التناص في أبسط تعريفاته هو «وجود علاقة بين ملفوظين»، وهو في
مفهومه الكلي يتجاوز ذلك ليشمل النص الأدبي في جميع نواحيه فهو: «يحيل إلى مدلولات
خطابية مغايرة بشكل يمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري، هكذا يتم بعث
فضاء نصي متعدد حول المدلول الشعري». وبصورة أوضح نستطيع أن نقول إن التناص هو:
«أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص سابقة عليها أو معاصرة لها». وعلى
هذا فإن النص «ليس انعكاسًا لخارجه أو مرآة لقائله، وإنما فاعلية المخزون التذكري
لنصوص مختلفة هي التي تشكل حقل التناص ومن ثم فالنص بلا حدود».
ولقد برز هذا
المصطلح على يد جوليا كرستيفا، غير أن الولادة الحقيقية كانت على أيدي الشكلانيين
الروس ـ وإن لم تكن ولادة خالصة ـ إذ «يرد في ملمح المفارقة بين النص المعارض والنص
المعارَض، فليس النص المعارَض إعادة إبداع، أو كتابة على كتابة مماثلة، فلكل نص
خصائصه القارّة فيه». وعلى هذا فالشكلانيون يؤمنون بالتناص من خلال تداخل النصوص
وظهور أثر بعضها على بعض، رغم احتفاظ كل نص بخصوصيته ومميزاته.
وإذا كان
الشكلانيون قد تنبهوا إلى مفهوم هذا المصطلح بشكل مبسط، فإن كرستيفا استطاعت أن
تستنبط هذا المصطلح «التناص» من خلال قراءتها لباختين في دراسته لأعمال دستويفيسكي
الروائية حيث وضع مصطلحي تعددية الأصوات والحوارية دون أن يستخدم مصطلح التناص.
وبذلك تكون الرواية أول الأجناس الأدبية معملاً إجرائيًا لهذا المصطلح دون تسمية،
وتكون ـ أيضًا ـ جوليا كرستيفا عام 1966م أول من استخدم هذا المصطلح قاصدة به «أن
كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى». ولقد
اعتمدت في ذلك على منهج التحليل النفسي جاعلة منه «خطاب الحياة الفكرية والعقلية
ومعتبرة إياه نوعًا من الملازمة الجوهرية في ثقافتنا». ورغم ذلك فإن كرستيفا انصرفت
عن مصطلح التناص فيما بعد، وآثرت عليه مصطلحًا آخر هو «التنقلية» ولقد تعددت
المفاهيم التناصية وتشعبت المدلولات، غير أن مصطلح التناص ظل حاضرًا عبر جميع
الاتجاهات الأدبية الحديثة، وإن تباينت الثيمات الدلالية للمفهوم داخل كل اتجاه مع
الاتجاه الآخر محاولة من النقاد في تبين جزيئات هذا المصطلح.
ولا شك أن الأديب
لا يمكن أن ينفصل في تكوينه المعرفي عن غيره، بل هو عبارة عن تراكمية معرفية تنمو
أغصانها في محيط التلاحم المعرفي المتشابك، ولذلك أصبح الأديب ومن بعده النص الأدبي
بناء متعدد القيم والأصوات، تتوارى خلف كل نص ذوات أخرى غير ذات المبدع من دون حدود
أو فواصل، ومن ثم فالنص الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلا بالخبرة والتدقيق.
ورغم ذلك فإن النقاد يلحون على شريطة التجاوز للنصوص التي تناص معها النص الجديد
وإلا أضحى كلامًا معادًا؛ ومن ثم يجب على النص «المتناص أن يتماهى في علاقات غير
أحادية السمة مع نصوص أخرى، سواءً كانت علاقة تحويل أو علاقة تقاطع أو تبديل أو
اختراق». وهذه العلاقة تنبثق من رغبة أكيدة في التجديد وتجاوز الآخر حتى لو كان
الآخر المبدع نفسه؛ لأن المبدع قد يتناص مع نفسه من خلال نصوصه هو، كما يستطيع أن
يتناص مع نص واحد فقط لمبدع آخر، أو نصوص أخرى لأدباء آخرين، وقد تكون عملية التناص
بين جنسين أدبيين لا على مستوى جنس أدبي واحد. ولا شك ـ كذلك ـ أن التناص يرتكز على
مبدأي الشكل والمضمون ولا يقف عند حدود أحدهما، ولكن يؤخذ بعين الاعتبار أن التناص
قد يكون شكليًا لا مضمونيًا والعكس صحيح دون تلازم بينهما، ولكنه في النهاية يحدث
في الاثنين.