الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32781 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: اخرج منها يا ملعون صدام حسين 3/3/2010, 00:06 | |
| الحلقة الحادية عشر :
قبيلتنا ضعفت مع ضعف شيوخها فصار الأجنبي يملأ عناوين مراتبها في الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد الشيخ ابراهيم واحفاده الثلاثة حسقيل ويوسف ومحمود حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة عن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره. ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل. وبعد وفاة والدة نخوة، تعد الابنة خطة تراوغ فيها حسقيل للتخلص منه.
حل اليوم الذي اتفقوا أن يلتقوا فيه في بيت أبي سالم.. حضر سالم ورجاله، شباباً وكهولاً، هذا يحمل قوسه وسهامه، وذاك يحمل سيفه أو رمحه، وذاك يحمل قضيباً من حديد، وقليل منهم يلبس درعاً أو يحمل ترساً.. وكانت وجوههم الطافحة بالإيمان تنبئ بما صمموا عليه.. وقد وضعوا جميعاً عدة الحرب في بيت سالم وفق ما تم الاتفاق عليه بين سالم ونخوة، خشية غدر تحالف قبيلة الروم وحسقيل بهم.. بدأ الناس يتوافدون من كل فج وبيت، شيوخ العشائر في القبيلة، ووجوهها، شيباً وكهولاً وشباباً، هذا يركب راحلته، وذاك يركب فرساً أو حصاناً، وذاك على ظهر ناقة، أو ذلول، وبعض كبار السن الذين لا تصل إمكانياتهم إلى فرس أو جمل، كانوا يمتطون حميراً.. أما من كانت بيوتهم قريبة من بيت سالم فكانوا يأتون راجلين.. تكامل توافدهم، وكان أبو سالم يشرف على الاجتماع والضيافة، يعاونه سالم من غير أن يظهر بأنه المبرز في التأثير ابتداء، على وفق ما اتفق عليه هو ونخوة، ووافق عليه حسقيل من غير أن يعرف بحقيقة التدبير. وما أن تجمعوا، حتى طلب حسقيل إذناً من أبي سالم بأن يتكلم.. أذن أبو سالم له بالكلام، بأن مد يده باتجاه حسقيل، وهو يبسطها ويحركها باتجاهه، أن ابدأ، حتى قال حسقيل: ـ لقد اجتمعنا هنا لأمر يهم القبيلة كلها وقد اجتمعنا في هذا المكان وفق رغبة نخوة، حيث أنني فاتحتها برغبتي في خطبتها لتكون زوجة لي.. لكنها قالت إن الطريقة التي تقدمت بها لخطبتها غير لائقة، نظراً لأنني فاتحتها في بيتها بعد أن زرتها هناك، قالت لي آنذاك إن من الأحسن أن أخطبها من القبيلة كلها بحضور أعمامها بينكم، وها بعد تكامل حضور القبيلة، أرجو أن تباركوا خطبتي هذه لنزيد القبيلة اقتداراً، آملاً أن يزيد زواجي من نخوة، وانتقالها معي إلى بيت الزوجية، أموالنا بما تملكه وأملكه من أموال تعرفونها، وقد يفتح هذا وغيره مجالاً للسلم داخل القبيلة، بعد أن خرج منها عدد من الشباب، وفي ظنهم أن خروجهم على المشيخة هو الطريق الصحيح لتصحيح ما يظنونه خطأ، أما نحن فنظن، بل متيقنون، من أن طريقنا هو الصحيح. أكمل حسقيل كلامه وجلس.. نهض سالم، وبدأ يعرّف نفسه: سالم بن محمد بن شجاع بن سيف بن حسين بن رشيد بن علي بن طعان بن رمح بن عبد المطلب.. ابن.. ابن.. من هذه القبيلة أباً عن جد.. وعاشوا كلهم وماتوا على هذه الأرض، وذادوا بسيوفهم وأموالهم وأبنائهم عن القبيلة وحماها.. وعلى أساس ما تعرفون، فأنا لا أقدم الحديث عن المال لأنه ليس عنوان الشرف والأمانة والالتزام حكما، إنما نوع من الأرزاق قد يكون سبيلاً للجحيم، وقد يكون منجاة مع الصفات والأعمال الأخرى في الآخرة، إنما أقول: أنا مثلما أنا، ومثلما تعرفون، أعلن عن رغبتي بأن أخطب نخوة زوجة لي في هذه الدنيا قبل الآخرة، إن شاء ربّ العالمين، فإن قبلت بي فعهدي لها أمامكم أن أكون وفياً مخلصاً أميناً، وأن تملك كل ما أملك، وأن يكون ما تملكه هي لنفسها وحدها، تتصرف به وفق ما تشاء، لا طمع لي إلا بصفاتها الحميدة، وأصلها الطيب وعفتها، لأحفظ بها صفات أولادي، إن رزقنا الله أولاداً، وإن شاء الله يجنبنا وإياهم عثرات الطريق، وزيغ ما يوحي به الشيطان ومعشر السوء، وإن رفضتني، فحسبي أنني قدمت نفسي أمامها كاختيار من أحد أبناء (الديرة) والحمى، مقابل رغبة الأجنبي وعرضه الذي قدمه حسقيل.. عندما قال (رغبة الأجنبي)، قام حسقيل من مكانه، وهمّ بأن يتجه إلى سالم، وهو ينفض برأسه منزعجاً ويصيح بهستيرية ظاهرة: ـ أنا أجنبي، يا ولد؟ أجابه سالم بهدوء: ـ أنا أخو أختي.. وأنا أخو نخوة ـ حتى الآن، بوصفها نخوة قبيلتنا ـ وليس ولداً، على ما أردت أن تصف، فاحترم نفسك في مجلس الرجال، واعرف قدرك وكيف تتكلم. وعندما لاحظ أن سالم يتكلم بهدوء، لكن بحزم، قال حسقيل، قبل أن يجلس: ـ أنا شيخكم، ألست هكذا، يا جماعة الخير؟.. قال ذلك وهو يشير بيده إلى الجالسين، ثم أردف يقول: ـ جئت هنا لأعرض عليكم خطبتي لنخوة، لا لنضع نخوة في مزاد مفتوح!! قال سالم بعد أن جلس حسقيل، لكنه بقي واقفا، رغم مقاطعة حسقيل له: ـ أنت، يا حسقيل، أجنبي، ولست من قبيلتنا، رغم أنك تحمل عنوان شيخ القبيلة.. مرة أخرى قاطعه حسقيل ليقول: ـ لكنني شيخ القبيلة بأمر أكبر شيخ لأكبر قبيلة في هذا الزمان، هو شيخ قبيلة الروم.. عاود سالم قائلا: ـ استطاع شيخ قبيلة الروم أن يصدر أمراً مطاعاً لمن أطاعه لتكون على ما أنت عليه من وصف وحال شيخ القبيلة، على من أطاعك وليس علينا، في الوقت الذي غفل الناس عن دورهم وحقهم وواجبهم ومبادئهم، بل عندما تنازل وجوه القوم عن دورهم، وجعلوا الآخرين يغفلون بسبب ضعفهم، فإنما تخلوا عن حقهم وواجبهم.. ولهذا تمردنا عليك، وعلى شيخ الروم، وتحالفك معه ومع قبيلته، لنمثل برفضنا وتمردنا ضمير القوم، وندافع عن حاضرهم ومستقبلهم.. ولا أظن أن من اللائق لنخوة القبيلة أن تذل لأجنبي.. عاد حسقيل مقاطعاً مرة أخرى: ـ أريدها زوجة، يا رجل. لم يقل لسالم (يا ولد) مثلما فعل في المرة السابقة، ورده سالم بقوله: ـ أنا أيضاً أعرض نفسي وروحي وحالي أمامها، راغباً بها زوجة، ونخوة للقبيلة، إذا لم يعترض اخواني الحضور، أقولها بتصميم لا يلين إلا عندما لا يلتقي برغبتها وقرارها، لو أعلنت أنها لا تريدني.. وها قد قلت قولي، ولم أعرض على نخوة مالاً أو شيئاً مما يرتبط به، ولم أزايد، لأن نخوة تجل عن المزايدة عليها.. ولأنها ليست سلعة، أو خدمة، أو بضاعة، إنما المقبول فقط أن يعلن أمامها من يعلن مزايدة للمعاني العالية بمستوى الإخلاص والتضحية، وبكل ما يعز قومنا، ومن خلفنا كل ذي قلب طاهر من الأجانب، ينوي التعامل معنا بتكافؤ، ومن غير أذى أو استغلال أو استغفال.. وفي كل الأحوال فإن أمراً من النوع الذي نتحدث عنه، يبقى قول نخوة هو القول الفصل فيه، إذ لا مجال لأن يفرض زواج عليها، إنما هي التي تختار، بعد أن صارت على ما هي عليه من عمر ونضج وصفات حميدة.. قال حسقيل: ـ نعم.. الاختيار لنخوة الآن، وبعد أن تقول نخوة رأيها، ينبغي أن لا يقول أحد رأياً مخالفاً.. قال ذلك، وفي ظنه أن نخوة ستختاره حتما. اتجهت الأنظار كلها إلى نخوة، التي استأذنت أبا سالم، ونهضت، في الوقت الذي تجمعت النساء كلهن واقفات خلف الرجال، الذين كان بعضهم يجلس على بسط والآخر على نبت الربيع في الأرض، ثم مشت حتى وقفت في مكان يراها فيه الجميع، رجالاً ونساء، وقالت: ـ إن قبيلتنا ذات تاريخ مجيد، وحماها ذو عز ومهابة، بقدر ما عليه ناسها من عز ومهابة، وفي مقدمتهم رجالها، وكان خيرها الذي أصاب الناس أجمعين وفيراً.. كبيراً وعظيماً، وليس قومنا فحسب، عندما كانت على هذا الوصف، لكنها بدأت تضعف مع ضعف شيوخها ووجوهها، وولاة أمرها، حتى تضاءل شأنها إلى الحد الذي صار رجالها غير قادرين على أن يدافعوا عنها وعن خيراتها وحماها، بعد أن فقدوا القدرة على صيانة معانيها، فاستهان بها الأجنبي، بعد أن طمع بها إلى الحد الذي صار يتدخل في شؤونها، وينصب على أهلها هذا أو ذاك ليملأوا عناوين مراتبها، حتى وصل الهزال بها وإذلالها أن نصب الأجنبي حسقيلاً عليها، وفق تحالف معروف لكم، كأنه الابن اللقيط لمرحلته، فإذا كان الأجنبي قد تمكن من العنوان الأمامي لقبيلتنا، أو أي عنوان آخر بعده، على يمينه أو شماله، فلن يتمكن منا نحن بنات وأبناء قومنا الذين قررنا أن نبقى مخلصين، ونرفض المصطنع المذل.. ولأنني ابنة القوم الذين أنتم منهم، فلن يتمكن مني الأجنبي وحسقيل منهم، لذلك أعلن أمامكم، وأشهد الله، وأشهدكم على قولي وإخلاصي وأمانتي أنني أقبل خطبتي من ابن عمي سالم، وتاج رأسي، كابن بار لقومنا.. دوت عاصفة من التصفيق من الحضور كلهم، نساء ورجالاً وأطفالاً.. شيباً وشباباً، صبية وصبايا، عدا حسقيل، الذي كان يصرخ حتى بحّ صوته.. ولم يسمعه أحد، وضاع صوته في الفضاء، في الوقت الذي كانت الموسيقى ودفوف وطبول الفرح تصدح في كل مكان، معلنة ولادة روح جديدة، وتقليد جديد من موقف جديد في زواج أبناء وبنات القبيلة.. وموقفهم من أنفسهم ومن الأجنبي الطامع.. وخطت نخوة خطوات عدة وهي تتهادى باتجاه سالم، واستأذنته لترقص معه، أو تدبك الدبكة نفسها التي دبكاها عندما كان ملثماً في المناسبة المعروفة..
