(2) نظرات في المعرب ( موسى عليه السلام في مدين )
--------------------------------------------------------------------------------
(2) (نظرات في المعرَّب )موسى عليه السلام في مدين
قال تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص : 23 ـ 28 ) .
أولاً : مدين قرية عربية ، وهي في شمال الجزيرة على الجانب المقابل لمصر .
وهذا يعني أنَّ سكانها عربٌ يتكلمون العربية وقت موسى عليه السلام .
والملاحظ أنَّ موسى عليه السلام لم يحتج إلى ترجمانٍ للحديث مع المرأتين .
ولا يقال : إن وجود الترجمان محتملٌ ، إذ إن ذلك يلزم منه أن موسى عليه السلام صار يتكلم لغته ويبحث عمن يعرفها ثمَّ ذهب إلى المرأتين ووقع الخطاب ، ثم جاءت البنت وكلمت الترجمان ، ثم كلم الترجمان موسى عليه السلام ... الخ .
لا شكَّ أن تصور ذلك وافتراضه غير مرضيٍّ .
كما أن افتراض أنهم تكلموا بلغة الإشارة والرموز غير وجيه كذلك .
فإذا كان موسى عليه السلام قد كلَّمهما مباشرة دون ترجمان ، فما اللغة المشتركة التي كانوا يتحدثونها .
الذي يبدو ـ ظنَّا ـ أنها عربية تلك الزمان ، كانت مثل ما هي عليه اليوم لهجات العرب في مصر والجزيرة والشام والعراق ، حيث يمكن أن يتخاطب أولئك بلهجاتهم ، ويفهم بعضهم من بعضٍ .
فهل يا تُرى يحتاج المصري اليوم إلى ترجمان له إذا دخل مدينة ينبع ؟
الذي يبدو أن الحال كان كما هو عليه اليوم ، وإنما الأمر لا يعدو لهجات يتكلم بها كل أهل منطقة .
لا تستغرب ذلك ، فهل هناك ما يدل على غيره ؟
هل كانت مصر في يوم من الأيام بمعزل عن الاتصال بهذه البقعة العربية من جزيرة العرب ؟
إذن كيف اختار موسى مدين ، وجاء إليها إلا أن يكون هناك تواصل بينها وبين مصر .
واسمح لي أن أسألك عن لغة موسى ما هي ؟
وكأني بك ستقول : العبرية ( سيأتي حديث عنها في مقال لاحق إن شاء الله ) .
وأقول لك : من أين تولدت هذه اللغة ؟
وهل بقيت لغة يعقوب عليه السلام وأبنائه الاثني عشر صامدة أمام لغة المصريين حتى زمن موسى عليه السلام ( يُقدَّر الزمن بين موسى ويوسف عليهما السلام بستة قرونٍ تقريبًا ) ؟
لا يمكن تصوُّر هذا البتة ، إلا أن يكونوا في معزل تامٍّ عن مجتمعهم ، وذلك ما لم يكن .
ولعلك تقول : إن لغة العبادة بين بني إسرائيل يمكن أن تكون بقيت .
فأقول لك : حتى لو بقيت هذه اللغة ، فإنها لا تعدو ثلة من الأحبار قَرَأَةِ الكتب ، أما عامة بني إسرائيل فسيتكلمون باللغة التي تسيطر على المدينة التي يقطنونها ، كما هو الحال فيهم لما سكنوا جزيرة العرب انتظارًا لنبي آخر الزمان ، لعله أن يخرج منهم .
إن الموضوع كما ترى شائك متشابك ، لكن يكفيني أن أدعوك معي إلى التفكير من جديد في هذا الموضوع .
تنبيهان :
الأول : لا يصحُّ أن الذي نزل عنده موسى هو النبي شعيب عليه السلام ، لبعد ما بينهما في الزمن ، وإن كان اسمه شُعيبًا ، فلعله غير النبي عليه السلام ، وقد حقق ذلك جمع من العلماء ، منهم شيخ الإسلام في رسالة خاصة في ذلك ، وهي في الجزء الأول من اجمع المسائل والرسائل الذي حققه الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله .
الثاني : اسم زوجة موسى عليه السلام ( صِفُّورة ) ، وهو اسم عربي دخله التحوير ، والأصل ( عصفورة ) ، وقد ذكر مؤلفو ( قاموس الكتاب المقدس / ص : 544) هذه المعلومة ، فقالوا : » صِفُّورة : اسم مدياني معناه عصفورة « .
وينتج عن لطيفة ، وهي علاقة العرب ببني إسرائيل ، فالعرب أخوال لأولاد موسى من عصفورة بنت شيخ مدين .
وليست هذه أول علاقة ، فما بالهم يحسدوننا ويكرهون كل شيء عربي ؟!
ثانيًا : كما لم يحتج موسى إلى ترجمان بينه وبين المرأتين ، فكذلك لم يحتج إليه في مخاطبة والدهما من باب أولى ، والعقد الذي تمَّ بين موسى وشيخ مدين كان مدة ثمان سنين أو عشرة ، وقد قضى موسى العشرة كلها ، لكن الملاحظ هنا أنه جاء بعبارة ( ثماني حِجَج ) جمعُ حجة ، فمن أين جاء التعبير عن هذا بهذا .
1 ـ إنَّ شيخ مدين ممن يؤرخون بالحجِّ ؛ تلك الشعيرة العظيمة التي بقيت آثارها في العرب دون من سواهم ، وإن كان الأنبياء بعد إبراهيم قد حجوا كما ثبت في آثارٍ ليس هذا محلُّ ذكرها ، وكان من بين من حجَّ موسى عليه السلام .
وكل ذلك مصداق لقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج:27) .
2 ـ أن موسى عليه السلام قد فهم عن شيخ مدين ما يقصده من عبارة ( حِجج ) ، وهذا يشير إلى معرفة موسى عليه السلام آنذاك بهذه الشعيرة ، وإن كان لا يمكن الجزم بذلك .
ومن الأمور التي تدعو إلى القول بمعرفته بالحج آنذاك أن دعوة إبراهيم بالحج كانت لبنيه وغيرهم ، وبنو إسرائيل من أبنائه ، ولا يُتصوَّر أن لا يكون عندهم علمٌ بالحجِّ ، كما لا يخلو أن يكون في حديثهم إشارة إليه ، وقد يكون موسى سمعها قبل نبوته ، فهو مع كونه في بيت فرعون كان مختلطًا ببني إسرائيل في مصر ، والله أعلم .
لكنك حينما لا تجد هذه الشعيرة في كتبهم ، فإن ذلك مما يخفونه من باب العداء للعرب ولكل ما هو عربي ، وذلك أمر قد طبعوا أنفسهم عليه من دهور سالفة ، ولولا خشيت الاستطراد لذكرت أمثلة لذلك .
3 ـ أنه لا يبعد أن يكون اللفظ الذي تلفظ به شيخ مدين ( حِجَج ) كما ننطقه اليوم أو قريبًا منه ، فالحج قديمٌ جدًّا .
فعدم تكرر هذا المدلول ( حجج ) في القرآن ، واختياره في هذا الموطن واختصاصه به ، مع وجود ما يقوم مقامه كل هذا مما يُستأنس به لما قلت من كونه هو ما نطق به شيخ مدين ، والله أعلم بغيبه .
وللحديث بقية
__________________
الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض