وقبل أن ندع النبي داود عليه السلام، أبقى مع صناعة السوابغ من الحديد، فالسابغة ثوب أو درع من زرد الحديد، يجره المقاتل على كعبيه طولاً، وتصنع السابغة بالعادة من حلق أو خواتم من الحديد تشبك مع بعضها (27) وكانت صناعة السوابغ حتى في أوربا في العصور الوسطى تحتاج إلى مهارة عالية في فنون صناعة الحديد، وإلى نفقات كبيرة جداً وإلى فرق من العمال البارعين، وذلك أن سابغة واحدة كانت تحتاج إلى عدد هائل من الحلق أو الخواتم، تصنع مفردة ثم يجرى شبكها مع بعضها، ولحمها مع بعضها بشكل متقن بوساطة النار الحامية والتطريق، واحتاج مثل هذا العمل إلى إمكانيات دولة كبرى مالياً وغير ذلك، وهذا ما لم يتوفر في فلسطين.
وأختم حديثي هذا بالمسألة التي تواجهنا فيما يتعلق بالنبي سليمان، وملكة سبأ، المشهورة باسم بلقيس، فالدارس لتاريخ الدولة الآشورية، ولنصوص الآشوريين الكثيرة، يلاحظ كثرة الإشارات فيها إلى القوى البدوية العربية، وإلى دويلات عربية كانت محكومة من قبل نساء (28) وورد ذكر سبأ في القرآن الكريم مرتين، في المرة الأولى في سـورة النمل (الآيات 19 – 44) حيث جلب طائر الهدهد خبراً إلى النبي سليمان عن: (سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون)، وأرسل سليمان رسالة إلى سبأ قال لهم فيها: (ألا تعلو علي وأتوني مسلمين) وحاول السبأيون شراء رضاه بالمال فقال لرسوله: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم ولنخرجنهم أذلة وهم صاغرون) وفي النهاية قدمت ملكة سبأ إلى عند سليمان، ولدى دخولها عليه حسبت أرض قاعة عرشه: (لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير)، ونتيجة لذلك تخلت عن كفرها وقالت: (ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)، ومهم قولها أسلمت مع سليمان ولم يشر القرآن إلى حملها هدايا إلى سليمان أو سوى ذلك، في حين تحدثت أخبار العهد القديم عن هدايا متنوعة وثمينة حملتها إلى الملك سليمان، وإلى قيامه بإغوائها وإغواء وصيفتها، وإنجابها منه وكذلك وصيفتها إلى غير ما ذلك.
والمتمعن بلهجة خطاب سليمان للسبأيين ومن ثم مقارنتها بالنصوص الآشورية التي نشرت حتى الآن يجد تماثلاً، ولا بد هنا من الوقوف عند قدرة طائر الهدهد على قطع المسافات، وإلى استخدام الزجاج الممرد، فلعل سبأ كانت على مقربة من أشور فالقبائل العربية كانت منتشرة في مناطق الجزيرة وسواها.
ومن جديد دعونا نختتم بمواجهة ذكر سبأ اليمن وفي سورة قرآنية حملت اسم سبأ الآية (21 - 140)، ورد قوله تعالى: (لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتين ذواتى أكل خمط واثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجزي إلا الكفور).
وواضح هنا أن المقصود سبأ اليمن وسد مأرب حيث تعرض لفيضان وتهديم، وكان ذلك قبل الاحتلال الحبشي لليمن، والفارق الزمني بين سبأ سليمان وسبأ اليمن قد يصل إلى ألف وثلاثمائة سنة، هذا ومسألة تشابه الأسماء في الوطن العربي مسألة معروفة عبر التاريخ.
* * *
الهوامش:
* د. سهيل زكار مؤرخ وأستاذ جامعي بكلية الآداب - جامعة دمشق، وقد ألقى المحاضرة في [المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر في ليبيا] وذلك في 3/ 4/ 2003.
(1) بهذه المملكة تتعلق الإشارة إلى آحاب ومشاركته في معركة قرقر على العاصي ضمن التحالف الآرامي ضد الآشوريين.
The ancient near east، edited by James. B. Pritchard، Princeton 1958 (and see) rewriting the Bible by any dockser marcus، London 2000، the emergence of yehud in the Persian Period، by tharbs E. carter Sheffield، 1999 the archaeology of ancient Israel edited by Amnon ben-tar، Palestine 1992، the Hyksos، edited by Eliezer D. oren، philadelifia 1997 concise Atlas of the Bible San Francisco 1991، the Gold of Exodus by Hoknord Blum، London 1998، David’s Jerusalem، Fiction or reality، Biblical archaeology review، by Margreet Steiner، July – August 1998
والأبحاث 1 – 5 في أبحاث مؤتمر القدس المنعقد في جامعة القاهرة 21 - 23/ 3/ 1998 ج . ط. القاهرة 1998، القدس مدينة واحدة – عقائد ثلاث، تأليف كارني آرمسترونج، ترجمة عربية ط. القاهرة 1998، الموجز في تاريخ فلسطين السياسي. تأليف إلياس شوفاني، ط. بيروت 1996، الفصل الثاني والثالث من الموسوعة الفلسطينية – القسم الثاني ج 2 ص 2. 1- 107، 6 ص 797- 800، الموسوعة الفلسطينية.
(2) القدس الخالدة في الوثائق المصرية القديمة والأكدية، والكتاب المقدس للأستاذ الدكتور عبد الحميد أحمد زايد في بحوث مصادر تاريخ القدس ج 1 ص 56- 58. مدينة القدس في النصوص المصرية القديمة خلال عصر الدولة الحديثة، للدكتورة فايزة محمود صقر، في الكتاب نفسه ج 1 ص 100 – 158، هذا وكانت هناك مدينة على الفرات في الجانب العراقي في عصر ماري كان اسمها "أورشومو".
(3) معجم بلدان فلسطين لمحمد محمد شراب – ط. دمشق 1987، انظر مادتي "يازور، وجزر"، وجزر الفرات في الجانب الآخر هي الآن "تل أبو شوشة"، ومن أجل بقية الأماكن، انظر الموسوعة الفلسطينية – القسم الثاني ج 2 ص 99 – 102.
(4) [The Ancient East، Vol I، PP 261 262]
(5) المحيط في اللغة للصاحب ابن عباد، ج 2 - ط. بغداد 1978 (مادة عفر).
(6) الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية للدكتور سهيل زكار ج 12 ص 144 - 145، ج 43 ص 1259-1292.
(7) بحوث مؤتمر مصادر تاريخ القدس ج 1 ص 170- 173.
(
انظر: سورة يونس - الآية 87، وسورة يوسف الآيتان: 21 ، 99، وسورة الزخرف الآية 51، وسورة البقرة الآية 61.
(9) مرفوض التأويل اليهودي أن كلمة فرعون هي تصحيف لكلمة "بارا – عون" أي صاحب البيت الكبير، وأنظر أيضاً مادة "كميت" في كتابي "المعجم الموسوعي للديانات والعقائد والمذاهب والفرق والطوائف والنحل في العالم - ط. دمشق 1997.
(10) تفسير الطبري – ط. دار الفكر، بيروت 1978 - ج 1 ص 248.
(11) من ذلك "التوراة جاءت من جزيرة العرب" لكمال صليبي، "وخفايا التوراة" له، و"حول أطروحات كمال صليبي" لفرج الله ديب، و"التوراة اليمانية أو الصنعانية" له، و"جغرافية التوراة" لزياد منى، و"جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة" لأحمد عيد، وانظر أيضاً:
[The gold of Exodus by How Nord Blum، Lomdon 1998]
وقف عند خرائط وصور هذا الكتاب في مطلعه وما بين ص 177- 178، وهذا ما كان قد تبناه جيمس برتشرد حين أشرف قبل وفاته (عام 1996) على
Concies Atlas of The Biblesanfran Cisco] 1997
(12) أناشيد البعل لحسني حداد وسليم مجاعص – ط. بيروت 1995 ص 42.
(13) The ancient near east، vol 1، pp 199- 205، the third edition of the same book، Princeton 1969، pp 307-308. Ancient Records of Assyria and Babylonia، by James Breasted، Chicago، 1926، vol 2، pp 119-121، 143
(14) [Rewriting The Bibl، pp 56- 172]
- القدس في التاريخ: تأليف د. سهيل زكار ج 1 ط . بيروت 2002 ص 45- 55 .
(15) [The emergence of yehud in the Persian Period، pp 222- 246، 263-264، 283- 294]
(16) الموسوعة الفلسطينية – القسم العام– الطبعة الأولى 1983، الجزء الثالث، مادة "قدس".
(17) الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية لسهيل زكار ج 42 - ط دمشق 2001 ص 1015. الموسوعة الفلسطينية – المرجع نفسه، والمادة ذاتها.
(18) الموسوعة الفلسطينية – المرجع نفسه، مادة "قدس + قادش".
(19) معجم البلدان – مادة "قادس + قادسية."
(20) الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية - ج 39 ص 102 – 107.
(21) معجم بلدان فلسطين لمحمد شراب - ط. دمشق 1987، مادة "مجدو". هرودوت يتحدث عن مصر للدكتور محمد صقر خفاجة والدكتور أحمد بدوي – ط. القاهرة 1987 ص 293.
Herodotues، the histories، London 1965، pp، 166
Herdotues، Ibd، pp، 444
Herodotues، Ibd، pp، 214- 215
(22) معجم البلدان: مادة هجر.
(23) سورة البقرة: الآية 102.
(24) سورة القصص الآية: 38.
(25) سورة غافر ـ الآيتان: 23- 24.
(26) ساغي (هنري) جبروت آشور الذي كان، ترجمة عربية دمشق 1995 ص 382 – 432.
(27) لسان العرب – مادة "السبغ".
(28) [Ancient Records of Assyria and Babylonia، vol. 2، pp، 130- 208]