****
نهض حسقيل ليغادر، لكن أبا سالم، باعتباره المضيف والمشرف على الدعوة، أشار اليه بأن يجلس، فجلس على مضض. انهت نخوة رقصتها مع سالم، تلك الرقصة المعروفة للقبيلة، وعادت لتقول وهي تقف في المكان نفسه: ـ بعد ان حسمنا امرنا برضاكم، اخواني واخواتي وابناء عمومتي، بقيت شؤون اخرى، تتصل بالقبيلة وتتصل بي.. فقالت: ـ لا اريد ان اتطرق الى ضعف أبي، فأنتم تعرفونه وأنا اعرفه، لكنكم تعرفون نوعية وموقف جدي وأجدادكم وكيف كانوا حماة القبيلة وعزها وكيف كان حال الناس وفق ما نعرف في احسن حال، عندما كانوا على تلك الصفات يمارسون مسؤولياتهم عليها.. ان الضعف يدخل نفوس الناس عندما لا تكون المهمة او المهمات التي يتولونها عالية المعاني وتعز الجماعة او عندما يداخل انفسهم ما يغويها بعيدا عن ذلك او عندما تختلط طباعهم وافكارهم بطباع اجنبية ليست على ايماننا ومعانينا، سواء من معاشرة وتعايش قريب او من خؤولة لا تحفط من المعاني العالية حدها الادنى.. او خؤولة لا تجد نفسها تنتمي الى تقاليدنا والمعاني التي نعتز بها ونفتخر ونضحي لنحافظ عليها ولأنني اعرف اسباب ضعب ابي والاسباب التي جعلت امي تضعف في القصة التي سأرويها لكم، فإن ضعفها حفز المعاني التي أختزنها في نفسي الآن، حتى صارت سياجا قادرا ليحميني ويحافظ عليَّ امام صعوبات الحياة او اغراءاتها، لذلك رفضت حسقيل، وفضلت ابن بلدي.. ابن قبيلتي وقومي..
****
عندما ذكرت نخوة أمها بدأ حسقيل يلم نفسه، وامام الاحتمالات التي كان يداورها في نفسه وما اصابه جراء رفض نخوة له ومرارة الموقف، صار جسم حسقيل ينكمش ويصغر، ليس نفسه فحسب وكان يتحدث مع نفسه وهو يسحب عقاله ليرجعه الى الخلف او يقدمه الى الامام تارة او يجلس القرفصاء او يمد هذه الرجل او تلك ويدلكها، كأنها (خدرت) من طول انتظار، تارة اخرى. قالت نخوة: ـ ان حسقيل لم يتآمر على المشيخة في القبيلة فحسب، بل على القبيلة كلها، هو وشيخ قبيلة الروم، الذي اسماه حسقيل اكبر شيخ، وسمى قبيلته اكبر قبيلة في هذا الزمان.. وانا اسمي ذلك الشيخ مثلما اسمي حسقيل: اخزى اثنين.. اما قبيلة الروم فليست اكبر قبيلة، اذا اخذنا الامور على الصفات والمعاني العالية.. او عدد الانفس.. قال حسقيل مقاطعا: ـ انا اخزى واحد بين اثنين كلاهما الاخزى، يا بنت!؟ قالت نخوة: ـ احترم نفسك، يا حسقيل، انا نخوة قومي، واذا كنت تصر على ان وصفي لك لا ينطبق عليك، تنازل عن الوصف الذي وصفته به واختر وصفا جديدا ولأن القول لا يفيد امام الفعل، فان تنازلت عن الوصف الذي وصفتك به، اذا كان لا يعجبك، ينبغي ان يتم بحيازة صفات مناقضة لصفاتك المعروفة المذمومة، وهذا يتم بالعمل والنموذج الذي تضفي به الجماعة عليك صفة استحقاق ما هو جديد. سكت حسقيل، لكن نخوة واصلت كلامها: ـ عندما عزلتم والدي ـ موجهة الكلام للقبيلة ـ فعلتم ذلك باستحقاقه، لكنكم اخطأتم عندما توهمتم ان الاجنبي يمكن ان يصلح لقومكم مثابة وراية ومعنى وسندا، فجئتم بحسقيل شيخا للقبيلة ونسيتم في ذلك القرار الخاطئ ثوابت الامور الاساسية وخواص حسقيل، قبل ان يأتي الى قبيلتنا وتناسيتم ما وصلكم عنه من اخبار (علوم) قبل مجيئه، بما في ذلك ان ابراهيم، ذاك الشيخ الجليل، طرده من عطفه وحماه، بعد ان خرج على مبادئه واحرجه امام الناس، وفعل يوسف ومحمود الشيء نفسه.. وعندما صار حسقيل شيخا للقبيلة لم يكفه ذلك، انما دفعته عقده ومآربه المتشعبة التي بدأت من انجاح بقالية يملكها او متجر صغير، الى سيطرة مصالحه على المنطقة كلها.. اقول لم يكفه عنوان المشيخة فينا، وانما راح يخطط ليتزوج امي وبسبب الوحدة التي كانت تعيشها ولأن واليا لم يكن على رأسها ولانها لم تكن بنت عمنا وربما اغراها حسقيل بلسانه المعسول، فقد استساغت خطة حسقيل عندما اعلن رغبته في الزواج منها.. قالت ذلك وتدفقت الدموع من عينيها، لانها تعرف ان أمها لم تبق الامور مع حسقيل ضمن هذه الحدود، انما اندفعت الى ما تعرفه في سلوكها وعندما خنقتها العبرة وراح الدمع يتدفق مدرارا من مآقي عينيها، توقفت عن الكلام برهة، فاستغل الجمهور المتجمع خلف الرجال الجالسين على الارض، ليعلن عن نفسه بعاصفة من التصفيق، انتقل تأثيرها للجالسين، فصفقوا معهم بحرارة وبدأ من كان واقفا منهم يلقي شعرا وقصائد: اخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا.. او يلقي هوسات: لو هلهلتي وصوتك عالي.. وتحبني الناس من افعالي.. احنا الرمح وسيف العالي.. وكل خدّاع يجفل منا.. صفن يا البيض شهود إلنا.. وتجول النساء والرجال، كل ضمن حلقة مركبة، بجولات حماسية، كل يعبر عن موقفه، ويشجع نخوة ويتضامن معها ويلعن حسقيل، حتى صار حسقيل يقرع نفسه، وهو جالس مصفر الوجه، لا يكاد يرى دم فيه، ويقول: ـ لماذا لم اركب فرسي واهرب، عندما اعلنت نخوة رفضها لي وفضلت سالم عليَّ؟ ثم يعود يسأل نفسه: يا ترى هل ستقول كل شيء؟ انها ان قالت كل شيء، سيذبحونني، ولن يمنعوني من المشيخة فحسب.. وعندها يقول: ـ انا (كصيرهم) قصيرهم (يذكر نفسه بهذا لانه التجأ اليهم وعاش تحت حمايتهم) ولذلك لا اظنهم يقتلونني، لان العرب لا يقتلون (كصيرهم). ثم يعود ليقول: ـ لكنني جعلت نفسي شيخا عليهم، ولم أبق (كصير) تحت حمايتهم، لذلك قطعت بنفسي حق ان يحموني.. كان حسقيل يقول ذلك في نفسه، بعد ان لاحظ ان لا أحد يجامله، حتى وفق أبسط اشكال المجاملة للعلاقة بين شخص وشخص، اما المجاملة على اساس انه يحمل عنوان شيخ القبيلة فقد انتهت او كادت منذ ان اعلنت نخوة رفضه واجهزت عليه نهائيا الآن، حتى انه عندما طلب (زنادا) (1) ليشعل غليونه، رماه اليه من طلبه منه بدلا من ان يقدمه اليه بيده مباشرة.. مع انه كان قبل هذا لو طلب (زنادا) لتدافع كثر من الذين قربه كل يسعى، وفي ظنه انه شرف له، ان يقدح له (الزناد) على شفرة حصى، بعد ان يضعوا فوقها جزءا من خرقة جرت تسويتها وهي مبتلة وممزوجة برماد، بعد ان تتيبس، (اما الآن فصاروا يرمون لك الزناد يا حسقيل)، وعندما يستعيد افعاله مع نفسه، يقول: ـ ان كل هذا هين، الاخطر لو سيطروا على اموالي.. انهم ربما يسيطرون حتى على البرج. ـ ثم يعود ليقول: ـ ولكن البرج ليس في حماهم وانما في حمى حليفي شيخ الروم وهو والبرج الذي يملكه قريبان من بعضهما، لذلك سيحميه ويحمي الذهب والفضة التي فيه ودفاتر الحسابات التي تسجل ديوني عليهم وعلى غيرهم.. مثلما يحمي برجه. تنفرج اسارير حسقيل قليلا، لكنه سرعان ما يقول.. ـ ولكنهم قد يقتلونني لو سردت نخوة كل ما تعرفه عني.. ثم ينثني بقوله، بما يعني ان نخوة لن تقول ما يخزيها، لذلك تحدثت عن خطبتي لأمها، ولم تتحدث عما هو ابعد.. تعود نخوة، بعد ان تكفكف دموعها لتقول: ـ ومع ان من المعيب ان تتزوج امرأة كانت يوما ما زوجة شيخ القبيلة، الا من قروم القوم، ان كانت بحاجة الى رعاية والا اعتبرت حالتها شاذة، لو فعلت، فقد وافقت حسقيل في رغبته.. بدا حسقيل كأنه استعاد معنوياته ليقول: ـ هذه اهانة لي لا اقبلها.. متخدا من ذلك غطاء لينهض، وفي ظنه ان بامكانه ان يترك الجلسة، لكن باشارة من سالم، بعد ان ينقر ابوه على (طاسة) امامه بان اسكتوا واجلسوا، يتولى اثنان من الشباب الذين يقفون خلفه اجلاسه في مكانه، بعد ان يضعا ايديهما على كتفيه ويضغطانها للاسفل.. عادت لتقول: ـ ومع ان امي، رحمها الله، وافقت على الزواج من حسقيل، لكن حسقيل تصور ان امي كتمت عليَّ الموضوع، وجاءني ليعلن رغبته في خطبتي، وتمالكت اعصابي، ولم انهره، خشية ان يدبر لي ولوالدتي امرا اذا رفضته، ذلك انه سيتصور عندها ان امره قد انكشف، لكنني لم اقطع له املا بشيء وماطلته لأديم صلتي بنساء القبيلة واحرضهن على التمرد، في الوقت الذي كان سالم يفعل الشيء نفسه مع الرجال، لكنني قبلت الخطوبة عندما اشتد ساعد تنظيمنا وعرضها عليَّ سالم، واتفقنا على ان نكتمها، بعد ان نشهد الله على ذلك، وكانت شاهدتنا، بعد الله، اخته سمية، ثم ابوه وامه بعدها، وعلى هذا عندما جاء حسقيل طالبا ان ادبك معه.. رفضت، ليس لأنني احب سالم او لأنني اتفقت معه على الزواج وفقا لقانون الله فحسب وانما لاجنبكم الحرج، اخواني واخواتي واعمامي، ولكي اجنب علاقتي وعملي بين النساء ما يشوش عليهما، بل انني قدرت انني، لو وافقت على طلبه ذاك، سأخزيكم واخزي المبادئ التي انادي بها بين صفوف نسائكم، ولو تمت موافقتي على مراقصته، لا سمح الله، لقال كثير وربما كل النساء ان حسقيل قانون الله في الارض، هو وحليفه شيخ الروم، حيث لا يعود باستطاعة نساء العرب، وربما رجالها ان يصمدوا بوجهيهما.. وراحت نخوة تحكي مقتل امها، وقالت: ـ يا عمر.. يا سمعان.. يا حازم.. احضروا الفأس التي وضعتموها في كيس كمستمسك جرمي، واشهدوا على ما رأيتموه وحكيتموه لي.. قام الثلاثة وحكوا ما رأوه للحضور وجاءوا بالفأس وراحوا يعرضونها على الجالسين والواقفين، كأداة جرمية وعندما جاءوا بها امام حسقيل كان مطرقا برأسه، كأنه لم يعد يشعر بما حوله، لشدة ما لفه من الهم والغم والخوف، حتى انه (فزّ) عندما نبهه احدهم، وكاد يصرخ ويقف كأنه يجفل من حلم مزعج.. وعندما رأى الفأس امامه قال، وهو على تلك الحال: ـ يا أخي (فززتني) جفلتني.. نعرفها.. نعرفها.. ولكنه ادرك انه اخطأ، فقال: ـ من لا يعرف فأس أم نخوة، رحمها الله!؟ كلنا نعرفها. كاد جميع من سمعوه ان يضحكوا، في الوقت الذي استدار الموجودون، كل الى من يجلس او يقف الى جانبه يمينا ويسارا، هامسين أو معلقين بما يخزي حسقيل، ويضع علامة استفهام عليه... قالت نخوة: ـ اعلن امام بنات وابناء قومي قصتي وقصة امي مع الخائن المجرم حسقيل، وتحالفه الشرير مع كلب الروم وقبيلته، وانشد نخوتكم بي، وبالمعاني التي تحملونها عن انفسكم وايمانكم وعن تاريخكم، لتنصفوني، وتأخذوا لي حقي.. ان وقفة حق ثابتة معززة بالايمان تجعل الاقوام الاخرى تحترمكم وتحترم حقوقكم.. لذلك ادعوكم لأن تقفوها.. وجلست.. عندها دوت عاصفة من التصفيق، بعدها القى سالم القصيدة التالية لاثارة حماس ابناء قبيلته:
مشينا على هام الزمان المطاول= ندوخه والمجد ليس بزائل حفرنا بأعلى الراسيات مناهلا= ففاضت زلالا من مياه الجداول لنقري اضيافا اذا هي زمجرت =ونحمي حماها من عدو وجاهل فنحن اباة الضيم مذ هي اشرقت =وان اثقلت فيها الغيوم بهاطل ونحن ولدنا للمعالي وشعبنا =شقيقين يخشى جمعنا كل سافل كما زحل يزجي الثريا منور = كذلك يبقى مجدنا غير آفل ترانا عيون الود بيضا فعالنا= وسودا بعين الارعن المتطاول لنا الحكمة الغراء من عهد آدم =نصون لنا حقابها غير باطل كذاك اراد الله سبحانه لنا= وقد خصنا فيها بقدرة فاعل doPoem(0)
نهض حسقيل من مكانه وقال: ـ ان الاتهامات التي قالتها نخوة خطيرة، خاصة موضوع مقتل امها، رحمها الله، ولأنني لم أكن مسبوقا بهذا، ارجو من ابي سالم ان يمهلني لأحضر دفاعي يوم غد، على ان نجتمع في التوقيت نفسه، وفي المكان نفسه، هنا في بيت ابي سالم، وان نكون بلا سلاح.. جميعا بمن في ذلك انا.. وها انا مثلما ترون، لا احمل اي سلاح الآن.. وفتح عباءته وكشف تحتها من ثياب ليثبت انه لا يخفي سلاحا تحتها.. قال ابو سالم، بعد ان استمزج رأي الجالسين عن يمينه وشماله من وجوه القوم، بمن في ذلك سالم: ـ ان ما تطلبه، يا حسقيل، موافق عليه، وسنلتقي على بركة الله يوم غد، في التوقيت نفسه، على ان لا يحمل اي منا سلاحا، وانما يأتي الجميع ويجلسون في هذا المكان، من غير سلاح، لنصدر قرار القبيلة، بعد ان نسمع دفاع حسقيل، ان شاء الله. رفع سالم يده مستأذنا والده، وقام ليقول: ـ ان ما سمعناه اليوم خطير كله، ومن أجل فتح الفرص وتأثير اطراف القضية بصورة متساوية، اقترح ان نجمد صفة المشيخة التي يمارس حسقيل من