصاً فى ظل حراسة أمنية ضئيلة لا يتعدى قوامها أصابع اليد الواحدة.
متحف مفتوح
فى إطلالة على كنوز وادى الحيتان، التى اصطفت بطريقة بدائية بانورامية فى الهواء الطلق، شاهدنا بقايا أحفورية لا مثيل لها كماً ونوعاً فى العالم ترقد مسجاة على الرمال فى متحف مفتوح يمتد لحوالى 3 كيلومترات.
تضم البقايا الأحفورية فقرات وأضلع 400 هيكل لحيتان من فصيلة باسيلوسورس (Basilosaurus)، طول الواحد منها 18 متراً، كانت تعيش في تلك المنطقة خلال عصر أ إيوسين(Eocene) الذي امتد من فترة 56 إلى 34 مليون عاماً.
ووضعت لوحات استرشادية للزائرين على طول الطريق داخل المحمية لتشرح قصة تلك البقايا الأحفورية النادرة والحياة البحرية التى كانت موجودة قبل تراجع المياه فى ما بات اليوم يسمى صحراء مصر الغربية.
تبلغ مساحة منطقة وادى الحيتان حوالى 400 كليومتر مربع، يمثل المتحف المفتوح منها حوالى 4 فى المئة ، وهى المساحة المتاحة للزائرين، أما باقى المساحة فمتاح للباحثين فقط. أنشىء المتحف عام 2005 بالتعاون مع جامعة ميشيغن الأميركية ممثلة بأحد أبرز باحثي الثدييات البحرية في العالم البروفيسور فيليب غينغريتش .
لعب غينغريتش دورا كبيرا فى تبني ملف هذا الموقع، حتى أعلنته "يونيسكو" كمنطقة تراث عالمي. ولم تتوقف جهوده عند هذا الحد، بل عمل على اصطحاب عدد من الهياكل العظمية للحيتان إلى جامعة ميشيغن الأمريكية لإجراء أبحاث علمية وتحديد فصيلتها وعمرها قبل إعادتها إلى القاهرة مع نموذج بحثى "مصنّع" تبلغ تكلفته حوالى 70 ألف دولار .
قصة كنوز الوادي
ترتبط قصة وادي الحيتان بالتغيرات التي حدثت قبل تكون الصخور في المنطقة وأثناء ذلك وبعده. فقبل 40 مليون عام حدثت عمليتان جيولوجيتان غيرتا وجه الأرض: الأولى أرست شكلها القديم، والثانية أوضحت التغيرات التي طرأت بصورة مستمرة.
كان كل من البحر التيثي والبحر الأبيض المتوسط القديم يقعان شمال أفريقيا قبل ما بين 250-35 مليون عام، ربط البحر التيثي بين المتوسط والمحيط الهندي عبر ما يعرف الآن بشبه الجزيرة العربية. ومنع الطقس الدافئ تكون الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، ما تسبب في ارتفاع منسوب مياه المحيطات. واستمر وجود البحر التيثي شمال قارة أفريقيا مئات ملايين السنين قبل تكون الجليد وانحسار المياه التي كانت تغمر مناطق واسعة منها مصر.
ووفق الباحث الجيولوجي المسؤول عن محمية وادي الحيتان أحمد عوض فإن حفريات وادى الحيتان عملية التطور التى حدثت للحيتان البحرية في تلك العصور. فكشفت أن أصل الحوت حيوان ثديي ذو أربعة أرجل وكان يعيش على اليابسة، ثم انتقل إلى العيش داخل البحر بعد أن ارتفعت درجة حرارة الأرض بصورة كبيرة بداية عصر أ "إيوسين"، وأصبح الشاطىء وجهة للبحث عن الطعام.
من هنا يظهر اختلاف حيتان ذلك العصر عن سواها، وتظهر الهياكل المكتشفة بقايا الأصابع والكواحل وغطاء الركبة وكذلك عظام الساقين والقدمين . لكن طول تلك الأطراف لا يتعدى المتر الواحد ولا يتناسب مع وزنها الكبير الذى يزيد عن طن، ولا مع طولها الذى يزيد عن 18 متراً، ما يجعلها غير صالحة للمشي .
خطة واعدة تنتظر الدعم
لصون تلك الكنوز، وافقت وزارة البيئة على إنشاء متحف يحوى 1300 من البقايا الأحفورية التى اكتشفت حتى الآن ويحميها من عوامل الطبيعة التى تهددها بالتلف. سوف يضم المتحف كذلك مركزاً بحثيا لدراسة هياكل الحيتان، مجهزا بأحدث الوسائل العلمية، ليتمكن الباحثون المصريون والأجانب من إجراء أبحاثهم على البقايا الأحفورية وكشف أسرارها داخل المتحف من دون نقلها إلى الخارج. ورصدت وزارة البيئة حوالى 3 ملايين جنيه سنوياً لهذا الغرض، "لكن الخطة ما زالت حبراً على ورق، وتقلصت الميزانية بعد الثورة إلى حوالى 175 ألف جنيه"، وفق الباحث الجيولوجي المسؤول عن محمية وادي الحيتان أحمد عوض.
وقال عوض إن رعاية المحمية وتطبيق الخطة يحتاج إلى مزيد من الدعم المالى ، "لأن الميزانية المرصودة لا تكفى لإقامة متحف عالمى يستوعب هذا الكم الهائل من البقايا الأحفورية".
وأضاف: "هذا المتحف سيصبح الأكبر من نوعه في منطقة الشرق الأوسط. وسيضم بقايا أحفورية تستخرج أيضا من منطقة تسمى جبل قطراني شمال محمية قارون، التي توجد فيه ابقايا أشباه الإنسان الأول وهياكل أسلاف الأفيال والحيوان الثديي ثنائي القرون المعروف باسم أرسينوثيريوم(arsinoitherium). وهناك خطط لضم تلك المنطقة لتصبح محمية طبيعية منفصلة أسوة بوادى الحيتان".
وطبقا للاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN)، يعد جبل قطراني سجلاً كاملاً للثدييات المنقرضة في أفريقيا. ويعد التنوع الحيواني فيه عاملا أساسيا في فهم تطور العديد من المجموعات الثديية في القارة. إضافة إلى موقع جبل قطراني، هناك مدينة ماضي الأثرية التى كانت توصف فى الماضى بأنها "أقصر الفيوم"، نسبة إلى مدينة الأقصر الاثرية التى تحوى عدداً من المسلات والأعمدة الفرعونية. وتضم المدينة المعبد الوحيد الباقى للأسرة الفرعونية الوسطى فى مصر القديمة، ومعالم أثرية يرجع تاريخها إلى العصور البطلمية والرومانية والقبطية. وهي تقع شمال وادي الحيتان، وتنتظر هي الأخرى قرارا دوليا بتحويلها إلى منطقة تراث عالمي ثقافي وطبيعي.
يأمل محمود الزاوى، 45 عاما، من سكان قرية "تونس" القريبة من محمية وادى الحيتان وأحد أعضاء جمعية أصدقاء وادى الحيتان المستقلة، أن تتحول منطقة الوادى إلى متحف ضخم ومزار عالمي يقصده الزوار من دول العالم كلها. ويعتبرأن هذا المتحف سيعود بالنفع على أهالى المنطقة والمناطق المجاورة، وسيساهم فى خلق مزيد من فرص العمل.
ويقول الزاوى: "أهالي قرية تونس حموا منطقة وادى الحيتان أيام الانفلات الأمنى أثناء ثورة 25 يناير، كما أن قسم شرطة احتمى في المحمية حين وجد أن أهالى المنطقة توافدوا لحمايتها من أيدي المخربين الذين كانوا يريدون العبث بتلك الهياكل وربما سرقتها ". وهو ما أكده عوض، الذي قال إن المحمية تفتقر إلى حراسة أمنية محكمة فى ظل ضعف الميزانية الرسمية المخصصة لها.
مهددات طبيعية
وعن العوامل الطبيعية والبشرية التي تهدد المحمية، قال الباحث أحمد عوض إن أخطر المهددات هى التعديات البشرية، لأن الوادى عبارة عن حفريات وهياكل طبقات صخرية غير القابلة للتجدد، فإذا تعرضت إحدى الحفريات للكسر أو التلف على يد أحد الزوار فلن نستطيع إصلاحها، أو استعاضتها. أما عن الانشطة الطبيعية كالشمس والرياح والأمطار فإنها تأتى فى الدرجة الثانية من حيث التأثير.
وضرب مثالا بواقعة حقيقية حدثت بواسطة وفد ضم مجموعة أشخاص تابعين للسفارة البلجيكية زاروا المنطقة ودخلوا المنطقة المخصصة للمشاة بالسيارة، مع العلم أننا حذرناهم من أن هذا العمل غير شرعى ويمكن أن يضر بسلامة الحفريات لكنهم أصروا على الدخول بالسيارة وأحدثوا تلفيات ببعض الهياكل.
وأضاف أننا اتخذنا خطوات مباشرة للرد على هذا الانتهاك، وأجرينا دراسة لتقييم الأثر البيئي لما حدث، وأرسلنا تقريرا بالواقعة لجهاز حماية البيئة الذى قام بدوره وصعد الأمر لوزارة الخارجية المصرية، التى خاطبت بدورها السفارة البلجيكية فى مصر، بالتزامن مع إثارة الموضوع إعلاميا لمزيد من الدعم، واستطعنا أن نحصل على تعويضا ماليا من السفارة البلجيكية بلغ 325 ألف دولار .
وأكد عوض أن التعاون مع السكان المحليين كان له الأثر البالغ فى حماية تلك المنطقة، ويجب أن يستمر هذا التعاون، لصون المنطقة وحمايتها من أي ممارسات غير شرعية قد يقدم عليها بعض العابثين، والشيء المبشر أن هذه الحفريات ليست رائجة وليس لها سوقا للبيع فى مصر كما الآثار والتماثيل الحجرية.
ولتطوير وتشجيع البحث العلمي فى مجال الحفريات، يعرض عوض الفرصة على جميع الباحثين المتخصصين (مصريون وأجانب) للعمل على جميع الحفريات والطبقات الصخرية الموجودة فى الوادى مجانا للاستفادة منها علميا، عن طريق الاستعارة أو الدراسة بالوادى، وهذا ما تم بالفعل مع جامعة ميشيغن من خلال اتفاقية بحثية يتم بمقتضاها استعارة بعض الحفريات لإجراء أبحاث عليها لمدن عامين وإعادتها مرة أخرى ومعها "نموزج" للدراسة. ليس هذا فحسب، لكننا نوفر لجميع الشركات التى تريد أن تدعم هذا المشروع وتحصل على حق الرعاية الكاملة له، عن طريق طباعة مطويات وهدايا للمحمية، وعليها شعار تلك الشركات .
وأكد أن هناك ما يقرب من 25 إلى 30 ألف سائح يزورون المحمية سنويا، منهم 70 % أجانب، ويدفع الأجنبى 3 دولار رسوم للدخول أما المصري يدفع جنيهان، لكن فى ظل التطوير المستمر نسعى لرفع تذكرة الدخول حتى تصل إلى 5 دولارات للأجانب و5 جنيهات للمصريين، لزيادت الدخل.
وتعد منطقة وادى الحيتان واحدة من 30 محمية طبيعية منتشرة فى ربوع مصر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وهى تمثل حوالي 10% من مساحة مصر وأعلنت هذه المحميات في إطار القانون 102 لسنة 1983 بشأن المحميات الطبيعية ، والقانون رقم 4 لسنة 1994 بشأن حماية البيئة المصرية.