عنبر ضحايا الرصاص في قصر العيني
الأطباء يعترفون بالعجز عن علاج المرضي لقلة أعدادهم
وممرضة واحدة تدير العنبرتحقيق: محمود عبدالرحمن
»إذا ناشدتك روحك لمشاهدة ضحايا أحد فصول المعارك العسكرية، فلا تطلب منها أن تمهلك بعض الوقت لحين قيام حرب عالمية ثالثة، أو لحين قيام أحد المخرجين بتصويرها في فيلم سينمائي، وأخبرها بموافقتك علي الفور.. ولا تقلق..
لأن ذلك لن يكلفك سوي أن تستقل مترو الأنفاق وأن تنزل منه في محطة السيدة زينب، وبعد أقل من عشر دقائق من السير علي قدميك وسط زحام البائعين وسيارات الأجرة سوف تجد نفسك أمام مبني »قصر العيني القديم«
وعند البوابة الرئيسية، اخرج من جيبك خمسة جنيهات وادفعها الي حارس البوابة، وسوف يعطيك تذكر زيارة، واحظر أن تدخل بدونها لأنك سوف تقابل بالداخل حراس عنابر ليس عندهم أسهل من أن يرموك وأهلك بسباب وشتائم لم تسمعها من قبل وسوف يجبروك علي دفع ثمن التذكرة، ولكن هذه المرة دون أن تأخذها.
وبعد السير داخل المستشفي ببضع دقائق اسأل عن المكان الذي يوجد فيه »عنبر خمسة جراحة«، وسوف تجده يحتل المبني الأخير في المستشفي من ناحية الغرب، وعند الوصول اليه اطلب من روحك أن تستعد لمشاهدة ما تبغيه، أناس تبدو وكأنها تخرج من ساحة معركة عسكرية منذ بضع دقائق، واطلب منها أيضاً ألا تعلق علي ما تراه حتي يكتب لها النجاة وتخرج بنفس حالتها التي دخلت بها »عنبر خمسة جرحة«.. شديد الشبه بعنبر الحبس الانفرادي، واختلط فيه الحابل بالنابل، خصصته ادارة قصر العيني للمصابين بطلق ناري وجروح خطيرة، فيه مجرمون اصيبوا في معارك ومطاردات أثناء محاولتهم الهروب من قوات الجيش والشرطة، وآخرون التحقوا به بعد ان تمكنت قوات البوليس من القبض عليهم أثناء مشاجراتهم مع آخرين، منهم قاتل ومنهم قاطع طريق، ولكن الخطير في الأمر أن بينهم مواطنون شرفاء أصيبوا في معارك ومطاردات أثناء محاولتهم الهروب من قوات الجيش والشرطة، وآخرون التحقوا به بعد أن تمكنت قوات البوليس من القبض عليهم أثناء مشاجراتهم مع آخرين، منهم قاتل ومنهم سارق ومنهم قاطع طريق، ودفعتهم ظروفهم المعيشية السيئة الي الاحتماء بجدران القصر العيني لتلقي العلاج، بالاضافة الي عدد من السيدات اللاتي تعرضن لنفس أعمال الشغب ودفعتهن ظروفهن للنوم وسط هؤلاء الذئاب.
والعنبر عبارة عن حجرة كبيرة في الدور الأرضي للمستشفي، تفتح نوافذه علي شوارع جانبية، تنبعث منها روائح كريهة نتيجة تخزين أكياس الزبالة والمستلزمات الطبية المستعملة فيها لوقت طويل لحين وصول سيارة النظافة لحملها خارج المستشفي، يوجد به ما يقرب من 55 سريرا ممتلئة عن آخرها بالمرضي، كلهم مصابون بأعيرة نارية، وفي حالة خطيرة، يترأسه طبيب شاب في العقد الثالث من عمره. بالتناوب مع آخرين، ملتح ويبدو هادئاً، اجاباته الصريحة بعدم تمكنه من متابعة المرضي بصفة مستمرة نظرا لزيادة أعدادهم ووجوده بمفرده مع عدد من طلبة الامتياز، تجبرك علي أن تخفف حدة صوتك وأن تنصرف من أمامه بدون الوقوع معه في مهاترات لفظية، بالاضافة الي عدد متغير من طلبة كلية الطب جاء كل منهم للبحث عن مادة علمية تؤهله لاجتياز امتحان آخر العام، طريقتهم في الحوار لا تثير غضبك، لكنها تثير استياءك من عجزهم عن تخفيف آلام المرضي، وينتشر فيه عدد قليل من أفراد الأمن الذين جاءوا لقضاء خدمتهم علي عدد من المجرمين المصابين، وتبقي القصة الأشهر بين المرضي داخل العنبر هي قصة الممرضة العجوزة التي تجلس علي جردل بلاستيكي بجوار مدخل العنبر مباشرة، وتعود شهرتها الي رفضها القيام من مكانها دون دفع »الفزيتيه«، بالاضافة الي اشتراكها في عدد من الترتيبات الخاصة مع عدد من المرضي، ويبقي الباعة الجائلون الذين حولوا العنبر الي سوق تجاري، هم أيضا لهم طقوسهم الخاصة، فلكل منهم وقت خاص به لا يحق لغيره الدخول الي العنبر فيه، بالاضافة الي عدم بيع نفس المنتج الذي يبيعه غيره.
القصص والحكاوي داخل العنبر كثيرة وكثيرة، منها ما يجذب انتباهك ويجعلك تستمع الي آخر الحكاية لتعرف تفاصيل نهايتها، ومنها ما يثير شفقتك ويثير أمنياتك بأن تتحول الي طبيب حتي تتمكن من مساعدة الشاكي، منها المرتبطة بالانفلات الأمني والتي تجعلك تندم لقيام ثورة 25 يناير التي تسببت ـ ظاهرياً ـ في ضرر الكثيرين.
»الوفد« اقتحمت العالم السري لعنبر الجنايات الموجود بالقصر العيني واستمعت الي قصص وشكاوي وأنين عدد من نزلائه الذين تعرضوا لأعمال البلطجة، بالاضافة لبعض قصص البلطجية وقطاع الطرق وأصحاب السوابق الذين جمعتهم بهم الظروف عن قرب، وناشدوا المجلس العسكري ووزير الصحة بضرورة التدخل لفصلهم عن أصحاب السوابق، الذين لا يأمنون النوم ولو لدقائق بجوارهم.
علي السرير الثاني من ناحية اليسار يرقد »أحمد شلبي« شاب في منتصف العقد الثالث من عمره، تبدو عليه علامات الهدوء، رغم صعوبة ما يعاني منه، دخل الي العنبر منذ أسبوع بعد اصابته بطلق ناري أصاب الناحية اليمني من بطنه ونفذ الي الناحية اليسري، مما تسبب في إتلاف الكلية اليمني مرورا بجزء كبير من الأمعاء وانتهاء بتهتك القطانية، علي يد أحد البلطجية أثناء ذهابه لحضور عرس شقيق أحد أصدقائه، لا يقوي علي التحدث، وترك مهمة الشكوي لوالديه وأقاربه الذين يجلسون بجواره ليل ونهار للتخفيف عنه، واكتفي بالصريخ بصوت عالي طالبا أن يخرج من العنبر ولو إلي القبر، أما والداه فقد اشتكا بشدة من اهمال الأطباء، بالاضافة الي نقص الخدمات داخل المستشفي وخاصة أجهزة الأشعة التي تجبرهم علي حمل ابنهم والخروج به من المستشفي لإجرائها له والعودة مرة أخري، والخطير في الأمر هو عدم قدرتهم علي تحرير محضر بالواقعة خاصة بعد تهديد وتوعد أهالي البلطجي الذي أطلق عليه الرصاص بالقتل في حالة تحرير المحضر.
أما »اسلام محمد« فلم يشتك من اهمال الأطباء الذي لا ينكره بقدر الضوضاء والقلق الذي يرتابه من أصحاب السوابق الذين ينامون معه في نفس العنبر والذين لا يكفون عن تدخين السجائر العادية والمحشوة بالمخدرات، بالاضافة الي كثرة عدد أمناء الشرطة الموجودين في العنبر والذين جعلوا منه حبسا انفراديا داخل أحد السجون.
أما قصة اصابته فهي أقرب للخيال منه الي الواقع وخاصة أنه شاب صغير لم يتجاوز عمره سن العشرين، كان يعمل في احدي ورش الكاوتش بمنطقة كريستال عصفور في حي شبرا الخيمة وأثناء وقوفه أمام الورشة شاهد اثنين من البلطجية يقومان برمي زجاجات مملوءة بالبنزين المشتعل علي احدي سيارات الأجرة أسفرت عن اشعال النار فيها بعد أن تمكن السائق والركاب من الهروب، حاول ومعه آخرون اخماد النار المشتعلة ولكنهم لم يتمكنو،ا بعدها بمدة لا تزيد علي الساعة فوجئ بعودة السائق ومعه مجموعة من الأشخاص تبدو عليهم علامات الاجرام، يسألوه عن اسم الذي قام باشعال النار في السيارة، ورغم تأكيده لهم علي عدم معرفته بهم الا أنهم اصطحبوه الي أحد الشوارع المقطوعة، وأثناء حديثه معهم فوجئ بأحدهم يصيبه بطلق ناري في ذراعه اليمني الأيمن نتج عنه فصله عن جسده الا في جزء بسيط منها، وفروا هارين، ليبدأ »إسلام« رحلة معاناة في علاج ذراعه.
ورغم صعوبة القصتين السابقتين، الا انهما يعتبران أيسر من هذه القصة التي لن نذكر اسم ضحيتها احتراما لرغبته ـ فبطلها رجل تجاوز عمره الخمسين بقليل، خرج مع زوجته في أحد شوارع حلوان لقضاء حاجات منزله فوجئ بخمسة من البلطجة والمسجلين خطر يستوقفونه هو وزوجته، وأخذوهم الي أحد المناطق المقطوعة، وتناوب الذئاب اغتصاب زوجته امام عينيه، وعندما هم لانقاذها، اذ بهم يقومون بقطع قدميه الاثنين، والأكثر من ذلك استمروا في عملية الاغتصاب أمام عينيه، وبعد أن فرغوا بعد عدة ساعات، تركوا زوجته بجواره في حالة اغماء تامة ليبقيا في مكانهما حتي الصباح لحين مرور أحد الأشخاص والذي قام بنقلهما الي المستشفي.
وعن قصص وحكايات البلطجية داخل العنبر فحدث ولا حرج، فمعظمهم من المسجلين وأصحاب السوابق الذين وجدوا في غياب الأمن الفرصة في استعادة نشاطهم من السرقة والتسول واعمال البلطجة، وجودهم في المستشفي لا يؤذي المرضي المجاورين لهم فقط, ولكنه يثير استياء الأطباء المعالجين لهم, حيث يتعرضون لهم بالسباب والألفاظ النابية بصفة مستمرة, أصبح لهم عالمهم الخاص, يتبادلون العصائر والطعام، ويخدم بعضهم البعض, ولم يصبحوا في حاجة الي مرافقين من أهلهم لأنهم أصبحوا (كثرة) دائما ما يخلعون الملابس عن أجسادهم , عند دخول الليل يقومون بضم سريرين يجلسون عليهما لتبادل الحديث والتفاخر بعدد القتلي والمصابين الذين خلفهم وراءه في معاركه، الأقتراب منهم خطورة لا تقبل التشكيك, ولكن حكاياتهم المتناثرة يعرفها الجميع, سمعنا بعضها من المرضي المشتركين معهم في العنبر، قصوها علينا أملا في تدخل أحد المسئولين إنقاذهم من النوم بجوارهم.
علي السرير الاول من ناحية اليسار عند مدخل العنبر يرقد (أ ـ ش) صاحب أفظع الشتائم والسباب التي دائما ما يوجهها الي الأطباء, طويل القامة ونحيف الجسد, تظهر علي وجهه علامات الادمان, دخل الي المستشفي منذ أكثر من عشرين يوما, بعد إصابته بطلق ناري اخترق صدره في مشاجرة مع عدد من البلطجية في منطقة المعصرة بحلوان, دائما ما يفتخر بأنه لم يصب الا بعد أن قتل خمسة من المشتبكين معه ويتوعد الباقين منهم عند خروجه يرفض الانصات لتعليمات الأطباء ودائم الشجار معهم, ودائما ما يعترض عاملات النظافة الغريب في الأمر والذي يثير ذعر المرضي المجاورين له هو الشكل العام لزواره والذين تبدو عليهم جميعا أعمال الشغب والبلطجة ـ وبعد أربعة أسرة فقط من سريره يتجمع أربعة من نزلاء العنبر في مكان أطلقوا عليه (وكر الشقاوة)، وعلي الرغم من حالتهم الصحية السيئة الا أنهم يصرون علي قضاء الليل في الحديث مع بعضهم , لكل منهم قصة تختلف عن الأخري وإن كانوا يتشابهون جميعا في اعمال الشغب وأستغلال الأنفلات الأمني, (ح ـ س) لم يتخط عمره الثلاثين، أصيب علي يد قوات الشرطة بعد أن شاهدته إحدي دوريات الشرطة تمر في منطقة إمبابة وهو يقوم بأعمال بلطجة وفرض إتاوات علي الأهالي, رفض الاستسلام وأطلق أعيرة نارية من إحدي البنادق الألية عليهم وأصاب امين شرطة ، ولكنهم استطاعوا السيطرة علية بعد أن إصابته بإحدي الطلقات في فخذه الأيمن , أما (ع ـ م) من منطقة السيدة زينب, فدائما ما يفتخر بممارستة لسرقة »التكاتك« وتثبيت أصحابها وأخذ ما معهم من مال وأجهزة محمول, يرفض توضيح طريقة إصابته ويكتفي بالقول بأنه طلق ناري طائش أصابه دون قصد البقاء لوقت أطول داخل عنبر الجنايات فرصة لا تتكرر وخاصة إذا حالفك الحظ ودخلته دون عقوبات وكان لك دليلك بالداخل, ولكن التردد عليه أو محاولة البحث عن إجابات لأسئلة تدور برأسك قد تؤدي بك للوقوع في مخاطر وإهانات لا تقبلها لنفسك، لذلك قررت الخروج منه بعد أن حصلت علي المادة التي كنت أبحث عنها، عازماً علي الا أعود اليه مرة أخري.