- دينا قابيل
«بلغنى أيها الملك السعيد. ذو العمر المديد. والرأى الرشيد. أن على بابا لما نوى الانتقام. من الأربعين حرامى اللئام. أراد أن يوقع بهم فى الشرك. فاستعان برجال الشرطة والدرك. ولما ذهبوا معه إلى المغارة. أعطاهم على بابا الإشارة. فهجموا من قبو محفور. وفر اللصوص من باب مسحور. فخرجت الشرطة فى أعقاب الزمرة الشريرة. وراحت تطاردهم فى معركة مريرة. ولكن الشرطة لم تلحق بتلك الزمرة. فقد ركبوا الطائرة لأداء العمرة».
لم تكن هذه الحكاية الخيالية الساخرة إحدى قصص ألف ليلة وليلة، لكنها مقطعا من مجموعة «2/1 كلمة» للكاتب الكبير أحمد رجب، ورغم أنها نشرت فى عام 1975، وكان عنوانها «على بابا والأربعين حرامى»، إلا أنها تبدو معبرة تماما عن أحداث ما بعد ثورة 25 يناير. نقرأ فيها فلول النظام السابق، وتغيب الشرطة، وتوطن الفساد فى مؤسسات الدولة. هل كان يستشرف المستقبل كما يتردد اليوم عن كل الكتابات التى انتقدت الأوضاع السابقة وشكلت غصة فى حلق النظام السابق؟ أم أن الأمر يرتبط بالكتابة الساخرة نفسها التى تغوص فى الواقع ومشكلاته وتعبر عنه بشكل فنى قوامه الخيال والإبداع، فتصبح بالضرورة تعبيرا صادقا عما نعيشه واستشرافا فى كثير من الأحوال لما هو آت؟ وهو الذى لم يدخر وسعا فى محاربة «الزمرة الشريرة» من خلال زاويته الشهيرة «2/1 كلمة» فى جريدة الأخبار التى بلغت اليوم يوبيلها الذهبى، أو أفكاره التى كانت الوقود الأساسى لرسوم فنان الكاريكاتير مصطفى حسين حيث كونا ثنائيا لامعا على مدى سنوات طوال بأخبار اليوم، تقطعت فترات لتعاود بقوة من جديد، وابتكر شخصيات كاريكاتورية مثل فلاح كفر الهنادوة، لسان حال المواطن البسيط، وعبده مشتاق الموظف المنافق الوصولى، وكعبورة عضو مجلس الشعب الانتهازى وغيرها من الشخصيات التى حفرت مكانها فى الذاكرة المصرية.
وكتب العديد من الأعمال الأدبية الساخرة مثل «توتة توتة» فى 1973، و«كلام فارغ» فى 1976 و«نهارك سعيد» فى 1985 و«صور مقلوبة» فى 1991، ومجموعة 2/1 كلمة فى 1975 وغيرها، وتميز رجب بالثقافة الواسعة التى يتطلبها الأدب الساخر الذى يستدعى الإلمام بمعارف شتى، وعرف بمهارته فى تنوع أشكال الكتابة، فيلجأ إلى الكتابة المصقولة التى تعد امتدادا عصريا للهجاء العربى الذى انتقل من هجاء الفرد إلى هجاء الجماعات وممارسات الحياة السياسية، مثل فصول «خلاصة الذهب فى أدب العرب» التى يتقمص فيها كتابة العرب الأوائل ويعرى الفساد المستشرى وصعود صغار النفوس على الساحة، أو يكتب ببساطة اللغة الصحفية الممزوجة بخفة الدم الفطنة الذكية فى تناوله للمشكلات الاجتماعية ومشاكل الأزواج، مثل الظاهرة التى أسماها «الخرس الزوجى» والتى تصيب الزوج بعد سنوات من الزواج، وأرجعها رجب فى سياق عالمه الساخر إلى اتهام التليفزيون ــ على المستوى العالمى ــ «بأنه المسئول عن إصابة «فن الحديث» بين الزوج وزوجته باسفيكسيا الخنق!» أو تبنيه لشكل الموال أو الشكل الإعلانى فى الكتابة الساخرة مثل حملاته النقدية ضد البرامج التليفزيونية (مثل الإعلان عن جهاز تليفزيون مزود بمانعة صواعق تمتص البرامج القاتلة قبل وصولها إليك) أو المسلسلات المملة مثل الشعارات الدعائية التى كان يطلقها: «تبرعوا لمنكوبى تمثيلية السهرة». أو الكتابة الدقيقة الصحيحة الموجزة التى تجلت فى زاوية «2/1 كلمة» وصارت مدرسة تدرس فى فصاحة ما قل ودل، أو مثل كتابة المعاجم فى فصل «من قاموس دليل المغتاظ فى معرفة الألفاظ» والذى يظهر فيه تهكمه الشديد على سبيل المثال من تصريحات المسئولين التى لا تتجاوز فض المجالس ويدخل فيها عنصر الخيال والضحك على المواطنين. حيث نقرأ فى تعريفه لكلمة «صرح»:
صرح يصرح تصريحا. أى قال القول الصريح.
ويقال: هذا رجل أصروح، أى يقول التصريح فى متعة ولذة ثم يستغفر الله فى سره.
ويقال: هذا رجل صرحرح، أى يستغيث ألما إلى أن يستريح بقول تصريح.
ويقال رجل صرحوان، أى رجل يؤمن بما جاءت به التعاليم السماوية: لا تقتل، لا تكذب، لا تصرح.
ويقال رجل صرحمان: أى يصرح ثلاث مرات فى اليوم قبل الأكل وبعده، ويقال عنه أيضا صريح ــ بتشديد الراء، وتنطق بالعامية :سريح، أى آخر سرح.
لم يدخر أحمد رجب انتقاداته اللاذعة فى أحلك اللحظات حتى حين اندلعت ثورة 25 يناير التى انتظرها طويلا، أشاد بشباب الثوار فى زاويته «2/1 كلمة» أكثر من مرة ووصفها قائلا «إننا تحملنا النفاق والقمع إلى أن جاء هؤلاء ليخلصونا بمنتهى التحضر». وحين حلت ساعة التكريم، حصد صاحب النص كلمة أعلى الأصوات ليكون اسمه باكورة جائزة النيل، أرفع جوائز الدولة فى الآداب، بعد أن تخلصت من اسمها القديم (جائزة مبارك سابقا). واعتبرها البعض جائزة تأخرت طويلا بسبب مواقف صاحبها، الذى طال قلمه كل مظاهر الفساد من توريث الحكم، إلى تهافت الوزراء وفساد الحياة النيابية وغياب الديمقراطية وتفشى ظاهرة الأحزاب الكرتونية التى لا تعبر عن أى توجه، تتركها الحكومات تترعرع وما إن تنهض حتى تزرع الصراعات داخلها.
واعترض البعض الآخر على فوز صاحب «الحب هو» بها فى فرع الآداب بينما ينتمى هو إلى الكتابة الصحفية والكتابة الساخرة وليس أديبا بالمعنى العام، رغم أنه تفوق على منافسيه فى التصويت العلنى على الجائزة مثل كاتب القصة يوسف الشارونى وأستاذ الأدب العربى والناقد صلاح فضل وأحد رواد الأدب المقارن العالم الطاهر المكى وأستاذ الأدب الإسبانى محمود على مكى، ورغم أنه حصل على 25 صوتا فى مقابل 13 صوتا لمنافسه فى الجولة الثالثة الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى. فكون أن أحمد رجب الكاتب السياسى والقلم الذى تربع على عرش الكتابة الساخرة خمسين عاما يستحق أرفع جائزة تمنحها الدولة المصرية، فهو أمر مسلم به. أما العيب فقد يكون فى الجوائز ذاتها، فى محدوديتها وعدم اتساعها لتشمل جائزة لشخصية بارزة فى مجالها أو علم من الأعلام أو لتكن فى الكتابة الصحفية وليست فقط جائزة عامة فى الآداب. وسيكون من الضرورى إعادة تعريف دور الأديب هل هو من يجعل غيره يقدّر الأدب بما لديه من فصاحة وبلاغة وعلم وكتابة رفيعة أم الكاتب الذى ينجح فى صنع عالما متخيلا متكاملا يوازى الواقع، كما سيتعين إعادة تقييم المعارف والفنون من جديد، بحيث لا ينظر إلى شعر العامية أو قصيدة النثر نظرة فوقية، أو يخرج فن الكاريكاتير من دائرة الفنون، أو يصبح الأدب الساخر خارج دائرة الأدب التى تخص الصفوة، فنعيد تكريس نوع من الطبقية والمكارثية. نعم أحمد رجب ليس بهذا المفهوم مثل بهاء طاهر أو إبراهيم أصلان، لكنه كاتب ساخر تفتح لنظرائه الأبواب على مصراعيها فى بلدان العالم. فالفارق كبير بين الأدب الساخر ذو الرؤية وزاوية نظر للعالم والأدب الضاحك السريع، كما قال الكاتب الفلسطينى غسان كنفانى «إن السخرية ليست تنكيتا ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجى والكاتب الساخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحى مهرجا».
هل لديك تعليق؟ اطبع التعليقات