عندما أقرأ كلام علماء السلف
حول معنى كلمة "أبيض" عند العرب، أتساءل: لماذا يجهل العام و الخاص المعنى
الصحيح لهذا المصطلح؟ كم من الناس في هذا الزمان يعرف ان العرب في الماضي
لم تسمّ من نسمي ابيض اليوم ابيضا - بل سمّته أحمرا. قال الزبيدي في تاج
العروس:
"الأحمر : الأبيض ضد. وبه فسر بعض الحديث : " بعثت إلى الأحمر والأسود " . والعرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء"
قال ابن الأثير:
"فيه "بعثت إلى الأحمر والأسود" أي العجم والعرب ؛ لأن الغالب على ألوان
العجم الحُمْرة والبياض ، وعلى ألوان العرب الأُدْمَة والسُمرة".
و قال ابن منظور في لسان العرب:
"والحمراء: العجم لبياضهم ولأَن الشقرة أَغلب الأَلوان عليهم، وكانت العرب
تقول للعجم الذين يكون البياض غالباً على أَلوانهم مثل الروم والفرس ومن
صاقبهم: إنهم الحمراء؛ ومنه حديث علي، رضي الله عنه، حين قال له سَرَاةٌ
من أَصحابه العرب: غلبتنا عليك هذه الحمراء؛ فقال: لنضربنكم على الدين
عَوْداً كما ضربتموهم عليه بَدْءاً؛ أَراد بالحمراء الفُرْسَ والروم.
والعرب إِذا قالوا: فلان أَبيض وفلانة بيضاء فمعناه الكرم في الأَخلاق لا
لون الخلقة، وإِذا قالوا: فلان أَحمر وفلانة حمراء عنوا بياض اللون؛
والعرب تسمي المَوَاليَ الحمراء. والأَحامرة: قوم من العجم نزلوا البصرة
وتَبَنَّكُوا بالكوفة."
قال العلامة الإمام الحافظ الذهبي:
الحمراء ، في خطاب أهل الحجاز : هي البيضاء بشقرة ، وهذا نادر فيهم ، ومنه
في الحديث : رجل أحمر كأنه من الموالي يريد القائل أنه في لون الموالي
الذين سبوا من نصارى الشام والروم والعجم.
وسئل ثعلب : لم خص الأحمر دون الأبيض فقال : "لأن العرب لا تقول : رجل أبيض من بياض اللون إنما الأبيض عندهم الطاهر النقي من العيوب فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا أحمرا".
فمن هو ثعلب الذي قال هذا الكلام؟ هو أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني أبو
العباس إمام الكوفيين في النحو واللغة، ولد سنة مائتين، وابتدأ النظر في
العربية والشعر واللغة سنة ست عشر، وحفظ كتب الفراء، فلم يشذ منها حرفا،
وعني بالنحو أكثر من غيره، فلما أتقنه أكب على الشعر والمعاني، ولازم ابن
الأعرابي بضع عشرة سنة، وسمع من نفطويه وغيره، قيل: إنما فَضَل أهل عصره
بالحفظ للعلوم التي تضيق عنها الصدور.
قال أبو الطيب اللغوي: كان ثعلب يعتمد على ابن الأعرابي في اللغة، وعلى
سلمة بن عاصم في النحو، ويوري عن ابن أبي نجدة كتب أبي زيد، وعن الأثرم
كتب أبي عبيد، وعن أبي فص كتب الأصمعي، وعن عمرو بن أبي عمر كتب أبيه.
وكان ثقة، حجة، صالحا، مشهورا بالحفظ، وصدق اللهجة، والمعرفة بالعربية، ورواية الشعر القديم، مقدما عند الشيوخ منذ هو حدث.
قال أبو بكر بن مجاهد: قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن
بالقرآن ففازوا، وأصحاب الحديث بالحديث ففازوا، وأصحاب الفقه بالفقه
ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا تكون حالي؟ فانصرفت من
عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، فقال لي: أقرئ أبا
العباس عني السلام، وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل.
