لعبت الإسكندرية دوراً طليعيّاً على مسرح التاريخ.. وقد كان للشواطئ دوراً أساسياً في تحديد مصيرها بكافة جوانبه.
إعْتُبِرَت الإسكندرية في الماضي منارة تضيء البحر الأبيض المتوسط والعالم، كمدينة تنضح بالسحر والغموض. وقد شكلت المنارة التي عند مدخلها إحدى عجائب الدنيا السبع في القدم.
وقد تحولت جميع المعتقدات والفلسفات والعلوم والفنون البشرية وتحسَّنت هنا. وحجبت مدينة الإسكندرية القديمة طوال أكثر من ألفي عام وراء ستار من الغموض والأساطير. ولم يتمكن العلماء على مر القرون من تحديد مواقع نُصُب وقصور ومعابد المدينة القديمة، حتى الآن.
وقد تمكنت الحفريات الجارية إلى الشرق من ميناء الإسكندرية ولأول مرة من الكشف عن تفاصيل المدينة وإلقاء نظرة على حياة جزء من أروع شعوب في التاريخ. ألقى مستكشفو القرن العشرين أضواءهم على بعض من أهم الإكتشافات الأثرية التي عرفها التاريخ، وهو مركز المدينة القديمة المغمورة وقصر كليوپاترا، آخر الفراعنة.
إبقوا معنا برفقة هذا الجيل الجديد من علماء الآثار ممن يستعينون بمعدات الغوص والأقمار الصناعية وكتاب قديم لجمع أجزاء صورة المدينة الكبرى التي دُفِنَ فيها الإسكندر المقدوني، وعاش وأحب فيها يوليوس قيصر والتي واجه فيها كل من مارك أنطوني وكليوپاترا مصيرهما.
* * *
الإسكندرية الإمبراطورية الضائعة
تقع مدينة الإسكندرية العصرية على شاطئ مصر الشمالي إلى الغرب من نهر النيل، حيث تلتقي الصحراء بالأبيض المتوسط. وتكمن رومانسية هذه المدينة في الماضي وليس في الحاضر.. فقد تردد في شوارع هذه المدينة على مدار ألفي عام صدى أصوات عدد من أهم شخصيات التاريخ القديم.
وقعت هنا أحداث إحدى أهم قصص الحب في العالم، في العلاقة بين مارك أنطوني وكليوپاترا.
انكشف اليوم ولأول مرة النقاب عن جوانب خفية من ملامح هذه المدينة الغامضة، وألقي الضوء على بعض مزاياها الحقيقية.
نشأت الإسكندرية على تقاطع طرق بين الحضارات العظمى في العالم القديم. وقد اعتبرت مدينة عصرية تشيد بعبقرية أحد مؤسسيها وهو الإسكندر المقدوني.
عندما كانت الإسكندرية من أهم مدن العالم القديم عُرِفَت بمبانيها الرخامية البرّاقة وجادّاتها المرصوفة وقصورها المهيبة. فشكلت تحفة فنية في الهواء الطلق، لا تقل شأنا عن روما أو أثينا.
وطوال ثلاثمائة عام فصلت بين موت الإسكندر ونشوء الهيمنة الرومانية، إحتلت الإسكندرية موقعاً قيادياً في البحر الأبيض المتوسط، ليس بقوتها العسكرية بل بمكانتها الاقتصادية ورفعتها الثقافية البارزة.
شكلت المنارة الفرعونية التي شيدت عند مدخل الميناء رمزاً لكون المدينة منارة للثقافة والعلوم العصرية في ذلك الوقت. لم يعرف التاريخ مثيلا لمكتبتها العظمى ومجمع المتاحف الفريد هناك. ولكن من المؤسف ألا يبقى أي من هذه المباني حتى يومنا هذا!
يُقال أن أجزاء من هذه المدينة قد دُمِّرَت على مراحل عبر زلازل ضربتها على التوالي في القرن الرابع والثاني عشر والرابع عشر حين غمرتها مياه البحر. وأحياناً ما يرى الصيادين ملامح تماثيل من الركام الواقع تحت سطح البحر، فيدّعون أنها من عرائس البحر! ومع نمو المدينة العصرية وتوسعها أخذت أنابيب الصرف الصحي تصب في الميناء لتغيب تلك المشاهد! مما جعل ملامح عرائس البحر أقل ظهورا للصيادين..!
ولكن ما يجري الآن هنا هو مجرد بداية لمأثرة من الاكتشافات. فقد عثر فريق علماء الآثار على مسافة عشرين قدم من الشاطئ على جزء كبير من الحي الملكي القديم وقصر كليوپاترا.
ويقول العالم "غوديو": "أحببت البحر والتاريخ منذ نعومة أظافري، وكثيراً ما حلمت بالمزج بين الآثار والبحر. لقد تمكنت من ذلك عام 1993 حين شكلت مؤسسة حولت ما كان حلماً في الماضي إلى احتراف مهني..
فمنذ بداية عام 1996 تمكَّن الأثري البحري الفرنسي "فراك غوديو" من الحصول على دعم من المؤسسات المتعددة، والتعاون مع المجلس الأعلى للأثريات للعمل على رسم خريطة دقيقة للمدينة القديمة، هي الأول من نوعها للمناطق الغارقة في الميناء.
ويقول: "كيف كان البحر بالمقارنة مع المباني العالية المجاورة؟ وأين كان معبد "بوسيدون"؟ وأين شيَّد مارك أنطوني القصر الذي سكنه؟ وفي أي منطقة عاشت كليوپاترا في تلك الفترة؟"
يمتد ميناء الإسكندرية على مساحة 1500 إكر من الأراضي البكر بالنسبة لعلماء الآثار، وقد عثروا فيها على كنز من المعلومات يعود إلى ما قبل ألفي عام. وتشكل الأعمال الأثرية تحت البحر تحديات أكبر من الحفريات الجارية على الأرض المصرية. يشرف إبراهيم درويش على الدائرة المصرية للبحث عن الآثار تحت الماء، وقد قام بأكثر من 100 عملية غطس في الميناء الشرقي.
