سؤال عن احتواء جمع أبي بكر للأحرف السبعة
--------------------------------------------------------------------------------
لقد سألني الأخ الفاضل حسين المطيري الأستاذ بقسم الدراسات القرآنية عن جمع أبي بكر رضي الله عنه ، هل يشمل الأحرف السبعة ؟
وأقول إنَّ موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي تحتاج إلى رسائل ، وليست رسالة واحدة ، وقد طرح الأستاذ محمد أبو زيد رسالته العلمية المعنونة بـ( جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث) في الأنترنت ، وهو موجود في موقع الخيمة ، وفيها فوائد نفيسة يحسن بمن له اهتمام بعلوم القرآن أن يرجع إليها .
وأعود فأقول : إن موضوع جمع المصحف عمومًا يرتبط بعدد من الموضوعات لا يمكن أن ينفكَّ عنها ، وإلا كان البحث ـ في نظري ـ في نقص ، وهذه الموضوعات :
1 ـ رسم المصحف .
2 ـ الأحرف السبعة .
3 ـ اختلاف القراءات القرآنية .
وإدراك هذه الأمور تحلُّ شيئًا كثيرًا من المشكلات الواردة على جمع المصحف .
ثمَّ إن بحث هذا الموضوع يحتاج إلى ثلاث مقدمات :
الأولى : جمع الآثار المتعلقة بجمع المصحف ، والمتعلقة بالموضوعات الثلاثة التي سبق الإشارة إليها لأخذ ما يفيد منها في موضوع جمع المصحف .
الثانية : تصوُّر الواقع الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم حال جمع المصحف في أزمنته المتعددة .
الثالثة : الاستنباط العقلي المبني على الآثار وتصوُّر الواقع .
وأعود إلى السؤال المطروح فأقول :
1 ـ إنَّ ما جمعه أبو بكر رضي الله عنه ليس فيه تفاصيل ، ولا يمكن الجزم بشيءٍ إلا أنه جمع المصحف ، والأصل أنَّ هذا المصحف يحتوي على القرآن النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومادام يحتويه فإنَّ إثبات الزيادة على كونه يحتوي أكثر من ذلك مما يحتاج إلى دليل خاصٍّ ، وليس من دليل يدلُّ على ذلك.
2 ـ إنَّ افتراض اختلاف المكتوب في مصحف أبي بكر رضي الله عنه عما بقي من المكتوب من القرآن على اللخف والرقاع وغيرها أمر لا يدلُّ عليه دليلٌ أيضًا ، والأصل أنَّ ما دوِّن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن النازل الثابت قراءته ، وهو الذي جمعه أبو بكر رضي الله عنه في مصحف واحدٍ ، فعمل أبي بكر رضي الله عنه إنما هو جمع متفرقٍ في مصحف واحدٍ .
وإنما أقول ذلك لأن الأمر عندي أنَّ ما يتعلق بالقرآن فإنَّ الأصل فيه التوقيف ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم ، بَلْهَ الصحابة رضي الله عنهم أي تدخُّلٍ فيه ، وذلك في حروفه وطريقة أدائه وترتب آيِهِ وسوره .
وجَهْلُ بعض الصحابة رضي الله عنهم بشيء من ذلك ، أو اجتهادهم رضي الله عنهم في ترتيب مصاحفهم على ترتيبٍ معيَّنٍ ـ إن صحَّ ـ فإنه لا يُخرج هذه الأمور عن كونها توقيفية ، هذا هو الأصل عندي ، ولست أرى أنه قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم مخالفة لما كان من شأن القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الأمر أنهم لم يُلزَموا إلزامًا عامًّا بشيءٍ من أمر القرآن إلا في عهد عثمان رضي الله عنه .
3 ـ إنه مما لا خلاف فيه أنَّ كثيرًا من قراءات القرآن ترجع إلى أمورٍ صوتية لا يمكن كتابتها ، فإن كانت هذه الصوتيات عند من يرى أنَّ أبا بكر جمع الأحرف السبعة ، فإنه يخالف هذا الأصل ؛ لنَّ هذا مما لا يمكن أن يُكتب ، ومن ثَمَّ فإن أبا بكر لم يكتبه على الأحرف السبعة بل نقص عنده ما يتعلق بالصوتيات من الإمالة والإدغام وغيرهما .
4 ـ كما أنَّ من نقل رسم المصاحف العثمانية أشار بوضوح صريحٍ أنَّ بعض الكلمات القرآنية كُتِبَت على وجه واحدٍ في الرسم ، وهي في القراءة تحتمل أكثر من وجه ، وهذا يدلُّ على أمور ، منها :
ـ أنَّ الرسم اصطلاح ، وهم كتبوه على الوجوه المتغايرة التي يعرفونها ، لذا وقع الاختلاف في كتابة بعض المتماثلات بوجوه مختلفة نظرًا لاختلاف التغاير في رسمها ، ولا يلزم منه أمر آخر ، كما اجتهد بعضهم في استنباط علاقة وجوه القراءة بتغاير الرسم ، وهذا قد يحصل في بعض المواطن لكنه غير لازم في جميع تغاير الرسم .
واختلاف التغاير في الرسم لازال حتى اليوم قائمًا بين الكَتَبَةِ ، وهو محلُّ تطوِّرٍ يعرفه من قرأ في موضوع الإملاء عبر القرون ، وهو اختلافُ تغايرٍ بحتٍ ، واجتهادٌ من العلماء ، والأمر فيه واسعٌ جدًّا ، وارجع إلى اختلاف المعاصرين في كتابة لفظة ( شئون / شؤون ) وغيرها ، وقس عليه في أمر تغاير الرسم .