فمن هو ابن مجاهد؟ هو أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (245 -
324هـ ، 859 - 936م) ، التميمي البغدادي الأستاذ الإمام، شيخ صنعة
القراءات وأول من سبع السبعة (اختار القراء السبعة الذين يقرأ القرآن
بقراءاتهم حتى اليوم مثل عاصم وأبي عمرو وغيرهما). قرأ على عبدالرحمن بن
عبدوس عشرين ختمة، وعلى قنبل المكي راوية ابن كثير، وإسحاق بن أحمد
الخزاعي، وعلى أحمد بن يحيى ثعلب النحوي وإدريس بن عبدالكريم وخلائق
آخرين. وروى عنه أحمد بن بُدهن وأبو علي الفارسي وأبو عبدالله بن خالويه
والحسين بن حبش وأبو جعفر الشاهد وخلائق لا يحصون. كان مشهورًا بعيد الصيت
فاق أقرانه ومعاصريه مع الدين والحفظ والخير. قال أبو عمرو الداني: فاق
ابن مجاهد في عصره سائر نظرائه من أهل صناعته مع اتساع علمه وبراعة فهمه،
وصدق لهجته، وظهور نسكه. قال بعض أهل التراجم: "ولا نعلم أحدًا من شيوخ
القراءات أكثر تلاميذ منه ولا بلغنا ازدحام الطلبة على أحد كازدحامهم
عليه". كان في حلقته أربعة وثمانون خليفة يقرئون الناس.
فما هو العلم المستطيل؟ العلم المستطيل هو علم اللغة وما يتصل بها من دراسات، كالنحو والصرف والرواية والبلاغة والشعر والأدب.
كيف لا تكون اللغة العربية العلم المستطيل و جميع العلوم مفتقرة إليها؟
فكيف يفسر المفسرون القرآن بطريقة صحيحة بدون علم باللغة العربية؟ كيف
يشرح أهل الحديث الأحاديث بطريقة صحيحة بدون علم باللغة العربية؟ كيف يصيب
المفتي في فتواه بدون علم باللغة العربية؟
قال الأزهري:
إذا قالت العرب فلان أبيض، وفلانة بيضاء، فالمعنى نقاء العرض من الدنس والعيوب، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان:
أشم أبيض فياض يفكـك عـن أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
وقال ابن قيس الرقيات في عبد العزيز بن مروان:
أمك بيضاء من قضاعة في البيت الذي يستظل في طنبـه
قال: وهذا كثير في شعرهم، لا يريدون به بياض اللون، ولكنهم يريدون المدح
بالكرم، ونقاء العرض من العيوب. وإذا قالوا: فلان أبيض الوجه، وفلانة
بيضاء الوجه، أرادوا نقاء اللون من الكلف والسواد الشائن.
و في المعجم الوسيط:
" يقال وجه أبيض نقي اللون من الكلف و السواد الشائن و فلان أبيض نقي العرض"
بعد عرفنا ان العرب لا تقول رجل أبيض من بياض اللون، دعنا ننظر الى ما هو بياض اللون عند العرب:
قال الشيخ العلامة الإمام الحافظ الذهبي في كتابه سير اعلام النبلاء:
"إن العرب إذا قالت : فلان أبيض ، فإنهم يريدون الحنطي اللون بحلية سوداء".
و حلية الإنسان هي ما يُرى من لونه أو مظهره. قال ابن منظور في لسان العرب:
"والحِلْيَةُ الخِلْقة. والحِلْيَةُ: الصفة والصُّورة. والتَّحْلِيةُ:
الوَصْف. وتَحَلاَّه: عَرَفَ صِفَته. والحلْية: تَحْلِيَتُك وجهَ الرجلِ
إذا وصَفْته."
قال الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن علي بن عبد الخالق، شمس الدين السيوطي في كتابه جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود:
"في ذكر الالوان
إذا كان الرجل شديد السواد
قيل: حالك.
فإن خالط سواده حمرة
قيل: دغمان.
فإن صفا لونه
قيل: أسحم.
فإن خالط السواد صفرا
قيل: أصحم.
فإن كدر لونه
قيل: أربد.
فإن صفا عن ذلك
قيل: أبيض.
فإن رقت الصفرة، ومال إلى السواد
قيل: آدمي اللون.
فإن كان دون الاربد وفوق الادمة
قيل: شديد الادمة، فإن رق من الادمة
قيل: شديد السمرة.
فإن صفا عن ذلك
قيل: أسمر اللون.
فإن صفا عن ذلك
قيل: رقيق السمرة.
فإن صفا ومال إلى البياض والحمرة
قيل: صافي السمرة تعلوه حمرة.
ويقال: رقيق السمرة بحمرة.
فإن صفا لونه جدا
قيل: صافي السمرة، ولا يقال: أبيض
لان البياض هو البرص.
فإن خلص بياضه
قيل: أنصح.
وإن كان في بياضه شقرة
قيل: أشقر.
فإن زاد على ذلك
قيل: أشكل.
فإن كان مع ذلك حمرة زائدة
قيل: أشقر.
فإن كان مع ذلك نمش، قيل: أنمش.
فإن صفا لونه ومال إلى الصفرة من غير علة
قيل: أسحب اللون".
ماذا قال صاحب العلم المستطيل - ثعلب؟ قال:
"العرب لا تقول رجل أبيض من بياض اللون"
ان عدم فهم المعنى الصحيح لكلمة "أبيض"سبّب خلطا شديدا لدي العامة و
العلماء. فكيف يُوصف رجل بالأبيض تارة و بالأسمر أو الآدم تارة أخرى؟انظر
الى وصفعثمان بن عفان رضي الله عنه:
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا ليس بالطويل المفرط ولا بالقصير البائن ، حسن الوجه ، رقيق البشرة ، أبيض اللون ، وفي بعض الروايات انه كان اسمر اللون
، كث اللحية عظيمها ، أصلع الرأس ، عظيم الكراديس ، عظيم ما بين المنكبين
، أروح الرجلين ( منفرج ما بينهما ) ، اقنى الانف ، ضخم الساقين ، طويل
الذراعين قد كسا ذراعيه جعد الشعر ، أحسن الناس ثغرا ، جُمته اسفل من
اذنيه.
انظر الى وصف ابو هريرة رضي الله عنه:
قال بلد الرحمن بن لبينة رأيت أبا هريرة رجلا آدم بعيد ما بين المنكبين أفرق الثنيتين ذا ضفيرتين وقال ابن سيرين كان أبو هريرة أبيض لينا لحيته حمراء.
و انظر الى وصف معاذ بن جبل:
دخل عائذ الله بن عبدالله المسجد يوماً مع أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم في أول خلافة عمر..قال:
"فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة،
حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سناً، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء
ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم إلا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت
منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".
وقال عبد الصمد بن سعيد نزل (معاذ بن جبل) حمص وكان طويلا حسنا جميلا وقال
الجماعة كنيته أبو عبد الرحمن إلا أبا أحمد الحاكم فقال كنيته أبو عبد
الله قال علي بن محمد المدائني معاذ لم يولد له قط طوال حسن الثغر عظيم
العينين أبيض
جعد قطط وأما ابن سعد فقال له ابنان عبد الرحمن وآخر قال عطاء أسلم معاذ
وله ثمان عشرة سنة وقال ابن اسحاق ومن السبعين من بني جشم بن الخزرج معاذ
بن جبل وروى قتادة عن أنس قال جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة كلهم من
الأنصار أبي بن كعب وزيد ومعاذ بن جبل وأبو زيد أحد عمومتي قال أحمد حدثنا
أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال
رسول الله (خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وأبي ومعاذ بن جبل وسالم
مولى أبي حذيفة).
عندما نقرأ توضيح أصحاب العلم المستطيل لكلمة "أبيض"، يزيل الإختلاط و
يصبح من العادي جدا أن يوصف شخص بالسمرة تارة و بالبياض تارة أخرى.