فلسطينيون يحتفلون بمنحهم الجنسية المصريةد.عصام شرف رئيس مجلس الوزراءكتبت هدى زكرياوقف قاطعًا الطريق المؤدى لمكاتب استخراج الجنسية المصرية فى الطابق الأول بمجمع التحرير، رأيته يتحدث لهذا ويرشد ذاك، يهرول لاستكمال أوراق سيدة عجوز ويقبل جبين رجل كهل، لفت انتباهى إليه تلك الرابطة الموضوعة حول عنقه، ويظهر عليها العلم المصرى يحتضن شقيقه الفلسطينى، وصوته المرتفع يملأ الطرقات قائلاً "صدقونى إحنا مصريين وده حقنا ورجعلنا.. كلنا هنعيش بكرامة"، فيبعث بتلك الكلمات القليلة الطمأنينة فى قلب من حوله، خاصة بعدما قام بدعوتهم لإقامة حفل جماعى لأول دفعة فلسطينية تحصل على الجنسية المصرية، فينفض من حوله السائلين وهم يدعون له بالصحة والعافية.
لم يعرف جهاد مروان محمد (26 عامًا)، أن "حلم" حصوله على الجنسية المصرية سيتحقق يومًا ما، فكثيرًا ما طالب وزارة الداخلية المصرية بمنحه الجنسية احترامًا لحق والده الفلسطينى، الذى شارك فى حرب 73 وساهم فى تنفيذ عملية تفجير ميناء إيلات ونال كثيرًا من الأوسمة الشرفية تقديرًا لذلك، وللأسف لم يستجب له أحد طوال العقود الماضية وكان هذا الرفض تحت مُسمى "لا يجوز لدواع أمنية".
ولكن جاءت ثورة 25 يناير كما يقول "مروان" لتقلب كل الموازين رأسًا على عقب، وتأكد له أنه أصبح مصريًا قولاً وفعلاً، بعدما تعرض لضغوط ومضايقات طوال حياته لكونه "أجنبيًا"، فيتذكر على سبيل المثال مشهد والد حبيبته وهو يرفض زواجه منها، لأنه غير مصرى على الرغم من أنه قضى حياته كلها داخل مصر ولم ير فلسطين إلا مرة واحدة عندما أراد والده أن يعرفه على تاريخ أجداده، كما يحكى كيف قوبل طلب توظيفه فى إحدى شركات البرمجة الكبرى بالرفض لمجرد أنه يحمل وثيقة مصرية وليست الجنسية مقابل آخرين أقل منه كفاءة وعلمًا وعذرهم أنهم من أب وأم مصريين.
ناهيك عن مصاريف المدارس والجامعة التى كان يدفعها أضعافًا مضاعفة ومنعه من السفر إلى الخارج لاستكمال دراسته، كل هذا جعله يتحمل هو والعشرات مطر وبرودة الشتاء فى الأيام الماضية، مطالبين بحقهم فى "مصريتهم"، فذهبوا للتعبير عن مطلبهم أمام وزارة الداخلية والخارجية وأخيًرا جامعة الدول العربية حتى صدر قرار "منح أبناء المصريات المتزوجات من فلسطنين الجنسية المصرية" ليكون له هذا بمثابة القرار "التاريخى".
سبب شعور مروان بالحزن طوال السنوات السابقة، هو أن الجنسية كانت تُمنح لكافة الأجانب باستثناء الفلسطينيين وهذا ما وضعه فى حيرة كبيرة جعلته يقول فى قرارة نفسه "الفلسطينيون غير مرغوب فيهم"، على الرغم من أنهم "جار" أولى بالمعروف فمنح الجنسية لهم أفضل بكثير من منح ابن الإسرائيلية المتزوجة من مصرى، الجنسية المصرية.
يقول مروان الذى يفخر فى كل كلمة ينطقها بأنه مصرى شارك بالثورة: كان السبيل الوحيد أمامنا للحصول على الجنسية قبل ذلك هو إقامة دعاوى قضائية تتكلف 6000 جنيه، ولكن إذا استطاع الفلسطينى المقتدر أن يدفع هذا المبلغ، فمن أين ستأتى به امرأة فقيرة ولديها 6 أطفال على سبيل المثال كلهم يطالبون بحقهم فى وطنهم؟، وحتى بعدما صدر قرار 2004 بمنح الجنسية المصرية لأبناء الفلسطينيين من مواليد نفس العام أصبحنا أمام مشكلة أكبر وهى أن الأسرة التى لديها أطفال بداية من عام 2004 أصبحوا مصريين، أما كل ما هو قبل ذلك مازال فلسطينيا، وبالتالى أصبح الأشقاء يحملون جنسيات مختلفة داخل المنزل الواحد، ويمكن فى أى وقت ترحيل الفلسطينى ليعيش ببلد وشقيقهُ ببلد آخر.
يمسك مروان برابطته قائلا: أنشأنا صفحة على الموقع الاجتماعى "الفيس بوك" بعنوان "الفلسطينيون من أم مصرية"، وفى البداية انضم لها 5 أفراد فقط، وفى غضون ساعات تضاعف العدد ووصل إلى 5 آلاف فلسطينى يرغب فى الحصول على الجنسية المصرية، وقررنا الاعتصام أمام مجلس الوزراء، ووزارتى الداخلية والخارجية وجامعة الدول العربية، حتى صدر القرار واستقبلناه جميعًا بالدموع، ولكن لم نتوقف عند هذا الحد وصممنا على النزول للمجمع ومساعدة الناس والموظفين على حد سواء لنشعر جميعًا أننا مصريون لأول مرة.
بجانبه وقفت سارة خضر (30 عاما) تعبر عن فرحتها بصدور القرار وتستشهد بوقائع حدثت معها قبل ذلك كانت جميعها تشعرها أنها "سجينة" داخل مصر، من بينها حرمانها من عضوية نقابة الأطباء على الرغم من تخرجها من إحدى الجامعات الخاصة بتقدير مرتفع منذ خمس سنوات ومصاريف الجامعة التى كانت تدفعها بالعملة الصعبة مقارنة بزملائها لأنها "أجنبية"، وأيضًا منعها من استكمال دراستها العليا خارج مصر، لأنها تحمل وثيقة قد لا تُقبل فى بعض الدول، وحتى وإن تم ذلك فهى لا تستطيع العودة مرة أخرى لمصر بعد تجاوز مدة 6 أشهر فقط، المسموح بها.
ولذلك كان لقرار منح الجنسية المصرية وقع كبير على سمعها، وكأنه جاء ليسترد كرامتها من جديد ويشعرها أنها حرة، ويضرب لها مثالاً حيًّا فى التعاون بين الموظفين والمواطنين لأول مرة من وجهة نظرها فيجعلها تقول "بأن ثورة 25 يناير كانت خيرًا لكل العرب"، ويدفعها لمطالبة "أخواتها المقيمين فى دول عربية متفرقة أن يحضروا لمصر فى أسرع وقت ليعود إليهم وطنهم مرة أخرى".
وبالرغم من سعادة حامد زياد (25 عاما) بإقبال ما يزيد على 1500 فلسطينى حتى الآن للحصول على الجنسية المصرية، إلا أن كل ما يخشاه هو أن يكون هذا القرار سارى لفترة محدودة، وأن تعلن الحكومة بعد ذلك اكتفاءها بما تقدم للحصول على الجنسية، مشيرًا إلى أن هناك بعض المشاكل التى تقابل المواطنين وتحتاج لكثير من الوقت مثل تجديد جواز السفر أو إيجاد بديل لحالات سقوط القيد، خاصة لآباء الأمهات المصريات.
"زياد" المتخرج فى كلية تكنولوجيا المعلومات بفلسطين، قرر أن يأتى لمصر نظرًا لسوء الأوضاع الفلسطينية فترك أمه وإخوته وجاء ليستقر بها ثلاث سنوات، وفى البداية لاقى رفضا شديدا من قبل بعض الشركات فى توظيفه، حتى اعتمد على نفسه وأنشا أول مشروع حر، وتزوج من فتاة ظل يحبها لمدة عامين على الرغم من الهجوم الذى تعرض له من جانب أسرتها ووالدها تحديدًا.
عاش "زياد" طوال الثلاث سنوات وحتى صدور القرار فى خوف ورعب، يفضل الذهاب لعمله والمكوث فى منزله، فهو لا يحمل ما يثبت هويته سوى جواز سفره الذى وضعه قبل ذلك فى موقف صعب وعندما استوقفه كمين شرطة فى طريق الإسكندرية احتجزوه لديهم لمدة أسبوعين وأصروا على ترحيله لولا تدخل أحد أقاربه بالسفارة الفلسطينية لإطلاق سراحه، وفور صدور القرار، اتصل بأهله فى غزة، فما كان منهم إلا أن استقبلوا الخبر بالبكاء والزغاريد معاً، وقرروا جميعًا العودة لمصر بعد انتهاء العام الدراسى لاستخراج الجنسية المصرية.
إذا جئت لمجمع التحرير، سترى المواطنين الفلسطنيين يلتزمون بدورهم فى الطابور أمام المكاتب، ويشيدون بتسهيل الإجراءات فى مشهد لم يروه منذ فترة طويلة، ويتحدثون عن التعاون بين الموظفين والمواطنين والضباط رافعين شعار "مضى الكثير وما تبقى إلا القليل.. وأخيرًا عادت إلينا كرامتنا من جديد".