مالك بن دينار
قال وهو على فراش الموت: اللهم إنك
تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لفرج أو لبطن
حسبنا أن نتحدث اليوم عن
أحد أولياء الله الصالحين, الذين إذا قرأنا سيرتهم ورياضتهم في عبادة الحق تبارك
وتعالى وزهدهم في الدنيا وملذاتها طمعًا في نعيم الآخرة, والجائزة الكبرى التي هي
رضاء ربهم عنهم, في يوم يقول فيه كل امرئ "نفسي.. نفسي"..
انه "مالك بن
دينار", أبو يحيى "من رواة الحديث", وأحد القراء, زاهد في محراب الورع, وواعظ من
الصالحين, كان يكتب المصحف بالأجر, ولا يزيد في أجر كتابته عن طعامه وشرابه, فيدفعه
عند البقال فيأكل منه, أبطل بزهده سحر الدنيا, وفتح أبواب قلبه لأفواج الخير, وأشعل
الجوع في عروقه نار القرب من الله.
وُلد في بيت تربع الإيمان في قلوب أهله,
وحشوا أفئدتهم باليقين.
سبب توبته كما ذكر فريد الدين العطار النيسابوري,
مؤلف كتاب" تذكرة الأولياء",
أنه كان شديد الجمال, ومحبًا للدنيا, ولديه
مال وفير, كان يقيم في دمشق, وكان معاوية قد بنى مسجد دمشق الجامع, وأوقف عليه
أوقافًا طائلة فطمع مالك في أن يعهد إليه بأمر ذلك المسجد.
فذهب, وطرح
سجادة في زاوية المسجد, وظل يتعبد بصفة مستمرة لمدة عام, على أمل أن كل من يراه,
يجده يصلي. وكان يقول لنفسه: أنت منافق, حتى انقضى عام على هذا الأمر. فأخذ يخرج من
هناك ليلا, ويتجول.
وذات ليلة انشغل بالطرب, وعندما نام رفاقه, انبعث صوت من
ذلك العود الذي كان يعزف عليه قائلا: "يا مالك, مالك الا تتوب?"
وعندما سمع
ذلك, كف عن العزف ثم ذهب إلى المسجد حائرًا, وهو يفكر, وقال: ألم يكن من الأفضل أن
أعبد الله بإخلاص من أن أعبده بنفاق, وأن أخجل مما أفعله? وإن عهد لي بتولي أمر هذا
المسجد, لن أقبل, وعقد العزم على هذا, وأخلص النية لله, وأخذ يتعبد تلك الليلة بقلب
صادق.
وفي اليوم التالي, تجمع الناس أمام باب المسجد, وقالوا: نرى خللا في
هذا المسجد, كان يجب أن يتعهده أحد, ثم اتفقوا على مالك, فليس هناك من هو أجدر منه
بذلك: وتقدموا إليه, وكان يصلي, فصبروا حتى فرغ, وقالوا: لقد جئنا متشفعين كي تقبل
هذه الولاية.
فقال مالك: إلهي, لم ينظر إلى شخص قط طيلة عام عبدتك فيه
برياء. والآن عندما أسلمت لك القلب, وصححت اليقين بزهدي فيه, أرسلت لي عشرين شخصا,
ليلقوا بهذا الأمر على عاتقي, فبعزتك أنا لا أريده.
عندئذ خرج من المسجد, واتجه
إلى العبادة, وسلك طريق المجاهدة والرياضة حتى علا شأنه وعظم أمره.
قال
يوما: رغبت في الغزو أعواما وقد حدث أن ذهبت إلى الروم, وفي اليوم الذي وجب فيه
القتال أصابتني الحمى بحيث إنني عجزت, فدخلت الخيمة, ونمت حزينًا, وكنت أقول لنفسي
آنذاك: أيها الجسد, إن كانت لك منزلة لدى الحق تعالى, لما كانت أصابتك هذه الحمى
اليوم.
ثم استغرقت في النوم فهتف لي هاتف: لو كنت حاربت اليوم لأُسرت,
وطالما أسرت, يقدم إليك لحم الخنزير, فإن أكلت كفرت, فهذه الحمى كانت هدية عظيمة
لك.
قال مالك: استيقظت من النوم, وشكرت الله.