ويقول درويش: "أنا أول أثري في مصر يعمل في هذا المجال، لهذا إنْتُخِبت لأكون مسؤولا عن هذه الدائرة. وقد عملت بمفردي في البداية طوال خمسة أعوام، أما الآن فلدي ستة عشر أثري يعملون معي، إلى جانب فريقي أبحاث فرنسيين يعملان بالقرب من خليج قيت وداخل الميناء الشرقي."
في بداية الأبحاث عثر الغطاسين على حجارة مغطاة بكثير من الترسبات والأعشاب البحرية بدت للوهلة الأولى أنها مجرد صخور. وبعد تنظيف الأبرز منها تبين للفريق أنه عثر على مجموعة من النصب والمسلات المنقوشة. وبعد أكثر من 3500 عملية غطس عثروا على آلاف القطع الأثرية كالتماثيل والمنحوتات الأسطورية والمنقوشات.
ويكمل أشرف: "دهشت جداً لاكتشاف أول تمثال ملكي، فعند تنظيف الترسبات لا يعرف المرء ما سيعثر عليه، قد لا يتوقع العثور على شيء هام، قد تجد حجراً صغيراً فقط. وبدأت بإزالة الترسبات عن هذا التمثال، وهو جيد جداً؛ أعني بحالة حفظ جيدة. كانت ردة فعلي الأولى أني أزلت الهواء من فمي وبدأت أصرخ تحت الماء!"
من المدهش جداً والمثير للمشاعر أن يعثر المرء على قطعة أثرية يزيد عمرها عن ألفي عام ليكون أول شخص يلمسها ويتعامل معها...
نُشِرَت على ممر القرون أكثر من ثلاثين خريطة تستعرض ما كانت عليه المدينة في العصور القديمة. ولكن الجغرافي اليوناني "سترابو" الذي زار الإسكندرية عام خمسة وعشرين قبل الميلاد، ترك وصف تفصيلي ودقيق للمدينة في كتابه له حمل عنوان "چيوجرافيكا".
ويقول غوديو: "حصلت إكتشافات مدهشة منذ أن بدأنا العمل في ميناء الإسكندرية، ولكن الأشد دهشة هو أن الأراضي الغارقة التي وصفها "سترابو" كانت هناك!"
"وجدنا جزيرة وشبه جزيرة وخنادق كما وجدنا ميناء داخل رأس "لوكياس". كلها كانت هناك، لهذا أدهشنا التأكد من أن الكتب القديمة كانت دقيقة الوصف إلى هذا الحد.."
في المنطقة الممتدة على طول الشاطئ والمعروفة بالحي الملكي وصف "سترابو" مجموعة من القصور الرائعة، التي كانت مقراً لملوك سلالة البطالمة الفرعونية، وآخرها الملكة الشهيرة كليوپاترا، التي أحبت يوليوس القيصر ومن بعده مارك أنطوني.
ويقول د. فخراني: "لدينا في المتحف تماثيل لكليوپاترا، ولكن في هذه الحالة يعتبر إكتشاف شيء من ملكية وأمجاد وقمة الإسكندرية أمراً بالغ الأهمية."
* * *
وتبدأ القصة الرومانية لهذه المدينة عام 332 قبل الميلاد، عندما تمكن القائد التاريخي الشهير الإسكندر المقدوني من التغلب على الفُرس الذين حكموا مصر في ذلك العصر. وأثناء ترحلها عبر شواطئ المتوسط رأى قرية صيد صغيرة تحمي زوارقها الرأسية جزيرة صغيرة. كما وجد إلى جانبها بحيرة ماء عذبة. سرعان ما تنبه الملك الشاب إلى أهمية هذا الموقع، فأمر ببناء مدينة جديدة هناك تحمل اسم الإسكندرية.
وقد أورد "سترابو" تفاصيل خريطة الإسكندر في كتابه فقال: "شُيِّدَت المدينة بخطة عادية، تتقاطع شوارعها بزوايا قائمة، يتجه الشارع الرئيسي العريض غربا من بوابة "كانوپيك".
سرعان ما غادر الإسكندر مصر لغزو البلدان المجاورة، ولم يبق لرؤية أي مبنى من المدينة التي أمر برفعها. وبعد موت الإسكندر تقاسم چنرالاته الإمبراطورية وغنائمها فيما بينهم.
فإستولى على مصر صديقاً للإسكندر هو الچنرال "بطلم" الذي أعلن نفسه ملكاً وإتّخذ الإسكندرية عاصمة له. سرعان ما انطلق بطلم الأول في مشروع بناء واسع النطاق، عرف منها مباني مكتبة ومتحف الإسكندرية الشهيرين. وإستمر بطلم بتحقيق النجاحات العمرانية، مضيفاً إلى أمجاده وأمجاد المدينة بناء هائل عرف بمبنى المنارة.
ويكمل سترابو قائلاً: "عند طرف الجزيرة تقع صخرة رُفِعَت فوقها صروح برج رائع الجمال شُيِّدَ من الرخام الأبيض متعدد الطبقات."
كان لابد من إشارة تدل البحارة على الميناء لأن الشواطئ المحيطة بالمدينة كنت منخفضة. فشيَّد بطلم الثاني سنة 297 قبل الميلاد برجاً هائلاً للمنارة على الجانب الشرقي من الجزيرة. وكانت المنارة مبنى ضخماً إعْتُبِرَ الأعلى في العالم حتى بناء برج إيفل بعد ألف وخمسمائة عام من ذلك. بلغت المنارة من الضخامة أن إعْتُبِرَت جزءاً من عجائب الدنيا السبع في العصور القديمة.
وتفاصيل المبنى الأساسية واضحة، إذ شُيِّدَ البرج بأقسام ثلاث، فكان المبنى السُّفلي مربعاً أُحيط بالنوافذ على جوانبه وفيه حوالي 300 غرفة. وتؤدي السلالم شبه المحورية إلى طبقة ثانية ثمانية الأضلاع، أما الجزء الدائري الثالث فيؤدي إلى غرفة الإنارة، التي تُوِّجَت بتمثال لـ"بيسيدون".
كانت شعلة المنارة تُشاهَد من على مسافة ثلاثة أميال في البحر. فقد كتب المؤرخون المعاصرون لتلك الحقبة أن المنارة كانت تُضاء بحريق هائل يتغذى بمصعد هيدروليكي يحمل الوقود إلى أعلى المنارة. وكان هذا يعتبر إنجازاً رائعاً في تلك الفترة..
وتروى حكايات أخرى عن توصُّل العلماء إلى ما يشبه المرايا وآلية العدسات التي تعكس نور الشعلة عبر البحر. لا أحد يعرف بدقة ما الذي كان يعكس الضوء؛ لأن سر هذه الآلية قد ضاع مع سقوط الطبقات العليا في البحر عام 1307م.
تحل اليوم محل تلك المنارة قلعة شُيِّدَت بعد انهيارها؛ وهي تُعرَف بقلعة "خليج قايت" أو "قايتباي". وقد بُنِيَت هذه القلعة في القرن الخامس عشر، مستعينةً بأساس حطام المنارة المحطمة.. ويمكن رؤية أجزاء من الرخام الأحمر الخاص بالمنارة القديمة بين حجارة الجدران الكلسية الحديثة وأرضيتها.
ولكن أبحاث معاصرة تؤكد أن بقايا المنارة الحقيقية تحت الماء بعيداً عن الشاطئ. وبما أن التآكل يشكل خطر جدي على القلعة، رُفِعَت كواسر من الصخور الإسمنتية لحمايتها، يدّعي البعض أيضا أنها أُلْقِيَت فوق بقايا المنارة!!
اليوم يعمل مجلس الآثار المصري على إطلاق حملة واسعة النطاق لحماية آثار الماضي، إلى جانب المحافظة على الحاضر.
ويقول درويش: "جرى المَسْح هذا العام في منطقتين: إحداهما بالقرب من "خليج قايت"، لتحديد الأثريات التي تقع بين الصخور الإسمنتية التي وضعت عام 1993، فوق الأثريات، وقد أوقف المجلس الأعلى هذه الأعمال كلياً، لهذا سنعمل اليوم على رفع الصخور الأثرية للبحث عن تلك الأثريات...
تم إخراج أكثر من 35 قطعة أثرية من تحت الماء، كان من بينها قطع رخامية هائلة تحتوي على نقوش هيروغليفية، وتماثيل أسطورية، وصخرة رخامية بلغ وزنها طن ونصف الطن لمنحوتة امرأة بلا رأس. يعتقد أن هذا التمثال يعود لزوجة بطلم الثاني، الذي شيد صروح المنارة الهائلة، والتي ربما شكلت قطعة أخرى من أحجية تاريخ الإسكندرية المجيد.
ويكمل درويش: "تعاونّا في المسح مع فريق فرنسي، وقد أحصينا هذه الأثريات وعثرنا على 723 قطعة. وهكذا سنعمل على وضعها في الداخل بعد إعادة بناء كاسِر الأمواج لحماية القلعة.
ما هو أغلى كنوز الإسكندرية؟
يعود بنا اكتشاف الأثريات الغارقة إلى عصر كانت الإسكندرية فيه أغنى وأكبر مدينة تطل على الأبيض المتوسط. وكانت المكتبة الكبرى مفخرة للإسكندرية، إذ ضمَّت غالبية المخطوطات الأدبية والفلسفية والعلمية في العالم. فإعتبر كنزاً لا يُقَدَّر بثمن. ورفعت صروح المكتبة سنة 295 قبل الميلاد، وكان هدفها أن تحتوي على نسخة من جميع كتب العالم. والحقيقة أنهم كانوا يحجزون كتب جميع السفن التي ترسو في المدينة، فترسل النسخة الأصلية إلى المكتبة، بعد أن تُعَد نسخة منه وتعاد إلى السفينة.
وتم استعارة مخطوطات لسوفوكليس وإوريبيديس من أثينا مقابل كميات كبيرة من الفضة، كان الملك بطلم الثالث يعيد النسخات الأصلية باستمرار ويستعيد الفضة. وأحياناً يُقال أنهم كانوا يعملون نُسَخ طبق الأصل ويحتفظون بالأصل!
وكانت تحتوي على الكثير.. أعمال هومير، وتاريخ بابل، وكتب المعتقدات الفارسية، والمؤلفات البوذية، وواحد وثلاثين جزءا من التاريخ المصري توثِّق لأحداث من بدايات العصور القديمة، كل هذه جُمِعَت وحُرِّرَت في هذا المبنى التعليمي..
وتتحدث الأساطير عن اثنين وسبعين مؤرخاً من مختلف القبائل المحلية قد عملوا على ترجمة الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم إلى اللغة اليونانية، حيث عُرِفَ باسم "سيبتوغينت"، وما زالت هذه الأعمال تعرف حتى اليوم بلقب العهد القديم.
وقد صُنِعَت تلك الكتب القديمة على لفائف جلدية أو ورق البردي، وكانت تُكْتَب باليد أو يُمليها الكاتِب على مجموعة من الكتبة. وكان أغنى جميع ورثة البطالمة محتويات المكتبة الكبرى، وفي عصر كليوپاترا، آخر ملكات البطالمة، قيل أن المكتبة كانت تحوي على 700 نسخة من البردي شَكََّلَت 30000 عمل إبداعي.
كليوپاترا
وقد ولدت كليوباترا في قصر الإسكندرية الملكي. كانت فتاة قوية ومتعلمة جداً حين أُعْلِنَت ملكة على مصر وهي في الثامنة عشر من عمرها فقط! ورغم مرور ألفي عام على مجدها، فما زالت كليوباترا تحتفظ بسمعتها كأشهر سيدة إغراء في التاريخ، فتعززت أمجادها من خلال "پلوتارش" و"شكسپير" و"هوليود".
ويقول پلوتارش: "لم يكن جمالها الأكثر بروزاً في واقع الحال، بل تأثيرها الروحي الذي لا يقاوَم، شخصيتها الجذابة، بالإضافة إلى سحر أحاديثها، ومزايا الجودة في كل ما قالت أو فعلت، جعلت منها ساحرة فاتنة.."
الصورة الشعبية لكليوباترا كآلهة وملكة ومغرية غَطَّت على حقيقة أنها كانت مُفَكِّرة.
بلوتارش: "أضِف إلى ذلك أنها كانت تشبه آلة متعددة الأوتار، تتنقل في الحديث من لغة إلى أخرى ببساطة جعلتها تستعين بالمترجمين فقط للتعامل مع بعض القبائل البدائية. ولكنها كانت تتحدث بنفسها مع الغالبية العظمى. كما هو حال الإثيوبيين والعرب والآشوريين والآراميين وغيرهم من الذين تعلمت لغتهم.. عِلماً أن غالبية أسلافها البطالمة لم يُكَلِّفوا أنفسهم عناء تَعَلُّم هذه اللغات المحلية المختلفة."
وقد تلقت كليوباترا تعليمها منذ الصغر وحتى بلوغها عرش السلطة في أرجاء المكتبة الكبرى ومجمع المتحف الشهير. ولكن كليوباترا ليست الشخصية الوحيدة التي أثَّرت بالإسكندرية ومكتبتها الشهيرة. فرغم قوة مصر وثروتها وحضارتها القديمة، إلا أن روما شكلت القوة العسكرية المُهَيمِنة. ففي أيلول/سبتمبر من عام 48 قبل الميلاد وصل چنرال روما الكبير يوليوس قيصر إلى مصر مُتَعَقِّباً خصمه المُنْهَزِم "بامبي".
ويقول سيوتونيوس: "قيل بأن القيصر كان طويل القامة أبيض البشرة قوي البنية مُتّسِع الوجه بُنّي العينين. أي أنه كان وسيماً، يُهَذِّب شعره ويحلق ذقنه باستمرار. أما جرأته فكانت حديث أعدائه باستمرار.. أي أنه شخصية لجميع المناسبات.
وقد أرادت كليوباترا حماية مملكتها من توسُّع الإمبراطورية الرومانية، فتحالفت مع قادة روما. سحرت الملكة الفاتنة الشابة القيصر البالغ من العمر خمسين عاما، وأدهشته بذكائها. فأصبحت عشيقته في الثالثة والعشرين من عمرها، وبالتالي أقوى إمرأة في العالم.
حريق مكتبة الإسكندرية القديمة
ويقول فخراني: "وقع يوليوس القيصر بحبها، فأُجْبِر على الدفاع عنها من أخيها، ثم حمل قضيتها وخاض في حرب ضد جيش أخيها، وهذا ما أدى بالطبع إلى حرق المكتبة!!
فقد حصلت أسوأ الكوارث في التاريخ عندما كان القيصر في الإسكندرية يواجه الصدامات بين المصيريين والوحدات الرومانية، وقد حوصر جيش القيصر ضمن القصر الملكي. فأمر يوليوس بحرق قافلة الأعداء لكسر الحصار! سُرعان ما هَبَّت الرياح الشمالية حاملة معها النيران إلى المكتبة الكبرى، مُحَوِّلة بذلك عشرات الآلاف من الكتب إلى مجرد رماد!!!!
حاولت كليوباترا إعادة بناء المكتبة الكبرى، فأمرت بترميم المبنى والحصول على مجموعات جديدة من المخطوطات.
ومن الجدير بالذِّكر أنه يقع اليوم بالقرب من مسلة تُعْرَف باسم بومباي موقع المكتبة البديلة التي أقامتها كليوباترا في منطقة الشاطبي.
ورغم اختفاء جميع آثار المكتبة العظمى إلا أننا نستطيع معرفة ما كانت عليه المكتبة تقريباً مما نراه هنا. فوضعت آلاف المخطوطات في أخاديد كهذه في مستودعات تحت الأرض، وكانت كل مجموعة تحمل إسم الكاتِب على علاّقة خشبية.
وقد يبقى مجهولا إلى الأبد عبر الأزمان الغابرة ما تعرَّضَت له فعلاً مكتبة المعارف العظمى، ولكن المؤكد هو أن المكتبة قد تركت أثراً واضحاً على العلوم والآداب في عالمنا المعاصر، حتى أنها كانت من الأسباب التي أبقت على روائع كلاسيكية كالتي تركها هومير وسقراط وبلاتو حتى يومنا هذا..
ويُقال أن المتحف شُيِّد إلى جانب المكتبة أو الموزيون كما كان معروفاً حينها. وقد ضمّ هذا المبنى أشهر علماء العالم الذين عاشوا وعملوا ودرسوا هنا.
تعني كلمة "موزيون" معبد ميوز، تَيَمُّناً لآلهة المعرفة المعروفة باسم ميوزيس. لهذا فإن كلمة ميوزيم Museum الغربية المعاصرة تأتي من هذه الكلمة.
وقد شملت جدران هذا المبنى أبحاث ودراسات ومحاضرات على طريقة ما يجري في الجامعات المعاصرة. يؤكد سترابو أن المتحف كان مُلحقاً بالقصر الملكي.
سترابو: "كان في المتحف ممراً للعامة، وفي وسطه قاعة للطعام تتمتع بشرفات مراقبة في الطبقة العلوية. وهناك قناطر مُعزَّزَة بمقاعد، ومنزل كبير يضم غرفاً لرجالات العلم الذين يعيشون في المتحف."
هنا طوَّر "إوكليد" (إقليدس) نظرياته وألَّف كتاب "العناصر"، واضعاً بذلك أُسُساً لعلوم الهندسة والنسب ونظرية الأرقام. وتوصل "أرشميديس" إلى المضخة التي ما زلنا نستعملها اليوم. وحاول "أريستارش" أن يثبت بأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض، وذلك قبل 1500 عام من ولادة "كوچيرنيكوس" و"جاليليو". وكذلك أكَّد "إيراتوستينيس" أن الأرض كروية، وقَّدم دليلاً على ذلك عبر إختلاف الظِّل الذي تعكسه الشمس أول أيام الربيع في مدينتي الإسكندرية وأسوان الواقعة على مسافة مئات الأميال.
مكتبة الإسكندرية الجديدة
وقد مَنَحَت مؤسستي المكتبة والمتحف حكام الإسكندرية أداة قوة من خلال المعرفة. ربما لا نعرف ما جرى للمكتبة القديمة، ولكن الفكرة قد أنشئت من جديد في الإسكندرية المعاصرة.
طورت الحكومة المصرية بالتعاون مع اليونيسكو وهيئة الأمم المتحدة مشروعاً لإنعاش المكتبة وجعلها مركزاً للعلوم والأبحاث. وقد تم إعادة بناء المكتبة إلى جانب الميناء، تقريباً في نفس الموقع الذي كانت فيه المكتبة والمتحف القديمان. وهي تطل من وراء البحر داعية الباحثين من جميع أرجاء العالم إلى الإسكندرية وإلى مركز المعارف الرائع هذا. وكما قيل عنها أنها نافذة مصر على العالم، ونافذة العالم على مصر.. وتستطيع زيارة موقعها على الإنترنت من هنا: http://www.BibAlex.org/English/index.aspx
الغوص تحت الماء بحثاً عن القبور القديمة
حصلت متغيرات كثيرة في الإسكندرية بعد إغتيال يوليوس القيصر عام 44 قبل الميلاد. عند ذلك حكمت إمبراطورية روما من قبل ثُلاثي شمل كلاً من "أوكتاڤيان (أوكتاڤيوس) قريب القيصر وولي عهده، ومارك أنطوني.
أراد أنطوني السيطرة على الإمبراطورية بكاملها، وكان بحاجة إلى ثروات مصر وكليوباترا لتحقيق النجاح. أما كليوباترا فأرادت مارك أنطوني لمساعدتها في حماية مملكتها من توسع إمبراطورية روما؛ أي أنها مصلحة مشتركة. فقد كانا يحتاجان إلى بعضهما البعض للتغلب على عدوهما أوكتاڤيان.
ويقول فخراني: "عندما أُرْسِلَ مارك أنطوني رسمياً من قِبَل مجلس الشيوخ إلى الشرق، فتيم بحب كليوباترا هناك، وتبرع بكل الغنائم التي جمعها من الشرق إلى الإسكندرية لما يكنه من حب تجاه كليوباترا. فأصبح أوكتافيان الشخصية الأبرز في روما، فاتهم مارك أنطوني بخيانة الإمبراطورية. وقد غضب جداً لأن أنطوني سلَّم غنائم روما إلى كليوباترا."
"فإنتهز الرومان هذه المناسبة لتحريض مجلس الشيوخ على مارك أنطوني وكليوباترا والإسكندرية، وقد اعتبروا أنه إذا فاز مارك أنطوني والإسكندرية، سوف تخضع روما بكاملها للإسكندرية، ولن تبقى هذه الأخيرة خاضعة لروما. فواجهت وحدات أوكتافيان القوة التابعة لأنطوني وكليوباترا على شواطئ اليونان، في مكان يعرف باسم أكتيوم. وقعت معركة أكتيوم عام 31 قبل الميلاد، وكانت لتحدد مصير الإمبراطورية وتغير مجرى التاريخ.
كان الرهان كبيرا، إذ كان لنتائج هذه الحرب أن تُحَدِّد ما إذا كانت عاصمة الإمبراطورية ستبقى في روما أم تنتقل إلى الإسكندرية.
ويقول ديو كاسيوس: "كانت سفن أوكتاڤيان أشبه بالفروسية، تسير قدماً بسرعة هائلة وتتراجع إلى الخلف بالسرعة نفسها. أما سفن أنطوني فكانت كالمشاة المثقلة بالأسلحة، والتي تحاول الحصول على غطاء والمحافظة على مواقعها قدر الإمكان!
وكانت معركة شرسة هُزِمَ فيها أنطونيو وكليوباترا. وعندما دخلت الوحدات الرومانية إلى المدينة، أدرك أنطوني وكليوباترا أنه لا يوجد مفر. فرفض أنطوني الاستسلام وفضل الإنتحار بسيفة والسقوط بين ذراعي كليوباترا!! وإنتحرت كليوباترا بدورها أيضا بعد أن فشلت في الحفاظ على إستقلال مصر وسلالة البطالمة!!
فسقطت المرأة الأقوى في العالم، لتسقط معها مدينتها الحبيبة الإسكندرية.
وقد تغيَّر مجرى التاريخ بعد أن تحولت مصر إلى محافظة أخرى في إمبراطورية روما. مع مرور الزمن إختفت روائع الإسكندرية مع العصور الغابرة، بعد أن أغرقت الزلازل شواطئها القديمة.
وتعتبر مواقع القبور التي تضم رفات الإسكندر الكبير ومارك أنطوني وكليوباترا من أبرز التحديات التي تواجه علماء الآثار حتى يومنا هذا. فأثناء حمل جثة الإسكندر من بابل إلى اليونان تأثر بطلم الأول بمماته فحصل على الجثة وجاء بها إلى المدينة التي حملت اسمه. ودُفِنَ الإسكندر في قبر ملكي، تحوَّل فيما بعد إلى مقبرة لجميع أولياء العرش في سلالة البطالمة الذين أرادوا البقاء بجانبه إلى الأبد.
وقد قام العلماء بالبحث عن مقبرة الإسكندر المقدوني منذ عدة قرون، حتى بلغ عدد أعمال البحث أكثر من 140 عملية! ولكن مقرّه ما زال يشكلا أحجية معقدة. ويعتقد البعض أن مقر المقبرة كان عند تقاطع الجدتين الرئيسيتين اللتان تربطان الشمال والجنوب بالشرق والغرب في المدينة القديمة، ما يجعل التقاطع العصري لشارع النبي دانيال وطريق الحرية مركزاً للإسكندرية القديمة.
عُرِفَ هذا الشارع في الماضي بطريق الفخار. وقد أُحيط بالأعمدة وزُيِّنَ بالتماثيل والبرك. وقد امتد من بوابة الشمس في الشرق إلى بوابة القمر في الغرب. ويُعتَقَد أن قبر الإسكندر المقدوني يقع بالقرب من مسجد النبي دانيال.
تؤكد بعض الحكايات العربية المحلية أنه في مكان ما لم يستكشف بعد من تحت أقبية المسجد ما زالت جثة الإسكندر المقدوني الكبير مغطاة بناووس صنع من الزجاج. ولكن موقعه المحدد ما زال مجهولا، علما أنه يشكل عقدة أساسية في علم الآثار.
بينما يستمر البحث عن قبر الإسكندر، تم العثور على عدة قبور قديمة تحت الشوارع القديمة للإسكندرية. تعتبر هذه المقبرة الفرعونية مواقع أثرية مدهشة، إذ أنها مطعمة بمزيج غريب من الحضارات المصرية واليونانية والرومانية التي استقرت في الإسكندرية. وتم اكتشاف سرداب كوم الشقافة مصادفة عام 1900. وقد شُيِّدَ سرداب الموتى هذا بطريقة فريدة، لما فيه من طبقات ثلاث تحت الأرض، مُعَزَّزَة بسلالم دائرية تغوص 150 قدماً في الصخور الكلسية.
وتشكل الطبقة الأولى سرداب قبر عائلي يعود للقرن الثاني. ينتصب عند المدخل تمثال لچنرال روماني، يمكن رؤية التمازج الحضاري في الجذع الذي صمم جسده على الطريقة المصرية ونحت رأسه بالأسلوب الإغريقي.
وهناك نموذج آخر من هذا المزيج الثقافي يبرز عبر تمثال منقوش لـ"أنوبيس"، وهو إله موت مصري برأس كلب، وجسد محارب روماني. وتوسع السرداب عبر الزمن ونحتت ممرات تؤدي إلى قبور لمئات المومياء.
وتؤدي قبة نصف مستديرة إلى الطبقة الثانية. نُحِتَت هنا غرفة قاعة كبرى في الصخر تصطف فيها المضاجع. وهذه قاعة للطعام يجتمع فيها الأقارب لتكريم مواتهم بوليمة فاخرة.
وتؤكد الأدلة إلى أن مقبرة الإسكندر الكبير قريبة من هناك، والأبحاث مستمرة. من المحتمل جداً أن يتم اكتشاف مقبرة الإسكندر يوما ما. ليحل بذلك جزءاً من أهم الأسرار الأثرية.
* * *
وفي صيف عام 1996 بدأ فريق من الأثريين المصريين والفرنسيين بقلب صفحات الزمن إلى الخلف في محاولة للكشف عن مزيد من القصور والنصب التاريخية المخبأة بين الخرافات والغموض.
يقول غوديو: "الهدف من حملة البحث هذه هو تحديد ما كان عليه الحي الملكي في مدينة الاسكندرية التي كانت أجمل مدينة في العالم في ذلك الوقت."
ويحتاج فريق الأبحاث لتحقيق هذه الهدف إلى أحدث التكنولوچيا العصرية المستخدمة تحت الماء. بدل إستخدام الرفوش والمعاول لتحديد الميناء إستعانوا بالأقمار الصناعية والكمپيوتر وأدوات الغطس وكاميرات تحت الماء.
ونظام الأقمار الصناعية المعروف بلقب نظام تحديد المواقع العامة أو DGBS، يعتمد على التكنولوجيا العسكرية المستعملة سابقاً في توجيه الصواريخ!
تُمَكِّن هذه المعدات من تحديد الأشياء التي تحت الماء بسرعة ودقة متناهيتين. بعد مسح ميل ونصف الميل مربع تمكنوا من تحديد مواقع 1000 قطعة أثرية!
وقد أشار سترابو في كتابه إلى إمتداد شبه جزيرة في أعماق البحر إلى الشمال الشرقي من الميناء. وقد عرف هذه المنطقة المعروفة بنقطة لوكاس، كجزء من الحي الملكي.
شكَّل حي البطالمة الملكي مجموعة من المباني الفاخرة المدهشة. وطوال أكثر من 300 عام تمكن جميع أولياء العرش من بناء قصور خاصة بكل منهم على طول شاطئ الميناء، ليسعوا بذلك حدود المجمع الملكي.
وفي عصر كليوباترا بدأ الحي الملكي من أول النتوء، ليمتد غرباً وجنوباً إلى ما يُعَرف اليوم بـ"محطة رام لله" الحالية.
أقيم عند أول النتوء حديقة ملكية وحديقة حيوانات وطيور تضم آلاف من الطيور القادمة من مناطق بعيدة.
وقد عثر الغطاسون نحو الغرب على شبه جزيرة غارقة وأصغر حجماً. يُعتقد أنها كانت مقراً لمعبد بوسيدون على حد وصف سرابو. وعند نهاية شبه الجزيرة وعلى رصيف من صنع الإنسان عثروا على إكتشاف هام آخر يكمن بطريق معبدة وأعمدة صخرية من الرخام الأحمر. ربما كانت هذه من بقايا قصر مارك أنطوني الذي عُرِفَ بإسم "تيمونيوم".
ويكمل "غوديو" قائلاً: "عثرنا عند الشاطئ على تماثيل وسفينكسة (أبو الهول) ومجموعة كبيرة من أعمدة الرخام الأحمر، وقد سقط كل شيء على الرصيف المعبد، وهذا مشهد مدهش بحد ذاته."
تابع الغطاسون على شاطئ الميناء فعثروا على الشاطئ القديم الذي كان مرصوفاً بطريقة رائعة. وصف "ستاربو" هذه المنطقة بأنها "الإمبوريوم"، أو مركز السوق.
كان السوق المركزي يزدحم بتجار يأتون من مختلف المناطق، وكانت المستودعات مليئة بمخزون القمح وخيرات النيل على أنواعها.
وقد عثر فريق "غوديو" على آثار يونانية ورومانية، ما يشير إلى تنامي نفوذ روما بعد أن أصبحت مصر محافظة من الإمبراطورية. كما عثروا على كتل من مواد البناء المعدة للشحن على ظهر السفن. ما يؤكد بأن المنطقة بقيت تستخدم حتى عام 365 عندما أدت الكارثة المفاجئة إلى غرق الشواطئ.
عثر الغطاسون على طول الشاطئ على أهم اكتشاف لهم. وجدوا شبه جزيرة صغيرة قد تكون مركزاً للميناء القديم. تقع في نهاية لسان اليابسة جزيرة صغيرة منفصلة عن الشاطئ. وقد عثروا هناك على كميات كبيرة من أعمدة الرخام. كما عثروا من حولها على كميات من التماثيل والعروش. تبين لهم فيما بعد أن مواصفات الجزيرة تنطبق مع ما كتبه "سترابو" عن جزيرة "أنتيرودو"، الذي أقيم فيه قصر كليوباترا الملكي.
ويقول د. فخراني: "أي أننا في هذه الحالة أمام جزيرة "أنتيرودوس"، التي تؤكد كتابات "سترابو" أن فيها قصراً صغيراً، شُيِّد على أرض مرصوفة بالصخور الكلسية المعززة بالملاط الرمادي. ولكن هذا الملاط الرمادي لم يُستخدم في العصر الروماني، ولا في العصور البيزنطية."
ما يحدد زمن بناء القصر هو الأسلوب الذي وجدت فيه الأعمدة. ففي بدايات عصر البطالمة إسْتُخْدِمَت الأعمدة الرخامية المعززة بأساليب الدوريين الإغريقية التي إنتشرت في أرجاء القصور. أما في آخر عصور سلالة البطالمة فقد تم الاعتماد على أعمدة الرخام الأحمر المبنية على الطراز الكورنثي والتي عثر عليها في الجزيرة.
تنتمي الأشياء التي عُثِرَ عليها إلى سلالة البطالمة، ما يوحي بأن القصر قد هجر بعد إنتحار كليوباترا مباشرة عام 31 قبل الميلاد. بما أنها كانت آخر ملكة من سلالة البطالمة، لابد أنها سكنت في هذا القصر.
ويكمل د. فخراني قائلاً: "عثرنا على شيء تحدث عنه "سترابو" الذي شاهد الإسكندرية في ذروة مجدها. وهكذا فإن تحديد جزء من المبنى الذي كانت تسكنه، يشكل بحد ذاته إنجازا لا يقدر بثمن."
ويضيف "غوديو": "نستطيع اليوم التحدث أكثر عما في الجزيرة من العام الماضي، ونستطيع القول أن الجزيرة بكاملها مرصوفة، كما نجد وسط الجزيرة كميات متراكمة من البقايا الأثرية، علما أننا ما زلنا في بداية الحفريات."
عُثِرَ في هذا الموسم على أعمدة خشبية وهي ما زالت في أماكنها تحت الماء تشكل جزءاً من أرصفة الصخور الكلسية للجزيرة. تحليل أي قطع خشبية يتم العثور عليها في المنطقة سيساعد على تحديد التاريخ الذي تعود إليه بقايا القصر.
وتؤكد أعمال المَسح بأن جزيرة "أنتيرودوس" تقع في الحقيقة إلى الغرب مما كان يعتقد في الماضي. كما أن شبه الجزيرة التي شُيِّد عليها قصر مارك أنطوني تقع في منطقة أقرب إلى "رأس لوكاس".
د. فخراني: "لم يتمكن "غوديو" من تحديد موقع قصر كليوباترا فحسب، بل ساعدنا في تحديد عدة مواقع أتى "سترابو" على ذكرها بالتحدث عن إسكندرية البطالمة، أي الإسكندرية في ذروة أمجادها."
غوديو: "أعتقد أن الرومانسية التي جمعت كليوباترا بمارك أنطوني أثرت بنا جميعاً؛ لأننا أثناء التَنَزُّه في هذه الجزيرة وعلى تلك الأرصفة لا يمكن إلا أن نفكر بالأشياء التي ربما رآها جوليوس القيصر أو لمسها مارك أنطوني.. لا شك أنها مؤثرة."
كيف كانت تبدو الإسكندرية القديمة فعلاً؟
تعتمد الآثار في أعمالها الجارية في اليابسة أو تحت الماء على عملية معقدة لتنفيذ الحفريات. وهي عادة ما تزيل الأثريات وتدرسها وتحفظها في مختبرات أو متاحف. أما الآن فلا تعتبر هذه هي العملية الجارية في الميناء الشرقي للإسكندرية.
وديو: "عمل أولاً على رسم خريطة لما يمكن أن تكون عليه المباني في الجزيرة أو على الشاطئ، ولكنا الآن لا نلمس ما يتم العثور عليه، بل نتركه في مكان يستحق الغوص لتصويره ومقارنته مع غيره في المكان الذي هو فيه حيثما سقط."
وقد سقطت أعمدة كبيرة وقطع هائلة من الرخام على طول الشاطئ. يتم تسجيل كل من هذه القطع في موقعه للمساهمة في إعادة تصور المباني وما كانت عليه في القدم.
ويضيف "غوديو": "بعد إكتمال المعلومات حسب تحديد وجهة الأعمدة، والصخور الرخامية ربما نتمكن من معرفة ما جرى خلال الزلزال وأماكن حصول المنزلقات. يمكن أن ترى ذلك على الخريطة بالطبع ولكنه أجمل بكثير على أرض الواقع تحت الماء حيث تتحدث عن نفسها بشكل أفضل."
يأمل علماء الآثار عبر آلاف المعلومات المجزأة هذه، ومن خلال المقاييس الأثرية والطبوغرافية، إلى جانب بعض التوقعات، يأملوا بأن يتمكنوا من إعادة بناء الحي الملكي.
يكمن أحد الأهداف في العمل على إعادة تشييد بناء ثلاثي الأبعاد يكشف عن ملامح ما كانت عليه المدينة في عصر كليوباترا.
وتلعب الألوان دورا هاما في تلك القصور والمعابد القديمة، طاقة ورموز وعظمة المدينة تشكل شهادة جريئة.
وتؤكد المؤلفات المكتوبة بأن شقة كليوباترا الخاصة كانت تزدحم بالروائع والأعمال الفنية الراقية، والكراسي الفاخرة وصناديق نفائس مرصعة بالعاج والذهب. كما أن الأرض الرخامية البراقة كانت تغطى بسجاد رائع التصميم. كما تُزَيَّن الممرات بأبواب من خشب الأبنوس ومسكات أبواب صنعت من العاج والنفائس الأخرى.
ومن الجدير بالذكر أن أعمال الحفر الجارية في ميناء الإسكندرية تترك أثراً عميقاً في جميع المصريين، يتعزز ذلك باستخدام الكمبيوتر لتصوير قصر كيلوباترا، أو بالعمل على ترميم آثارها الضائعة.
ويقول درويش: "أرى أشياء ما كنا نراها قبل بضعة سنوات، ولكني أرى أشياء لا يمكن لأحد أن يصنع مثله من جديد. أشعر اليوم كمصري من أبناء الإسكندرية، وكأني أتحدث من جديد مع أجدادي. يسرني جداً اللقاء بهم ثانية، وبما تركوه وراءهم."
يشكل وضع خريطة جديدة للميناء مجرد بداية لمشروع هائل. يعتبر علماء الآثار أن أعمال الحفر والتنقيب وتصنيف المناطق سيستغرق عشر سنوات أو أكثر. وهناك جدال يتم اليوم حول أفضل السبل لحماية الأثريات التي تم العثور عليها في الميناء.
غوديو: "يعود الأمر للسلطات المصرية كي تحدد بعد إنتهاء التنقيب، ما هي الآثار التي سَتُنْقَل إلى المتاحف؟ وما إذا كان كل شيء سيبقى تحت الماء؟! وما إذا كانت سَتُقيم حديقة أثرية يطلع الجمهور من خلالها على الأثريات. سيتقرر ذلك من خلال السلطات المصرية في الوقت المناسب.
وقد طرحت مع هذه الاكتشافات مجموعة من الأسئلة، منها: كيفية تمكين الناس من رؤية مدينة كيليوباترا الملكية، دون تدميرها.
درويش: "سنقرر ما إذا كنا سنعد متحفاً تحت الماء يكون الأول في العالم، يأتي السياح إليه للغطس ومشاهدة الآثار تحت الماء. هذا ما أود رؤيته، ولكن إعداد المتحف يحتاج إلى جهود كبيرة."
هناك مدن تقيم حدائق تحت الماء لمساعدة السياح على رؤية المخلوقات البحرية في بيئتها الطبيعية. يفكر المجلس المصري الأعلى للآثار باستخدام غواصات كهذه تمكن السياح من رؤية روائع الإسكندرية القديمة، إلى جانب المخلوقات البحرية. وهناك مشروع لإقامة منطقة مراقبة تحت الماء، إلى جانب متحف أثري.
ويضيف "فتاح": "يجب أن نخرج أفضل الأثريات، ونبقي القطع الكبرى في مكانها. وقد نقيم متحفا تحت الماء، يصنع من الزجاج، يستطيع الزائر فيه التمتع بالغداء في مطعم أو مقهى أو ما شابه ذلك، وهو محاط بالآثار والأسماك في قاع البحر. هذه طريقة للتمتع بالحياة وبالثقافة وبالآثار."
يؤيد علماء الآثار البحرية والعلماء المحليين فكرة إقامة حديقة أثرية تحت الماء. قريباً سيتم إغلاق آخر أنابيب الصرف الصحي، لهذا تتوقع السلطات أن تتحسن الرؤية في مياه الميناء، مما يحث الزوار على المجيء إلى الإسكندرية لرؤية قصر كيليوبترا الضائع وغيره.
درويش: "ربما نتمكن في العام المقبل من إقفال آخر أنبوب للصرف الصحي كما وعد المسؤولون هنا، لهذا نأمل أن تكون الرؤية في العام المقبل أفضل."
ويتوقع الدكتور فخراني مستقبل زاهر للميناء كمركز سياحي ممكن تحت الماء. ويقول: "أعتقد أن الإسكندرية ستصبح من أهم الأماكن الأثرية في العالم. والأهم من ذلك هو أنه إن حالفنا الحظ في التأكد من كل ما ورد، قد يكون هذا الموقع أكثر أهمية من الأقصر. لهذا آمل أن يتحقق هذا الحلم في القريب العاجل."
تقع الإسكندرية على تقاطع طرق بين الحضارات، وكانت مركزا تتجمع فيه المعارف العالمية. غيبت هذه المدينة القديمة لأكثر من ألفي عام خلف ستار من الغموض والأساطير، بعد إختفاء قصور هذه المدينة ومعابدها جميعاً على مر العصور! ولكن ميراثها حمل من قبل الإغريق والرومان إلى أوروبا في عصر النهضة، وإلى أيامنا هذه.
وقد كشفت أعمال التنقيب الجارية في الميناء الشرقي النقاب عن الإسكندرية القديمة، وأزالت الغموض عن ملامحها الباهتة. ومع استمرار العلماء في أبحاثهم، سَتُحَل ألغاز الإسكندرية ونصبها قصورها الضائعة في نهاية المطاف. قريباً ستشرق شمس هذه المدينة الأسطورية القديمة من جديد، كي تضيء العالم كإحدى أهم المدن التاريخية المدهشة في العالم.