اقتضت حكمة الله عز وجل، أن يقضي على الخلق بالفناء، حتى إذا خلت الأرض من ساكنيها، والسماوات من قاطنيها، إلا من أراد الله بقائه، أذن سبحانه للحياة أن تعود، فيأمر السماء أن تمطر مطرا تنبت به الأجساد الميتة، فتعود إلى سابق عهدها أجسادا كاملة، بعد أن تحولت إلى رميم، واختلط دمها ولحمها بتراب الأرض، إلا أن المطر لا يبعث فيها الحياة، فيأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فتحيا تلك الأجساد وتنبعث من قبورها.
وقد صور القرآن هذا المشهد تصويرا بليغاً، فقال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}... (يّـس:51) والأجداث هي القبور، وينسلون: أي يسرعون، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن هذا الحدث فقال: (ما بين النفختين أربعون... ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب - وهو عظم يوجد أسفل العمود الفقري - ومنه يركب الخلق يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
ثم يساق الخلق بعد خروجهم من قبورهم حفاة عراة غرلا - غير مختونين - إلى أرض المحشر، وهي أرض بيضاء، ليس فيها ما يختفي الإنسان وراءه، ولا ما يتوارى عن الأعين فيه. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أرض المحشر، فقال: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي - الدقيق - ليس فيها مَعْلم - علامة - لأحد) رواه البخاري ومسلم.
فتأمل أخي الكريم عظم ذلك اليوم وما فيه من المخاوف، فمع ما عليه الناس من فزع الخروج من قبورهم، فإنهم يعاينون أهوال ذلك اليوم، من انشقاق السماء، وتساقط النجوم، وذهاب الشمس والقمر، فيا لها من أحداث عظيمة ومخاطر جسيمة، تبلغ القلوب من معاينتها الحناجر، ولا تفكر في شيء إلا فيما هي مُقْدِمة عليه، فحري بالعاقل الموفق أن يعمل لذلك اليوم قبل أن يدهمه الموت، ويصبح رهيناً بعمله، نسأل الله السلامة والعافية.
وتتفاوت مراتب الناس ومنازلهم يوم الحشر تفاوتا كبيراً، فمنهم الذين يحشرون على وجوههم، عمياً وبكماً وصماً، وهؤلاء هم الكافرون، قال تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}... (الإسراء: من الآية97).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال: (أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
أما المؤمنون فهم وفد الله عز وجل يحشرون مكرمين منعمين، قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}... (مريم:85).
هذا عن كيفية خروج الخلق من قبورهم، وكيفية حشرهم، أما الأدلة على حقيقة البعث بعد الموت فقد تنوعت وتعددت في كتاب الله عز وجل، ليكون الإيمان به أوقع في النفوس، ولتعظم الحجة على الكافرين.
فتارة يقسم سبحانه بنفسه العلية على إثبات البعث، فيقول: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.... (التغابن:7).
وتارة يذم المكذبين بهذا اليوم، نحو قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}... (الأنعام:31).
وتارة يمدح المؤمنين به، فيقول: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}... (البقرة الآيات 3 : 5).
وتارة يرد على الكفار في إنكارهم البعث ويورد الحجج العقلية الدالة على إثباته، فيقول: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}... (يّـس الآيات 78 : 82).
فمن تأمل هذه الآيات من سورة يس وجد أنها اشتملت على العديد من الحجج العقلية التي تدل على البعث بعد الموت، من ذلك احتجاجه سبحانه بابتداء الخلق على إعادته، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم أن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة، وأنه لو كان عاجزا عن الإعادة لكان عن الابتداء أعجز.
ثم ذكر سبحانه حجة عقلية أخرى وهي أن القادر على خلق الأعظم أقدر على خلق ما دونه، فالذي خلق السموات والأرض كيف يعجزه إعادة جسم صغير بعدما فنِيَ واختلط بالتراب، قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}... (يس:81) ثم ختم سبحانه هذه الحجج بآية القدرة، ذلك أن كل ما أورده المشركون من اعتراضات على البعث بعد الموت إنما هو نابع من شكهم في قدرة الله المطلقة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}... (يّـس:82).
فهذه بعض الأدلة على البعث بعد الموت، ذكرناها ليرسخ في نفس المؤمن إيمانه، ولتكون حجة على من كفر وأنكر بعث الأجساد بعد موتها، ومن تأمل الحياة بصحيح عقله ،وسديد فكره، وجد أنها من غير البعث عبث، فلابد من يوم يجازى فيه المحسنون، ويعاقب فيه المسيئون، ومن دون ذلك اليوم لا يمكن أن يستقيم أمر هذا الكون، ولا أن ينتظم شأنه، فمن هنا تجلت حكمة الله عز وجل في البعث بعد الموت.