الممارسة النقدية والنص الأدبي في التجربة العربية
للكاتبة المغربية زهور كرام
يعد النقد الأدبي شكلا من أشكال التفكير. يُعبر إلى جانب مختلف تجليات التفكير، عن نوعية المنطق المُستعمل في بيئة معيَنة، ودرجة استعمال الفكر في تدبير الموقف، وإبداء الرأي.
لا يتعلق الأمر، بمجرد إنتاج وصفي للأدب، ولكن بشروط التفكير لدى مجتمع ما. من أجل ممارسة نقدية فعالة، تنتج الرؤية، وتعمل على جعل الأدب ضرورة مجتمعية ووجودية، يحتاج الأمر إلى دعائم، تساهم في تخصيب منطق التفكير، ولعل من أهم هذه الدعائم، نشاط السؤال الفلسفي، من خلال حضور الفلسفة، في التعليم والحياة الثقافية، إضافة إلى دور المنظومة التربوية، واعتمادها مفهوم التربية على تشغيل التفكير، وتنشيط أفعال الملاحظة، والتأمل، والانتباه، والدهشة والتحليل، إلى جانب عناصر أخرى، ذات علاقة بمفاهيم الديمقراطية السياسية، والاجتماعية، والمواطنة، والحوار. يصبح النقد، إذن، مسار ذاكرة مجتمع، وتربية، وثقافة، وسياسة، واقتصاد. ليس هناك قطيعة بين ممارسة النقد على مستوى التعبيرات الأدبية، والفنية، وبين موقع الفرد في الحياة العامة للمجتمع، والدولة. لهذا، نستغرب، في كثير من الأحيان، عن سبب بقاء النظريات الفكرية والنقدية، تلك التي يعتمدها الناقد العربي عندما يقرأ (يفكر) العمل الأدبي العربي، خطابات خارج نصية، وذلك، عندما نستطيع أن نُميز في دراسة نقدية، بين النظري (أفكار، مفاهيم، طريقة في التحليل، إجراءات تقنية…) من جهة، والنص الأدبي من جهة ثانية. بمعنى آخر، لا يحدث هذا التفاعل الوظيفي بين النظري والنصي، إلى حد، تجعلنا المقاربة النقدية، ننسى تاريخ النظري، وسياقه، وخلفيته التاريخية والفكرية، وكذا مرجعيته الجغرافية والأدبية. إنما، الذي يحدث- في غالب الأحيان- هو هذا التوازي بين خطابين اثنين يسيران معا (الأدبي/النظري)، دون أن يلتقيان عند نقطة، تنتصر للأدب، ولمنطقه، ورؤيته، وتمنح للنظري هوية جديدة من وحي النص الأدبي.
بهذا الشكل، تُغادر النظريات النقدية مرجعياتها السابقة، عندما تتعامل معها الممارسة النقدية، باعتبارها مجرد وسائط خدماتية، للموضوع ـ الأساس، الذي هو الأدب، وعبارة عن خطاب يُقدم لنا أولا، تجربة تفكير مجتمع، وثقافة في أدبه، والنتائج التي تم التوصل إليها من خلال التجربة، ويُعلمنا من جهة ثانية، كيف يتحقق السفر في الأدب، وفق منهجية، وإجراءات، وتصورات، ويُدرَبنا، من جهة ثالثة على استعمال النظريات باعتبارها عيون ليس إلا، تساعدنا في إنتاج الرؤية من النص، دون أن تُلزمنا بتبني نفس رؤية النظريات. ولنا في النقد الفرنسي أمثلة جادة، على هذا التصور فيما يخص العلاقة الإنتاجية الواجب تحققها بين النظري والأدبي. طبيعة تركيبة النقد الفرنسي، من خلال الاهتمام بالنص، وجعله هو الأساس، جعلنا، كمتلقين لهذا النقد، لا نرى، ولا نلاحظ النظريات النقدية غير الفرنسية، والتي اعتمدها الناقد الفرنسي، في قراءته للأدب الفرنسي. ذلك، لكون المنتوج النقدي يصلنا، من بوابة النص، وليس النظرية. ولهذا، ننسى، أو يغيب عنا، منطلقات النقد الفرنسي. بل أكثر من هذا، نضطر في كثير من الأحيان، إلى قراءة النصوص الفرنسية المُعتمدة في الدرس النقدي الفرنسي، من أجل تمثل جيد للنظرية، وأحيانا أخرى، لأن الهيمنة تكون للنص، فيحدث الإغراء بقراءتها.
ما لا يحدث ـ في أحيان كثيرة- في الممارسة النقدية في التجربة العربية، إذ، تُشجع الدراسات، قراءة النظريات، أكثر من الأعمال، لأن الهيمنة تكون في غالب الأحيان – للنظريات. ليس في هذا التخريج، تعميما، إنما توصيفا لبعض مظاهر العلاقة بين الممارسة النقدية والأدب في التجربة العربية. تعود عملية تمثل الفكر النقدي الفرنسي للنظريات القادمة من سياقات أخرى، إلى الشرط السوسيو ثقافي والسياسي لفرنسا منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، خاصة نهضة التعليم الجامعي، والبحث العلمي، اللذان عملا على استقطاب أسماء ناقدة، بأفكارها وطروحاتها، غير أن الفكر العلمي الذي رافق الحركة النقدية، أطَر عملية التعامل مع/بالنظريات، من خلال تدبير اشتغالها، عبر الوعي التاريخي والثقافي بالمبحث الأساسي، وهو النص الأدبي. مثلما حدث مع الأكاديمي/الناقد الفرنسي «فيليب لوجون» الذي تمثَل فكرة الناقد الألماني «جورج فوسدورف» حول السيرة الذاتية(1956)، والتي طورها لوجون، ومنحها منطق النظرية، وأصبحت مرتبطة به، وبالنقد الفرنسي، ونظريات التعدد اللغوي، وتعدد الأصوات، وإجراءات تطوير مفهوم التناص، وغير ذلك من المفاهيم النقدية التي استوعبها الفكر الفرنسي، وهي القادمة من سياقات وهويات جغرافية وتاريخية وثقافية مختلفة( الثقافة الروسية على سبيل المثال)، وجعلها تنخرط في النص الفرنسي، دون أن تُذبل جوهره، أو تطمس رؤيته. ولهذا، حين تواصلنا مع هذه النظريات عربيا، استقبلناها باعتبارها منجزات الفكر الفرنسي.
كان لهذا التصور، الدور الفعال، في تطوير النظريات من خلال النص الأدبي الفرنسي، مما أدى بالنظرية إلى أن تعرف التحول، ليس في رؤيتها للأدب، إنما في حمولتها الفكرية والثقافية، إذ، أصبحت حاملة لرؤية التخييل الفرنسي، ومُدافعة عن تصورات هذا التخييل، ومجتمعه وتاريخه وأسئلته، وتصبح عملية اعتماد هذه النظرية، في الدرس الأدبي، لحظة تاريخية للتعرف على المتخيل الفرنسي، وطبيعة رؤاه، وطريقة تمثله للعالم ولقضايا الإنسان. النقد إذن، ليس مجرد إضاءة للنص، أو مُنجز وصفي له، إنما ذاكرة فكر مجتمع وثقافة ومتخيل. ولأن تصريف المتخيل تخييلا، عبر لغة الإبداع، فإنه يشهد- بدوره- انتقالات في أنظمته، ومنطقه، وترتيبه، مما يجعل النظرية تتغير، وتتحول، ولا تعيش التبات. لهذا، نجد بعض النقاد يعودون ـ باستمرار- إلى أطروحاتهم النظرية، لتعديلها، أو إعادة بنائها، أو تجاوز بعض منطلقاتها، وذلك بسبب حيوية التخييل الأدبي، من جهة، واعتماد الناقد على النص في توجيه نظرياته.
ونستحضر هنا، كيف استقامت نظرية «السيرة الذاتية» مع فيليب لوجون، بعد أن مرَت من التحديد الأول مع كتابه «السيرة الذاتية في فرنسا» (1971)، لتأخذ شكلها التعريفي الذي أصبح أكثر تداولا في الدراسات النقدية، سواء في مقالاته النقدية، أو كتبه اللاحقة مع «الميثاق الأتوبيوغرافي»(1975)، دون أن ننسى مراجعات تودوروف لأفكاره، وطروحاته النقدية.ولعل ذلك، له علاقة- أيضا- بجرأة الناقد في تقييم مسار فكره، وقدرته على الدخول في حوار مع أفكاره، ونقد طريقة تفكيره، والتصريح بذلك، من خلال إعلان التعديل، أو التقييم، أو التراجع. وهو وضع يحدث في مشهد يعرف فيه الفكر حركية فاعلة، تنتج السؤال المستمر.
لا نقصد بهذه المقاربة لعلاقة الممارسة النقدية بالأدب في التجربة العربية الحديثة، إقصاء لتجارب عربية تُقيم توازنا بين النص العربي والنظريات الفكرية-النقدية، خاصة تلك التي اشتغلت بالسرد التراثي، وأنتجت رؤى جديدة، جعلت النص العربي إمكانية لتطوير النقد، ومفاهيمه، مما جعل الغرب يهتمون بالسرد التراثي العربي، أكثر من الشعر العربي، كما، لا نعمم، ولا نصوغ حكم قيمة، من شأنه أن ينتج تصورا جاهزا حول الممارسة النقدية، إنما نقترح أسئلة للتفكير في طبيعة العلاقة بين الممارسة النقدية والأدب في المشهد العربي، من أجل الانتصار للنص، وجعل القراءة النقدية، سبيلا لتقريب النص من القراء، والتشجيع على قراءته، وفك العزلة عنه، والمساهمة في تجاوز أزمة القراءة.
ما يدعو إلى هذا الاقتراح في ضرورة تأمل العلاقة النقدية-الأدبية في التجربة العربية، ليس فقط الوعي بشكل التعامل مع النظريات، إنما أيضا، ما أصبحت تعرفه بعض الدراسات النقدية، التي باتت تتجاوز اعتماد الذاكرة النظرية، وتقرأ النص وفق ذائقة، لا تشبه ذائقة النقد العربي القديم، لكونها تكاد تعتمد المُهيمن في المشهد، من حيث التوصيف واللغة. نحتاج إلى جرأة النقد الذاتي عربيا، من أجل تحصين المتخيل العربي من كل انفلات من تاريخه الرمزي.
زهور كرام
القدس العربي