ـ أن الكتبة من الصحابة لم يعتبروا اختلاف هذه الرسوم ، وجعلوا القراء هي القاضية على الرسم ؛ لذا تجدُ في كتاب (المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار) للداني ( ت : 44 ) بابًا بعنوان ( ذكر ما اتفقت على رسمه مصاحف أهل الأمصار من أول القرآن إلى آخره ) ، وقد ذكر فيه عددًا من كلمات القرآن كُتِبَت على وجه واحدٍ من الرسم ، وسأذكر منها مثالين يحسن بك أن تراجعهما في كتب الرسم ليظهر لك صحة ما أقول :
الكلمة الأولى : (( الصراط )) فقد كُتِبَت في جميع المصاحف بالصاد ، فيها ثلاث قراءات صحيحة ، وهي مما حُكِمَ بتواترِه .
الأولى : بالسين وهي رواية قنبل عن ابن كثير المكي .
الثانية : بإشمام الصاد زايًا ، وهي رواية خلف عن حمزة .
الثالثة : بالصاد كما رسمت في جميع المصاحف ، وهي قراءة الباقين ، وهم الجمهور (1).
فلو كان الرسم معتبرًا ، فلا أقلَّ من أن يرسموا الصراط في مصحف بالصاد وفي مصحف بالسين ، وإنما تركوا ذلك ؛ لأنَّ القراءة قاضية على الرسم ، وعندهم لا يؤخذ من الرسم طريقة القراءة ، فالقراءة أولاً ، والرسم تبعٌ .
الكلمة الثانية : (( ضنين )) ، وقد رُسِمت في جميع المصاحف بالضاد ، وقرئت على وجهين :
الأول : بالظاء ، وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي
الثانية : بالضاد ، كما هي مرسومة في المصاحف ، وقرأ بها الباقون من القراء السبعة .
وهاتان القراءتان لا يحتمل بعضهما البعض لا من جهة الرسم ولا من جهة المعنى ، وهذا مما يدلُّك أيضًا على أنَّ الأصل في قراءة القرآن نقل حروفه قراءة ، والرسم تبع له ، ولا يلزم أن يوافق الرسم جميع المحفوظ الملفوظ من القرآن الكريم ، والله أعلم .
وإذا تبيَّن لك هذا ، فاعلم أنَّ مصحف أبي بكر رضي الله عنه قد كُتِبَ على صورة واحدةٍ ، هذا هو الأصل ، مع احتمال أن يكون قد رسمت بعض حروفه التي وقع فيها تغاير في المصحف نفسِه ، في أي مكان منه إما في حواشيه ، وإما أن تكتب الكلمات المتغايرة متتالية ، وهذا لا يحكمه إلا الاطلاع المباشر على مصحف أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك ما لا سبيل إليه كما تعلم .
والمقصود من ذلك أنَّ كون أبي بكر رسمه على وجه واحد من الرسم فإنه لا يعني أنه أهدر وجوه القراءة الأخرى ؛ لأنها مما يُتلقى من طريق القراء لا من الرسم فتأمَّل هذا .
وإذا كان ذلك كذلك ، فلا يصحُّ أن يقال : إنَّ مصحف أبي بكر حوى الحرف السبعة ، ولا أنَّه حوى ما بقي منها مما لم يُنسخ ، إلا إذا عرَّف المتكلِّم بهذا مقصوده بالأحرف السبعة ، والله الموفق .
واعلم أنَّ الموضوع طويل ، ولا أراني ألممت إلا بمقصوده إلا على عجلٍ ، وهو لا يروي غليلاً ، ولا يشفي عليلاً ، وأسأل الله أن يوفِّق بعض الباحثين لإعادة النظر في هذا الموضوع الخطير ،و آخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــ
(1) قال السخاوي ( ت : 643 ) في الوسيلة إلى كشف العقيلة ( ص : 89 ) : (( قلت : ورأيت في كتاب القراءات لأبي عبيد عند ذكر الصراط ؛ قال أبو عبيد : والقراءة عندنا بالصاد ؛ لاجتماع المصاحف في الأمصار كلها على الخطِّ بالصاد )) .
وهذه طريقة من الترجيح معروفة قبل ابن جرير الطبري ( ت : 310 ) ، ولا أدري لماذا فُتِحت عين بعضهم على ابن جرير ( ت : 310 ) ، ولم تر أقوال الآخرين ، وإنما سُقت هذا هنا لأنبه إلى حاجة هذا الموضوع إلى بحث مستفيضٍ ، وهو من الموضوعات المهمة التي يحسن بالمتخصصين ألا يغضُّوا الطرف عنها ، وأن يبحثه أكثر من متخصِّص لتتواطأ أقوالهم على تبيين هذه المسألة الشائكة المهمة ، وأن يردوا تلك القالة المنكرة التي أُلصِقت بابن جرير الطبري الذي لم يكن بِدْعَا في هذا المنهج ، بل سبقه علماء ولحقه علماء ، وللموضوع جوانب أخرى تحتاج إلى بيان .
هذا ، وقد ألَمَّ بجوانب متعلقة بتاريخها الأستاذ الباحث زيد بن علي مهدي بن أحمد مهارش في رسالته العلمية التي قدمها ـ لقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بالرياض ـ لنيل درجة الماجستير ، وهي بعنوان ( منهج الإمام الطبري في القراءة وضوابط اختيارها في تفسيره ) .
__________________
الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض