المصريون
سخر الكاتب بلال فضل من التقارير التي تنشرها صحف مصرية منسوبة إلى "مصادر سيادية"، والتي تتحدث عن "مؤامرات" تهدف إلى إسقاط الدولة في مصر وتفكيكها، دون أن تراعي بحسب تعبيره المثل الدارج " كدب متساوي ولاصدق مجعرف".
وتطرق فضل في مقاله المنشور بموقع "التقرير" اليوم تحت عنوان "في الحنين إلى الكذب "المتساوي" إلى ما نشرته صحيفة "الوطن" حول ما قالت إنها "تفاصيل اجتماع استراتيجى سرى، عقد فى القاعدة العسكرية الأمريكية بمنطقة "دار مشتادت" بألمانيا، فى الفترة من 16 وحتى 18 أغسطس 2013، تحت اسم "حول انقلاب مصر"، وحضره ممثلون للموساد الإسرائيلى وممثلون للولايات المتحدة وجهاز الأمن القومى الأمريكى وممثل عن القوات البريطانية فى قبرص، وممثل عن وزارة الدفاع الفرنسية وممثل عن غرفة العمليات لحلف شمال الأطلسى، وصدر عنه 29 تقريرًا مسجلاً تحت تصنيف "سرى جدًا".
وحسب الوثائق ـ كما تقول الصحيفة ـ فإن الاجتماع كان بشأن "شل مصر من كافة النواحى" بعد نجاح ثورة 30 يونيو وعزل الرئيس الإخوانى محمد مرسى".
ونشرت الصحيفة التقرير مصحوبًا بكلمة (بالمستندات)، والتي قال فضل إنها "لم تكن سوى ورقة يتيمة كُتب عليها بخط كمبيوتر غريب بالنص: (اجتماع استراتيجي في دارمشتادت ألمانيا.. الموضوع: حول انقلاب مصر.. مكان الاجتماع: القاعدة العسكرية الأمريكية.. التاريخ: 16 أغسطس 2013.. الحضور: NSA – USA وممثل عن الموساد، وممثل عن القوات البريطانية في قبرص وممثل عن وزارة الدفاع الفرنسية وممثل غرفة العمليات لحلف شمال الأطلسي).
وذكر أنه بعد أن كتب مقالاً بجريدة "الشروق" حول هذا الموضوع تلقى رسالة من المصري عمرو رزق عضو هيئة التدريس بجامعة هانوفر بألمانيا يقول فيها بالنص: "أنا مصري مقيم بألمانيا من 12 سنة، درست وأقمت لمدة 8 سنين في دارمشتات، وأحب أؤكد لك أن القاعدة الأمريكية في دارمشتات مغلقة من سنين ومجلس المدينة قرر استخدامها لحل أزمة السكن في المدينة”، ليصبح حلمي بعد هذه الرسالة أن أزور المدينة الألمانية لأرى كيف يمكن أن يتم استخدام قاعدة عسكرية لحل أزمة السكن"؟
وفيما يلي نص المقال:
في الحنين إلى الكذب "المتساوي"
ربما انتهى الأمر بتسليمك لأجهزة الأمن "تسليم أهالي" لأنك تثير الفتنة وتزعزع الاستقرار، لكنني مع ذلك لن ألومك لو وجدتك واقفًا في الشارع تصرخ بعزم ما فيك: "رسّونا على بر يا أولاد الهرمة.. هوّ الشعب المصري عظيم وأبهر العالم؟.. ولّا شعب نمرود فيه العبر ومحتاج اللي يشكمه؟.. هيّ الدول المتقدمة لو مرعوبة مننا ليه بنتحايل عليها تساعدنا؟.. وإزاي هتساعدنا وهي عارفة إننا لو تقدمنا هنضيعها؟ .. هوّ السيسي ليه ما ضربش سد النهضة اللي أثيوبيا شغالة بناء فيه على قدم وساق؟.. إزاي يبقى عندنا أعظم أجهزة أمنية في العالم عدد أفرادها بمئات الآلاف ومع ذلك كلهم معترفين إن البلد اخترقها خمسين واحد من حماس وحزب الله وبعدها نفضل واثقين في قيادات الأجهزة دي وكمان نوصل واحد منهم لرئاسة البلاد؟".
للأسف لن ينشغل الكثيرون بالتفكير في أسئلتك، بقدر انشغالهم بمحاولة إسكاتك، فأبناء الشعب الذي اخترع المثل العبقري "كدب متساوي ولا صدق مجعرف"، لم يعد يزعج أغلبهم جعرفة الكذب واهتراؤه وبؤسه، ولم يعودوا يطلبون حتى تجويد بضاعة الكذب التي تقدم لهم لكي تعيش أطول، فخوف الغلابة منهم من المجهول جعلهم يوافقون على الكذب رديء السبك لكي يبرروا لأنفسهم سكوتهم على الظلم والهرتلة والعشوائية وإهدار كرامة الإنسان، أما قساة القلوب منهم فهم لا يحتاجون أصلًا إلى مقياس لجودة الكذب، ولذلك أصبحت تجدهم متقلبين بين الكذبة ونقيضها في نفس اللحظة بقلب ميت، بل إنهم لم يعودوا محتاجين إلى أن تُنتج لهم الأكاذيب لكي يستهلكوها، فقد باتوا قادرين تلقائيًّا على إنتاجها وتطويرها وتفريخها وتعليم تلك المهارات لأنجالهم وأحفادهم.
قبل نحو عام، أفردت أغلب وسائل الإعلام المصرية المقروءة والمرئية والمشمومة والمركوبة مساحات واسعة لتصريحات أصدرتها "مصادر سيادية عليا" تقول إن هناك اجتماعًا سريًّا للغاية تم عقده في القاعدة العسكرية الأمريكية بمدينة دارمشتات بألمانيا حضره قادة في مخابرات اسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وحلف شمال الأطلسي وتركيا، حمل عنوان: "شل مصر من كافة النواحي"، وأصدر 29 تقريرًا سريًّا يتضمن توصيات عاجلة لتدمير مصر، ولكي تُخرَس ألسنة المشككين في تصريحات سيادية كهذه، تم نشر التصريحات مصحوبة بكلمة (بالمستندات)، فماذا كانت تلك المستندات يا تُرى؟
إذا قلت لي الآن إنها كانت أوراقًا مكتوبة باللغة الألمانية أو الإنجليزية فأنت بالتأكيد من سعداء الحظ الذين لم يشاهدوا الموضوع عند التهليل له في وسائل الإعلام، وأعلم أنك لن تصدق أن المستندات لم تكن سوى ورقة يتيمة كُتب عليها بخط كمبيوتر غريب بالنص: (اجتماع استراتيجي في دارمشتادت ألمانيا.. الموضوع: حول انقلاب مصر.. مكان الاجتماع: القاعدة العسكرية الأمريكية.. التاريخ: 16 أغسطس 2013.. الحضور: NSA – USA وممثل عن الموساد، وممثل عن القوات البريطانية في قبرص وممثل عن وزارة الدفاع الفرنسية وممثل غرفة العمليات لحلف شمال الأطلسي)، وإذا كنت لا تصدقني فيمكن أن ترى تلك المهزلة بنفسك لو كتبت في أي خانة بحث عبارة: (اجتماع استراتيجي في دارمشتادت ألمانيا)، وعندها سترى كيف أن موقعًا يفترض أنه إخباري وواسع الانتشار، قام بنشر هذه الورقة التعيسة إياها ووضع اسمه عليها لكي يمنع غيره من استخدام تلك الوثيقة السرية المذهلة.
أذكر أنني كتبت مقالًا بعدها في عمودي اليومي في صحيفة الشروق عنوانه: (ومالها كوريا الشمالية يعني)، سخرت فيه من تلك التصريحات السيادية قائلًا “المسائل هكذا وسعت وبهوقت يا سادة، وأصبح مطلوبًا من أجل لَمِّها أن يتخلى النظام الشاكم عن جو التلقيح والتسريب، لأنّه إذا كنا قادرين بعون الله على اختراق حصون أعتى أجهزة المخابرات فى عقر دارها، فلماذا لا نعلن فورًا قطع العلاقات مع هذه الدول التى تتآمر على مصير البلاد وتفكر فى حرمان الشعب المصرى من حكم السيسى له، لكى يفكر أى جرذ حقير متآمر ألف مرة قبل خوض قرار الترشح فى الانتخابات المقبلة التى لا أظن أنه سيكون هناك مبرر لإجرائها من أصله.
وإذا كانت ظروف البرد القارس ستمنعنا من خوض الحرب الشاملة مع هذه الدول التى كشفت مصادرنا السيادية مؤامرتها فى الوقت المناسب، فإن ذلك يجب ألّا يمنعنا من الإعلان الفورى عن قطع العلاقات الدبلوماسية معها، وقطع أيدى كل مَن تمتد يده إليها لطلب معونة أو بعثة دراسية أو حتى فيزة سياحة مع تخصيص لجنة رفيعة من المصادر السيادية لدراسة الحالات الخاصة التى تذهب للعلاج والتجارة لكى لا تكون مجالًا لتسرب الجواسيس والخونة”. ولم يكن غريبًا أن أتعرّض بعدها لحملة عاتية من التشهير والتخوين، لم تؤلمني مثلما آلمني موقف قارئ قديم أعلم محبته لي وأثق في رجاحة عقله خاصة أنه حاصل على درجة علمية رفيعة، حيث قال لي ضمن وصلة من السباب المصحوب بالتعبير عن خيبة الأمل: “وبعدين فاكر نفسك فالح لما تطلب إننا نقطع العلاقات الدبلوماسية معاهم.. إنت ناسي إن الحرب خدعة يا حيلتها”، وحمدت الله أنه لم يكمل قائلًا: “وآهي أي حاجة تيجي منهم أحسن من عينهم وعافيتهم”.
ظللت بعدها لأشهر أحلم بالسفر إلى مدينة دارمشتات الألمانية، لأعاين من بعيد مقر القيادة العسكرية الأمريكية، وأكتب من وحي منظره فيلم جاسوسية مبهرًا أتخيل فيه كفاح البطل المصري الذي شق السماء يومها واخترق القاعدة ونقل إلى قادته السياديين ما دار فيها من اجتماعات سرية للغاية، لكن حلمي تحطم تمامًا بعد أن وصلتني رسالة قصيرة من المواطن المصري عمرو رزق عضو هيئة التدريس بجامعة هانوفر بألمانيا يقول فيها بالنص: "أنا مصري مقيم بألمانيا من 12 سنة، درست وأقمت لمدة 8 سنين في دارمشتات، وأحب أؤكد لك أن القاعدة الأمريكية في دارمشتات مغلقة من سنين ومجلس المدينة قرر استخدامها لحل أزمة السكن في المدينة”، ليصبح حلمي بعد هذه الرسالة أن أزور المدينة الألمانية لأرى كيف يمكن أن يتم استخدام قاعدة عسكرية لحل أزمة السكن؟
الآن، وأنت تقلب صفحات الإنترنت لتطالع تفاصيل هذه الكذبة التي تورطت فيها أهم الصحف والقنوات المصرية بلا استثناء، ستجد مقالات نارية تقوم بالاستناد عليها حتى اللحظة لتبرير كلّ ما تقوم به دولة السيسي من قمع وظلم، ولتخوين كل من يعترض على ذلك أو حتى يشكك في جدواه، وعندها لعلك لن تندهش إذا وجدتَ مَن يصدق ذلك الخبر الذي نشر قبل يومين ناسبًا إلى مصادر سيادية مسؤولة “ضبطها لثلاثة أجانب أعضاء في شبكة تجسس تعمل لصالح مخابرات خمس دول أوروبية وترسل تقاريرها عبر سفارات تلك الدول”، وربما لو سألته: كيف يمكن لمخابرات دول أوروبية أن تقوم بعمل جمعية للتجسس على مصر، بينما التجسس لا يحب اللمة كما هو معلوم منه بالضرورة؟ لاتَّهمكَ عندها بالحمورية لأنك لا تعرف أن أوروبا تمر بظروف اقتصادية صعبة مما ألجأها بالتأكيد إلى التجسس الجماعي على مصر توفيرًا للنفقات، ولست محتاجًا لذكاء خارق لتتوقع أنك لو سألته: طيب لماذا لا تغلق مصر سفارات تلك الدول لمعاقبتها وتقطع علاقاتها بها؟ لقال لك بنفس ثقة قارئي القديم: “عشان الحرب خدعة يا حيلتها”.
ليس عندي شك أن السياديين الذين يطلقون مثل هذه الأكاذيب يشعرون بالفخر البالغ، وهم يلمسون تأثيرها الفتاك على ملايين المواطنين الذين ينصاعون خلف ظلمهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، لكن السياديين الجدد ينسون أن إدمان الناس لهذه الأكاذيب سيجعل من المستحيل التفاهم معهم بالحجة والمنطق عندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة، ويتناسون أنّ سياديين مثلهم كانوا يحكمون مصر من قبل في عصور مختلفة، وأنهم تمكنوا بفضل أكاذيب مثل هذه من قطع كل لسان مختلف ومن تشكيل جبهة داخلية كانت موحدة فعلًا، لكنها كانت مخوّخة، ولذلك سرعان ما انهارت وذهبت هباءً منثورًا، ولو كان هؤلاء حريصين على أن يبنوا “على نظيف” قواعد دولة راسخة بحق وحقيق، لأدركوا أن الأكاذيب قد تساعد حاكمًا ظالمًا على البقاء فترة من الوقت، لكنها لا يمكن أبدًا أن تقود شعبًا إلى التقدم أو تحمي دولة من الانحدار، لكن من قال إنّ من أدمنوا عفن التسلخات يمكن أن يدركوا خطورة التغيير على وساخة؟
الاتب
بلال فضل