الغربة والغرابة والغريب ثلاث تجليات لحقيقة واحدة، هي خروج الشيء عن نسقه المألوف بابتعاده عن زمانه أو مكانه، مع عجزه عن التأقلم مع واقعه الجديد اختيارا، أو رفضه لذلك اضطرارا، بيد أن هذه الألفاظ الثلاثة قد تنقل العقل بإيحاءاتها الخفية، مندلالاتها الظاهرة التي وضعت لها في عرف التخاطب، إلى معان نفسية واجتماعية وثقافيةمجردة.
حقيقة الغربة:
إن الغربة في حقيقتها حالة وجدانية تشي بالحنين إلىعالم آخر غير العالم الذي يعيش فيه الإنسان، يستعصي رصدها على الناظرين، ولا يستكنه حقيقتها إلا من احتسى صابها وكابد أو صابها، ولم تعد لديه فوارق أو حدود، بين اللفظالدال، والحقيقة المدلول عليها، فالغريب عن وطنه - وهذه هي الغربة الحسية- يستوحشمن المكان، ويستبطئ حركة الزمان، فإن مر عليه يوم عده شهرا، وإن انسلخ من عمره شهرعده عاما كاملا، وهو ما يجسده قول محمد ابن الطلبة:
تطاول ليـل النازح المتهيج أما لضياء الصبح من متبلج
ولا لظلام الليل من متزحزح وليس لنجم من ذهاب ولامجي
فالشاعر يتنابه إحساس عميق بطول الليل، يرجعه إلى طول الليل لانعدام حركةنجومه، وهذا الشعور الوجداني ذاته هو الفيصل بين حالي غريب يقاسي تباريح الغربة،ولواعج البعد عن الأهل والوطن، وسائح ينعم في سياحته وارتياده لآفاق لم يرها منقبل، فلسان مقال السائح قول الشاعر:
شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولا سرار
لأن السعادة تجعل الزمن يمر على الإنسان سريعا، فلا يحس بحركته، خلافا للحزنفإنه يطيل الزمن على الإنسان، حتى يخيل إليه أن الفلك الدوار قد توقف عن الحركة،فيقول كما قال ابن حبيب المغربي:
بليت وأبلانـي اغترابـي و نأيه وطول مقامـي بالحجاز أجـوب
وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم ومـن دونهم بحـر أجش مهيب
فما الـداء إلا أن تكون بغربـة وحسـبك داء أن يقال غـريب
إن الشاعر لم ينسهوطنه وجوده في الحجاز مهبط الوحي، ومهد الإسلام، حيث أنوار النبوة تغمر الوجدان،وعبق الإيمان ينعش الأنفاس، وآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم- وصحابته تملأ الفؤاد طمأنينة وسرورا، بل إنه ليحن في لوعة حنينا شديدا إلى وطنه.
الإسلام يقرالناس على حب أوطانهم:
وحب الوطن غريزة إنسانية لدى كل إنسان سوي، والإسلام لايكبت هذه الغريزة ولا يحرمها، لأنه دين الفطرة السليمة، والطبيعة السوية، لذا نجدالصحابة - رضي الله عنهم- لم يسلموا من هذا الحنين حتى وهم يتفيؤون ظلال النبوةحيث يقول بلال
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد و حولي إذخر وجليل
وهل أردنيوما مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
وهذا كلام رجل هام بمرابع صباه، وأحبوطنه وعشق أرضه بكل ما فيها من أنجاد ووهاد، وجبال ووديان، وعشب وأشجارومياه.
الغربة الحقيقة هي الغربة النفسية:
تلك ملامح الغربة الحسية التيتعتري من نزحوا عن الأهل والأوطان، وابتعدوا عن الأحبة والخلان، ولكن الغربةالحقيقية هي الغربة النفسية، فهي أشد خطرا، وأمر مذاقا، وعلاجها صعب، وتحملها عسير. وهي التي عناها الشاعر بقوله:
وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها و الله في عدم الشكـل
وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي و بها أهلي
هذه هي الغربة الحقيقة التي لا تصيب إلا أصحاب الهمم العالية، والنفوس التواقة إلىالمعالي، والمثقفين الغيورين على أوطانهم، ممن يحملون هموم أمتهم بين جوانحهم، ولاتعزب عنهم أوطانهم بمدنها وقراها، وواحاتها وصحاريها طرفة عين، حتى وهم يجوبونبلادا غريبة عليهم سحنة وأخلاقا وعادات ولغة، لأن بلادهم تزداد منهم قربا كلماازدادوا منها ابتعادا، وقد تنتابهم الغربة الحسية كما تنتاب غيرهم من الناس، لكنالغربة النفسية هي التي تؤثر عليهم، وتطرد من عيونهم الكرى، ومن قلوبهم الراحةوالسعادة، عندما يشعرون ببعد أمتهم عن النموذج الحضاري الذي ينشدونه لها، ويبصرونبأعينهم تخلفها في كل المجالات، وتفوق أعدائها عليها في جميع الميادين، مع رضاهابذلك وقبولها له، وخنوعها للأراذل الذين سطوا عليها، وأصبحوا يسوسونها حسب أهوائهمالفاسدة، ونزواتهم الهابطة، ويحرموها من الاستضاءة بنور الدين الصحيح الخالي منالبدع والخرافات، والاهتداء بالعلم النافع، والاستنارة بالعقل السديد، ويرون الحصارالمضروب على الأمة بركام الجهل والظلم والتسلط والاستبداد، وإهانة المثقف الحارسلهوية أمته وتاريخها، الغيور على ثوابتها ومقدساتها، المنافح عن دينها ومصالحها،فالحكام يناصبونه العداء، والنخبة الخائنة تحسده، والشعب عاجز عن نصرته، لأن الشعب مقيد بأغلال الظلم والاستبداد، وغواش الجهل والتخلف، ومحروم من استنشاق عبير الحريةوالكرامة، بعد أن تكالب عليه أعداؤه في الخارج، وبعض النخب السياسية الفاسدة منالداخل، يظاهرها حثالة من أشباه المثقفين، وأنصاف المتدينين، الذين باعوا دينهمبدنيا غيرهم ذلة ومهانة.
حالة النخب الفاسدة:
لقد صارت كثير من النخب السياسية في الوطن العربي ومن يظاهرها مصدرا لكل الأزمات، ومنبع جميع الشروروالآفات، لا لأنها فرطت في الواجبات، ولم تف بالعهود، أو تؤد الأمانة، وسخرت ما فيوسعها لمآربها الدنيئة فحسب، بل لأنها تلبس الحق بالباطل، وتنافح عن الكذبوالبهتان، ووتنشر الزور والباطل، وتناصر الاستبداد والظلم والفجور، وتتلون تلونالحرباء، وتنافق نفاق ابن سلول، ووتتبع أكثر حيل الخداع والمكر دناءة وخسة، لتخدرشعبها البريئ المسالم المهيض الجناح، وإذا ما انتبه أحد من أبناء هذا الشعبالمثقفين الأخيار لما تحوكه من مؤامرات دنيئة، ودسائس خبيثة ضد الأمة، وأراد الدفاععن مصالح العباد والبلاد، كان مصيره الإلغاء أو الإقصاء، لأن هذه النخب الهجينةوحلفاءها مجموعة من خفافيش الظلام يخيفها نور الحقيقة، وتألف ظلام الباطل، فالحقيفضح أمرها ويظهر حقيقتها. لأن أهدافها لا تتجاوز شهوة دنيوية عاجلة، وشهرة آنيةزائلة، وإذا ما وقف أمامها صادق اعتبرته مخربا خائنا، لأنها تظن أن من حقها أن توزع الألقاب حسب هواها، وتمنح ألقاب الوطنية لأنصارها، وتحرم غيرها من أي لقب شريف، وهي تسعى جاهدة لتحقيق أهدافها من خلال مخططات ماكرة، تبدأ بجعل المواطن يفقد الأمل في المستقبل، حتى يبقى فريسة لهذه النخب وحلفائها لتفتك به عندما يخالفها، أو يشرئبإلى بديل محتمل لها، ثم تسحقه بمعاول اليأس والقنوط، بعد تخديره بسراب الآمانيوالوعود الكاذبة، والخطب الجوفاء حتى لا يحلم بانبلاج فجر جديد.
وعندما يرىالمثقف الغيور على وطنه المؤمن بدينه المتشبث بمبادئه هذه الحقائق ماثلة أمام عينيه، ويدرك أن كثيرا من أهل الثقافة وحتى الفقهاء، صاروا دمى يحركها من بيدهالسلطة والمال، يتوارى من عينه المكان الذي يعيش فيه هذا النمط من الناس، ويغيب منشهوده الزمان الذي يحيون فيه، ويضيق ذرعا بوطنه ويموت كمدا لكونه تعلم ودرس، لأنهذا النمط من النخب قد دنس الثقافة، وأهان العلم وأساء إلى كل مثقف ومتعلم، فعبادةهذه النخب الفاسدة للساسة الأميين، وتملقها لهم، يعد من أعظم الكبائر السياسيةوأشنع الموبقات الأدبية، خصوصا إذا انضاف إلى هذا النفاق التغني بتراث الإسلام الذييشع مجدا وينساب ألقا، وهي لم تصنعه ولم تساهم في خدمته ولا تبتغي استلهامه، لأنغايتها أن تحظى عند الجهلة من الساسة، والعوام من الشعب الغارقين في لججالتخلف.
المثقف معذور إذا هجر وطنه:
والمثقف معذور إذا عصفت بفكرهالانفعالات وامتلأ قلبه أسى وقنوطا، ولم يجد مخرجا من هذا النفق المظلم والظلمالمتراكم إلا واحدا من ثلاث خيارات هي:
- الهجرة عن الوطن فرارا من الذل والضياع والظلم والظلام المفروض بالقوة والقانون، مما يفقد المثقف الثقة في نفسه ووطنه،ويجعله وطنه يهون عليه قبل أن يهون على الناس، فيهاجر من بلاده هائما عله يجد وطن له نخب شريفة تغار على أمتها وتاريخها، وتستحي من مقارفة مثل ما ترتكبه نخبة بلدههو من القاذورات، وحكام راشدون يبنون ولا يهدمون، يصلحون ولا يفسدون، وشعب له عزةوكرامة، يراقب حكامه ويقومهم إذا اعوجوا، حتى يتنفس فيه هواء الحرية ويعانق الكرامة، ويشعر بذاته وإنسانيته.
- البقاء في وطنه صامدا يجابه المشاكل والأزمات، يخدم أمته وبلاده ولا ينتظر مكافأة أو جزاء، وينافح عن مصالح بلده، يصلح ما أفسد الطالحون، يعلم الجاهل، ويرشد الحيران، ويأخذ بيد الضائع، يبني ما تهدمه النخب الفاسدة، ويقاوم جيوش الفساد من النخب الخائنة الهجينة، وهو أعزل إلا منإيمانه بسلامة منهجه، وصدق نيته وإخلاصه لأمته، حتى إذا ما ألتف الناس من حوله،وأدركوا أنه هو أبنهم الحق، بدأت الدسائس تحاك ضده والتهم تلصق به، تمهيدا للهجومعليه واقتياده إلى سجن مظلم.
- أو أن يعيش في وطنه وحيدا بلا أنيس، فريدا بلاجليس، سوى يراع كلما ناجاه أشرقت منه شمس لا يتسع الفضاء لضوئها، وعقل كلما ازدادت معاناته، كان ترياقه إبداع ينساب من قلب مكلوم، يروي القفار القاحلة، مستأنسابنبراس إيمان صادق وعزم لا يلين، وقلب يحترق ليضيء الطريق للسالكين، رافضا التنازلعن مبادئه وقناعاته، أو بيع مواقفه وأفكاره، لإيمانه الراسخ بأن الأممإنما قادهاإلى قمم المجد والسؤدد أهل العلم الصادقون، والرؤساء العادلون، لا أصحاب السلطةالمستبدون والمال المترفون، وأن أعظم الرؤساء قدرا وأجلهم شأنا من كان يسير خلفالعلماء، مستنيرا بعلمهم وملتزما بمشورتهم، وأن أصغر العلماء شأنا وأقلهم قدرا منسار في ركاب الساسة تابعا لا متبوعا، ومسوسا لا سائسا، ومقودا لا قائدا، فيبقىصامدا على هذا النهج حتى يخرجه من غربته الاختيارية، إلى غربة اضطرارية حاكم مستبد.
إن الحكام المستبدين لا بدل لهم من نخبة فاسدة يتحالفون معها، لأن شعارهم أ ن المثقف الصادق إما أن يضم إلى الصف أو يقطع لسانه إن أبى.