حريق البصرة
رُوي أن حريقًا وقع بالبصرة ذات يوم, فحمل
مالك عصاه ونعليه, واعتلى مرتفعًا, وأخذ يتطلع إلى الناس وقد سقطوا أسرى للمتاع
والأسباب, فكانت مجموعة تحترق, ومجموعة تقفز, ومجموعة تجر المتاع.
فكان
مالك يقول: "نجا المخفون وهلك المثقلون". وسيكون الأمر
هكذا يوم القيامة.
رُوي أيضا أنه ذهب ذات يوم لعيادة مريض. فقال: نظرت إليه,
وكان أجله قد اقترب. عرضت عليه النطق بالشهادة.
فلم ينطق, مهما حاولت أن
أقول له انطق, كان يقول: "عشرة إحدى عشرة.. عشرة إحدى
عشرة", عندئذ قال: أيها الشيخ, أمامي جبل ناري, كلما أهم بالشهادة, تنتزع
النار صوتي. فسألت عن حرفته, فقيل كان يقرض المال بالربا, ويغش المكيال.
قيل
إن مالكًا عندما كان يقرأ قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك
نستعين" كان يبكي منتحبًا, ثم كان يقول: لو لم تكن هذه الآية من كتاب الله,
ولو لم يأمر بها, لَما قرأتها. لأنني أقول: إياك نعبد وأنا أعبد نفسي, وأقول: إياك
نستعين وأذهب إلى باب السلطان, وأشكر كل شخص وأشكو له.
رغيف بلبن رائب
أشار محمد صديق المنشاوي في كتابه
"الزهاد مئة.. أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم" إلى أن
مالك ابن دينار جلس في وقت الضحى إلى رجل من أصحابه, وقال له: إني لاشتهي رغيفًا
بلبن رائب منذ أربعين سنة, فانطلق الرجل كالريح إلى بيته, وأحضر رغيفًا بلبن رائب,
ثم أعطاه إلى ابن دينار, فأمسك ابن دينار بالرغيف, وراح يقلبه بين يديه وينظر إليه,
ثم قال باستخفاف: اشتهيتك منذ أربعين سنة, فغلبتك حتى كان اليوم تريد أن تغلبني,
إليك عني وأبى أن يأكله.
وعن طعامه وما يجعله في بطنه من اللحوم وطيبات
الطعام, كان يقول مالك: إنه لتأتي علي السنة لا آكل فيها لحمًا
إلا في يوم الأضحى, فإني آكل من أضحيتي لما يذكر فيها من هَدى
وسُنة.
وكان يقول بلسان الندم, وقلب متصدع من الأسى: اشتريت لأهلي ظبيًا
بدرهم وإني لأحاسب نفسي فيها منذ عشرين سنة فما أجد مخرجًا.
وذات يوم, وفي
عجب وتبختر وخيلاء, مر والى البصرة بموكبه المهيب أمام مالك ابن دينار, فصاح به
مالك يزجره قائلا: أقل من مشيتك هذه, فهم خدم الوالي وعسكره أن ينالوا من مالك,
فتدخل الوالي قائلا: دعوه, ثم أقبل في غروره عليه, وهمس في تفاخر قائلا: ألا
تعرفني?
قال مالك في رسوخ الجبال: بلى, ومن أعرف
بك مني, أما أولك فنطفة قذرة, وأما آخرك فجيفة نتنة, ثم أنت بين ذلك تحمل العُذرة,
فطأطأ الوالي رأسه منصرفًا وهو يقول: الآن عرفتني حق المعرفة.
وفاته
لما رقد مالك بن دينار في فراش الموت, كان يكيد
بنفسه, ويرفع رأسه إلى السماء ويقول: اللهم إنك تعلم أني لم أكن
أحب البقاء في الدنيا لفرج ولا لبطن, ثم فاضت روحه الكريمة سنة 131 هجرية
بالبصرة.
ورأى شيخ في المنام آخر القيامة, حيث كان يتردد نداء قائلا:
انزل يا مالك بن دينار أنت ومحمد بن واسع في الجنة. قال: نظرت أيهما يسبق الآخر على
الجنة. فتقدم مالك. قلت: يا للعجب! إن محمدًا بن واسع أفضل وأكثر علمًا. فقيل:
بلى لكن كان لمحمد بن واسع قميصان في الدنيا, ولمالك واحد. من
هنا كان هذا الاختلاف, فهنا لن يستوي رداء مع رداءين قط. أي أصبر حتى تفرغ من حساب
قميص زائد.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين