لاجئو الداخل في إسرائيل : الصراع على الهوية
بقلم:د. هيلل كوهن
تحاول دولة إسرائيل منذ قيامها تحويل هوية الأقلية العربية فيها، من هوية عربية فلسطينية إلى هوية عربية إسرائيلية. وفي إطار هذه السياسة، حاولت اسرائيل إبراز الهويات الإثنية - قَبَلية وطائفية - على حساب الهوية القومية العربية. ففي مجال مواجهة مشكلة لاجئي الداخل، كانت لإسرائيل محاولات متكررة طبقتها بعناد لاقتلاع "هوية اللجوء" لدى هؤلاء اللاجئين، بهدف حملهم على التنازل عن مطلب العودة إلى أراضيهم.
في هذه المقالة سأحاول وصف كيف حاولت إسرائيل اقتلاع هوية لاجئي الداخل، وتحليل ردود فعل اللاجئين كجماعة، على هاتيك المحاولات. ان الصراع الدائر حول قضية اللجوء لدى لاجئي الداخل هو الآن على أشدّه، وما زال من المبكر تقدير نتائجه.
هوية اللجوء، ما هي؟
"أنا من هناك"..."أنا لست من هنا"..
تنشأ هوية اللجوء من كون الإنسان لاجئًا، إنسانًا اقتُلع من بيته ومن قريته. لاجئ الداخل الفلسطيني هو الفلسطيني الذي اقتُلع من مكان سكناه أثناء حرب 1948، وبقي ضمن "حدود" دولة إسرائيل، ولم يُسمح له بالعودة إلى قريته أو مدينته.
ولدى التعمق في النظر إلى هوية اللجوء، نلحظ لها وجهين:
الوجه الأول إيجابي؛ وهو كون الإنسان ابنًا لبلدة معينة ازيلت من الوجود بطرقها وأزقّتها المهجورة، وبيوتها المهدومة، وروائحها الزكية. هذا الوجه يمكن تسميته "أنا من هناك". وقد عبّر الدكتور محمود عيسى عنه بحدّة ووضوح، في بحثه عن لاجئي قرية لوبية (الواقعة على طريق طبريا - الناصرة) حيث كتب عنهم: "بالنسبة إلى الشباب والكهول والشيوخ، تشكل لوبية صورة هوية أساسية، ومصدر إحالة بالاستذكار العفوي-التلقائي، ونموذجًا لإطار ثقافي". وبكلمات أخرى، هذا الجزء من الهوية مؤسّس على ارتباط قوي وعلاقة متينة مع مكان لم يعدْ موجودًا.
الوجه الثاني لهوية اللجوء، هو الوجه السلبي؛ اي تصوّر الإنسان لذاته وأيضًا تصوّر الآخرين له كلاجئ، كغريب لا ينتمي للمكان: "أنا لست من هنا". هذا التصوّر ينعكس في الإحساس بالغربة في أماكن اللجوء، وهو يتعاظم أحيانًا على خلفية عدم التقبل من جانب السكان المحليين المضيفين. هذا الوجه يجد تعبيره أيضًا في بقاء العلاقة منقوصة مع المكان الجديد. هذه الميزة للهوية، وجدها الباحث حسن موسى في منتصف الثمانينيات في بحث أجراه عن لاجئي الداخل في أربع قرى من الجليل. فمن بين 80 لاجئًا سُئلوا عن أحاسيسهم، تبيّن أن لدى 28 إحساس بالغربة واللجوء.
ليس من الضروري أن يتشبث كل إنسان بهويتة كلاجئ. فيمكن للمرء أن يُقتلع من مكان ما، ويُستوعب في مكان آخر، من غير أن يولي أهمية كبيرة لحقيقة منعه من العودة إلى مكان ولادته. ولكن من أجل الحفاظ على هوية اللجوء يجب أن يكون هنالك "جهاز" يُسهم في ذلك؛ أي يسهم في ايقاظ رغبة العودة. ان عدم إيجاد مكان سكن بديل، أو وجود حالة من الرفض الاجتماعي من جانب المجتمع المضيف، أو الانتماء إلى جماعة تعنى بايقاظ الذاكرة جميعها عوامل تسهم في ابراز هوية اللجوء. وبالمقابل، يمكن أن يوجد "جهاز" يسهّل عملية النسيان من خلال العمل على تسهيل الاستيعاب وتغييب وطمس ذاكرة الجماعة المشتركة الموقظة لهوية اللجوء، وما إلى ذلك من وسائل. عمليًا، مثلما أنه يمكن للمرء الانتماء لجماعة دينية أو طائفية من غير أن يولي الأمر أهمية فعلية، كذلك يمكنه أن يكون لاجئًا أو ابن لاجئ، في تاريخه الشخصي، من دون أن يتحول ذلك إلى جزء هامّ من هويته. على هذه الخلفية يمكن أن تتحول مسألة هوية اللجوء الى بؤرة صراع بين اصحاب المصالح المختلفة.
دولة إسرائيل وهوية اللجوء
افترض المهتمون بالشؤون العربية في دولة إسرائيل، أن التشبث بهوية اللجوء يسبب الإصرار على حق العودة، الذي ترفضه الدولة قلبًا وقالبًا. من هنا، فقد جهد أولئك من أجل انتزاع هوية اللجوء. وقد نشطت الدولة في هذا المضمار على مستويين: نشاطات مادية متعلقة باللاجئين مباشرة، ونشاطات غير مباشرة غرضها التأثير على الوعي. وقد كانت النشاطات المباشرة:
1. منع اللاجئين من دخول قراهم التي طُردوا منها. وقد حصل أكثر من مرّة أن طردت دولة إسرائيل إلى خارج "حدودها" لاجئين من الداخل، لأنهم حاولوا دخول قراهم. ولم تسمح السلطات حتى بزيارات قصيرة إلى تلك القرى. وكانت إسرائيل تأمل من ذلك تمزيق أواصر انتماء الأجيال الشابة إلى قراها الأصلية.
2. عرض المساكن البديلة والتعويضات: بهذا حاولت الدولة المسّ بالذاكرة الجماعية ، التي تبلورت في موقف جماعي يتمثل في منع التنازل عن الأراضي في القرى المهجّرة، وبالأحرى حاولت الدولة تفتيت جماعات اللاجئين.
على الصعيد غير المباشر، صعيد الوعي، اتخذت الدولة الخطوات التالية:
1. محو والغاء أسماء القرى المهجرة من خرائط الدولة، وتغيّيب الموضوع من مناهج التعليم في المدارس. وكان الأمل من ذلك أن يتم نسيان القرى ونسيان مطلب العودة.
2. إخراج لاجئي الداخل من سجلاّت "الأونروا"، وتسجيلهم في تعداد سكان إسرائيل، وفقًا لأماكن سكنهم الجديدة وليس قراهم الأصلية. وكان الغرض من ذلك إزالة علامات تمايز اللاجئين ومن ثم دفعهم إلى الاندماج في الجماعات "المستضيفة".
في منتصف الثمانينات بدا وكأن مهمة انتزاع هوية اللجوء قد نجحت. ففي ختام بحث نُشر عام 1986، كتب ماجد الحاج: "...ليس هنالك ما يميز اللاجئين عن عرب آخرين في المجتمع العام. وخلافًا للاجئين في أماكن أخرى الذين أقاموا تنظيمات تطوعية وأطرًا اجتماعية أخرى، فإن لاجئي الداخل العرب ليس لديهم أي نوع من الأطر التنظيمية". وقد اتاح هذا القول لـ"ألكساندر بلاي" أن يقترح اعتماد "توطين" اللاجئين في دولة إسرائيل كنموذجً ناجح لتوطين اللاجئين في أماكن أخرى. لقد وجد ماجد الحاج أن نحو نصف عيّنة بحثه عبّرت عن "إحساس اللجوء"، ولكن هذا لم ينعكس في أي شكل ملموس، على الأقل فيما يتعلق بمسألة حضورهم في مواجهة المجتمع الإسرائيلي أو المؤسسة الإسرائيلية. بيد أن هذه الحال ما لبثت أن تبدّلت، فقد اتخذ "إحساس اللجوء" تعبيرًا عموميًا ملموسًا في أوائل التسعينيات.
جمعيات اللاجئين.. انبعاث الهوية
في عام 1992، أقيمت "لجنة المبادرة للدفاع عن حقوق المهجرين في إسرائيل". وفي نيسان من السنة نفسها تم توزيع منشور على الجماهير العربية يدعوها إلى النهوض من لامبالاتها تجاه مشكلة لاجئي الداخل. وخلال السنوات الثلاث التي تلت ذلك، أجري نشاط ميداني موسّع بين اللاجئين، وفي اجتماع عام للاجئي الداخل عُقد عام 1995 في طمرة، حضر ممثلون عن 29 لجنة من مختلف القرى المهجرة.
هذا الانبعاث السريع لـ" اللجوء" يُظهر أنه وبدون أطر اجتماعية ممأسسة ومنظمة، لا يمكن الحفاظ على هذه الهوية ليس لدى الجيل الأول، اللاجئين أنفسهم وحسب، وإنما أيضًا لدى أبنائهم وأحفادهم. مما يعني أنه على الرغم من سياسات الحكومة التي تم ذكرها أعلاه، فقد كانت تلك الهوية محفوظة في مستوى داخلي طيلة السنين. والسؤال المطروح هو: كيف تم الحفاظ على تلك الهوية؟
في السنوات الأولى بعد الاقتلاع والتهجير، تم الحفاظ على هوية اللجوء بالمحاولات المتكررة للعودة إلى القرى، وبرفض قبول التعويضات لقاء الأراضي التي صادرتها الدولة. وقد ساعد أيضًا موقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي الرافض للتعويض، في حفظ هوية اللجوء، على الأقل لغاية سنة 1967.
بعد أن استقرّ اللاجئون في القرى التي لجأوا إليها، وبعد أن قبل بالتعويض قسم من العائلات اللاجئة، تم اعتماد وسائل اخرى للحفاظ على هوية اللجوء على الرغم من ان بعضها يندرج ضمن اطار "الوجه السلبي" لهوية اللجوء كما تم بيانه اعلاه. بمعنى أن حالة عدم التقبل التي نشأت بين جماعات اللاجئين والجماعات المحلية المضيفة هي التي حافظت على هوية اللجوء، كما أسهم في ذلك إحساس اللاجئين بأنهم يختلفون عن بقية السكان، من حيث أنهم لا يمتلكون أرضًا.
ولكن في بداية التسعينيات بدأت جمعيات اللاجئين بتعزيز الوجه الإيجابي لهوية اللجوء، ونقصد به تعزيز أواصر الانتماء إلى القرية الأصلية.
ان إعادة الارتباط بالقرية الأصلية تتمّ أحيانًا عن طريق مخيمات العمل التطوعي، حيث ينظف المشاركون ما بقي من البلدة، مثل المقابر ودور العبادة. وفي خضم النشاط يستمعون إلى حكايات عن ماضي القرية يرويها مسنّون عايشوا الأحداث، وكذلك تجري مناقشات سياسية تتناول سُبل دفع مطلب العودة قدمًا. وما يعزز أكثر وأكثر هوية اللجوء بوجهها الإيجابي هو: الدعم الذي يلاقيه المنظمون والناشطون من المؤسسات العربية في إسرائيل، وما يحدثه من اثر إقامة مهرجان إحياء ذكرى النكبة كل سنة في قرية مهجرة.
هذا المسار هو صورة معكوسة لمحاولات الدولة إبعاد الجيل الثاني والثالث من اللاجئين عن قراهم الأصلية. كما أن النشاطات ذات المضمون الرمزي والتربوي – كتابة كتب عن القرى المهجّرة، وإجراء مسح سكاني للمهجرين – يقوّض الجهود التي بذلتها دولة إسرائيل على مرّ السنين.
وفي مقابل ذلك، تجري إعادة تقدير لحالة أولئك اللاجئين الذين قبلوا بالتعويضات من دولة إسرائيل. وكما سبق أن ذكرت، فإن قبول التعويضات من قبل البعض كان وسيلة بيد سلطات الدولة لكسر هوية اللجوء، وقد اعتُبر من قبلوا بالتعويض خارجين على معايير المجتمع. ولكن، في إطار إعادة بلورة هوية اللجوء تعلو أصوات تطالب باعتبار من قبلوا التعويض ضحايا أحابيل اجهزة الدولة، وتطالب بالكف عن لومهم على ما فعلوه أو ما فعله آباؤهم. بهذه الطريقة يمكن للاجئي القرية جميعًا التكتل حول هوية لجوء نواتها القرية الأصلية.
خلاصة
إذا كان يبدو في منتصف الثمانينات أنه لا وجود لهوية لجوء في دولة إسرائيل، وعلى الأخص هوية لجوء إيجابية ومنظمة، فإنه منذ بداية التسعينيات اتضح انبعاث هذه الهوية. ومن هذه الوجهة فإن محاولات المؤسسة الإسرائيلية تحييد هوية اللجوء قد باءت بالفشل، كما فشلت المؤسسة نفسها في تحقيق هدف أسمى وضعته نصب أعينها: إنشاء هوية "عربية إسرائيلية" منقطعة عن جذرها؛ أي الهوية الفلسطينية.
ولكن السؤال المطروح هو؛ لماذا نهضت هذه القضية من جديد في بداية التسعينيات؟
أحد الأسباب هو العملية السياسية، حيث اسقطت منظمة التحرير الفلسطينية تمثيل العرب في إسرائيل من حساباتها، فكانت نتيجة ذلك إقامة مؤسسات للفلسطينيين في إسرائيل تتحدث باسمهم.
السبب الآخر هو العامل الديمغرافي: فمع مرور السنين تزداد مشكلة نقص الأراضي حدّة لدى عائلات اللاجئين. صحيح أن دولة إسرائيل قد صادرت مساحات شاسعة من أراضي القرى غير المهجرة ايضا، ولكن مشكلة نقص الأرض والمسكن هي أكثر حدّة بكثير، لدى لاجئي الداخل وخاصة أولئك الذين رفضوا قبول التعويض.
هذه العوامل يكمل واحدها الآخر، ويمكن الافتراض أن وجود الظاهرة يتأثر بكل عامل من العوامل.
ومع ذلك، ورغم انبعاث هوية اللجوء، وإعادة النشاطات في القرى المهجرة، ما زال من المبكر قياس مدى انتشار هذه النهضة بين مجمل اللاجئين (ما زالت هنالك قرى كثيرة لم تنتظم بعد في أي نشاط، وقرى أخرى اهتمت بتمثيل رمزي فقط)، وكذلك ما زال مبكرًا التنبؤ بمدى مثابرة لاجئي الداخل في نضالهم من أجل استعادة أراضيهم، ومدى نجاحهم في ذلك.
---------------------------
مؤلف الكتب: "الغائبون الحاضرون"؛ "جيش الظلال" و"عرب جيدون