بين يدي الدراسة
حول الشواهد وقواعد الاحتجاج بها
أ
1- ليست القواعد إلا قوانين مستنبطة من طائفة من
كلام العرب الذين لم تفسد سلائقهم.
2- أعلى الكلام العربي من حيث صحة الاحتجاج به:
القرآن الكريم بجميع قراءاته الصحيحة السند إلى
العرب المحتج بهم. ثم ما صح أنه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أو أحد الرواة
من الصحابة. ثم نثر العرب وشعرها في جاهليتها بشرط الاطمئنان إلى أنهم قالوه باللفظ
المروي، ويلي ذلك كلام الإسلاميين الذين لم يشوه لغتهم الاختلاط.
3- جعلوا منتصف المئة الثانية للهجرة حداً للذين يصح
الاستشهاد بشعرهم من الحضريين؛ فإبراهيم بن هرمة المتوفى سنة (150هـ) آخر من يصح
الاستشهاد بشعرهم، وبشار بن برد أول الشعراء المحدثين الذين لا يحتج بشعرهم على متن
اللغة وقواعدها. وعلى هذا يؤتى بشعر المتأخرين من فحول الشعراء للاستئناس والتمثيل
لا للاحتجاج.
أما في البادية فقد امتد الاستشهاد بكلام العرب
المنقطعين فيها حتى منتصف المئة الرابعة للهجرة.
ب
4- لا يحتج بكلام مجهول القائل:
زعم بعض النحاة أنه يجوز اجتماع (كي) و(أن) على فعل
واحد، واحتجوا لذلك بقول القائل:
فتتركها شَنّاً ببيداءَ بلقعِ |
| أردت لكيما أن تطير بقربتي |
وزعم آخر أن لام التوكيد تدخل في خبر (لكن)
كما تدخل في خبر (إن) واستشهد لزعمه بقوله القائل:
وكلا القولين ساقط لا يبنى عليه قاعدة،
فالشاهد الأول مجهول القائل، والشاهد الثاني لا يعرف له أول ولا قائل. وما بني
عليهما ساقط.
5- لا يحتج بما له روايتان إحداهما مؤيدة لقاعدة
تُزْعم، والثانية لا علاقة لها بها، لاحتمال أن الشاعر قال الثانية، والدليل متى
تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال:
ادعى بعضهم أن (الأرض) تذكر وتؤنث، واستشهد للتذكير
بقول عامر بن جُوَيْن الطائي في إحدى الروايتين:
ولا أرض أبقَلَ إبقالها |
| فلا مُزنةٌ ودقتْ ودْقَها |
والرواية الثانية: ولا أرض أبقلتِ
إبقالَها
فإن لم يكن لتذكير (الأرض) غير هذا الشاهد فلا يحتج
به، لأن الأكثر أن الشاعر قال (أبقلت) اللغة المشهورة المجمع عليها.
6- ترد الشواهد في كتب النحاة محرفة أحياناً، ويكون
موضع التحريف هو موضع الاستشهاد على قاعدة تُزْعَم: ولو حرر الشاهد ما كان للقاعدة
مؤيد:
عرفت أن الشاهد على اجتماع (كي) و(أن) مجهول القائل
وبذلك حبطت القاعدة، لكن بعضهم احتج بقول جميل العذري وهو ممن يحتج به:
لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا |
| فقالت أكلَّ الناس أصبحت مانحاً |
وبرجوعنا إلى الديوان نطلع على الرواية
الصحيحة وهي:
.. لسانك هذا كي تغرّ وتخدعا |
| .............................. |
فالرواية
التي احتجوا بها محرفة في موضع الاستشهاد نفسه، وإذاً لا صحة للقاعدة المزعومة،
فالواجب تحرير الشاهد والتوثق من ضبطه في مظانة السليمة قبل البناء عليه.
7- كما يفيد جداً الرجوع إلى الشاهد في ديوان صاحبه
إن كان شعراً، يفيد الرجوع إلى مصادره الأولى إن كان نثراً لمعرفة ما قبله وما
بعده، فكثيراً ما يكون الشاهد الأبتر داعية الخطأ في المعنى والمبنى:
زعم بعضهم جواز مطابقة الفعل المتقدم لفاعله المتأخر
في الإفراد والثنية والجمع فأجاز قول (جاؤوا الطلابُ) واحتج بحديث في موطأ
مالك:
((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة في
النهار..))
ولا غبار على الاحتجاج بالحديث البتة، ولكننا حين
رجعنا إلى موطأ مالك وجدنا للحديث أولاً وهو:
((إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة في الليل
وملائكة في النهار..)) وإذاً لا شاهد صحيحاً على قاعدتهم المزعومة.
8- ينبغي التفريق بين ما يرتكب للضرورة الشعرية وما
يؤتى به على السعة والاختيار، فإذا اطمأنت النفس إلى بناء القواعد على الصنف الثاني
ففي جعل الضرورة الشعرية قانوناً عاماً للكلام نثره ونظمه الخطأ كل الخطأ:
ادعى بعضهم جواز الرفع: بـ(لم) مستشهداً بقول قيس بن
زهير:
بما لاقت لبون بني زياد |
| ألم يأتيك والأنباء تنمي |
فإذا فرضنا أن الشاعر قال (يأتيك) ولم يقل مثلاً (يبلغْك)، يكون قد ارتكب ضرورة شعرية قبيحة، ولا يجوز البتة أن تبنى قاعدة على الضرورات.9- المعوّل في امتحان أوجه الإعراب والترجيح بين أقوال النحاة على المعنى قبل كل شيء، فهو الذي يجب أن يكون الحكم في كل مناقشة.وموازنة وترجيح، وإذا دار الأمر بين مقتضيات المعنى ومقتضيات الصناعة النحوية التزمت الأولى دون الثانية.في تعليق إذا والظروف الشرطية قولان: قول الجمهور أن تعلق بفعل الشرط، وقول غيرهم بتعليقها بجواب الشرط؛ (إذا حضرت أكرمك) فالجمهور يجعل الظرف متعلقاً بـ(حضرت) وغيرهم يعلقه بـ(أكرم)، والمعنى ينص على أن الإكرام يقع عند الحضور، لا أن الحضور يقع عند الإكرام، وإذاً فقول الجمهور لا يؤيده المعنى، والصحيح تعليقه بجواب الشرط.10- يفضل في كل مقام فيه إعرابان، الإعراب الذي لا يجنح إلى تقدير محذوف: في جملة المدح (نعم الرجلُ خالدٌ) يجعل البصريون (خالد) خبراً لمبتدأ محذوف وجوباً تقديره (هو) أو (الممدوح) فيكون التركيب جملتين، جملة نعم الرجل، وجملة هو خالد.أما الكوفيون فيجعلون (خالد) مبتدأ مؤخر وجملة (نعم الرجل) خبراً مقدماً من غير تقدير محذوف. وهذا القول صواب لإغنائنا عن تقدير محذوف أولاً ولأن العرب تقول (خالد نعم الرجل) ثانياً.11- إذا ألجأت أحكام الصناعة إلى تقدير محذوف، قُبل هذا التقدير بشرطين:1- ألا يلجئ إلى إخلال بالمعنى.2- وأن يسوغ التلفظ به دون ركة أو خروج عن الأسلوب العربي المشهور:يجعلون لهمزة الاستفهام تمام الصدارة حتى على حروف العطف، فلا نقول: وأذهبت؟ كما نقول (وهل ذهبت؟)، وإنما نقول (أو ذهبت؟) لكن الزمخشري زعم في مثل قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أن الفاء العاطفة في صدر جملتها وأن الهمزة داخلة على جملة محذوفة وأن التقدير: أقعدوا فلم يسيرواوالطبع السليم يجد ركة في هذا التقدير وبعداً عن البلاغة، ووجوب إهمال هذا المذهب لسخفه.هذه أهم الأمور التي سنصدر عنها في دراساتنا ونقدنا للشواهد وما بني عليها من قواعدوعلى الدارس اتخاذ مذكرة خاصة به يلخص فيها ما نعلق به على كل شاهد من حيث ضبطه، ومعناه، وموضع الاستشهاد فيه، والقاعدة المتعلقة به، وقيمته في الاحتجاج على هدي الملاحظات السابقة.وهو - في هذه الحالة - غير معفى من بذل الجهد والدراسة الشخصية وإعمال الفكر، ولن يجتمع التواكل والدراسة الصحيحة بحال.