خلالها أوامره وتوجيهاته على من يطيعونه، ليكون في مركز مساو لأي منا من الناحية القضائية.. صفق الجميع علامة تأييد لمقترح سالم، وعبثا حاول حسقيل ان يعترض قائلا: ـ اخترت من الشيوخ، وليس من العامة، ولذلك اتمسك بحقي.. عاد سالم ليقول: ـ ان الجميع حاضرون الان، سواء من اطلقت عليهم وصف العامة أو الشيوخ، وانهم ايدوا مقترحي، ومع ذلك، فإن الاصول تقتضي ان نسمع رأي رئيس الجلسة.. قال ابو سالم: ـ مع انني لاحظت حماسكم وانتم تصفقون، اخواني واخواتي ـ قال ذلك وهو يخاطب الجميع ـ فانني اعرض عليكم المقترح، وادعو من يوافق عليه ان يرفع يده لنعرف عدد الموافقين وعدد غير الموافقين علنا، على ان يكون من يقوم بذلك هم البالغون فقط، لذلك ارجو ان ينعزل غير البالغين عن الحضور، في ركن من هذا الفضاء ـ واشار بيده الى المكان ـ وبعد ان تم ما اراده ابو سالم، رفع حسقيل يده طالبا الكلام، وقال مخاطبا الجميع: ـ انكم، اخواتي واخواني ـ وهنا قدم النساء، وفي ظنه انه يخدعهن، باعتباره قدم صفة مخاطبتهن على الرجال ـ انكم الآن تقررون ما هو خطير، سواء على حاضركم أو مستقبلكم، أو على مستوى قومكم، أو المستوى الأبعد، خاصة علاقتنا التي رتبناها مع شيخ الروم وقبيلته، لذلك اقترح أن أجلس أنا وأبو سالم وحدنا في بيت، ونحضر من يسجل رأي من يدخل علينا من وجوه وشيوخ القوم من الرجال فقط..
هامش 1 ـ الزناد، المروة، نوع من الحصى يضرب بعضه ببعض فيولد شرارة.. كان الأقدمون يوقدون النار بها، أو يشعلون سكائرهم بها.
|
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32781 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: اخرج منها يا ملعون صدام حسين 3/3/2010, 00:09 | |
| الحلقة الثانية عشر :لو ذاق أي عربي طعاما في بيت آخر فإنه لن يخونه أو يغشه في الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد الشيخ ابراهيم واحفاده الثلاثة حسقيل ويوسف ومحمود حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة عن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره. ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل. وبعد وفاة والدة نخوة، تعد الابنة خطة تراوغ فيها حسقيل للتخلص منه.
قال حسقيل ذلك، لكن خطته الحقيقية غلبت رأيه في المرأة بتصويره على غير حقيقته، عندما وضع النساء قبل الرجال وهو يقول (اخواتي واخواني)، فهنا اقترح ان يقتصر التصويت بصورة شبه سرية على الرجال فقط من وجوه وشيوخ القوم.. نقر أبو سالم على الصحن الموضوع أمامه لينبه الجميع لكي ينصتوا، وقال موجهاً الكلام للجميع، بعد أن استمع إلى حسقيل: ـ سنعرض المقترحين على الحاضرين، حسب تقاليدنا، وسنبدأ وفق الأسبقية بالمقترح الأول، الذي يقضي، بناء على ما شرحه سالم بأن يعرض المقترح على كل بالغ في هذا الجمع، رجالا ونساء، وأن يجري التصويت برفع الأيدي، وعندما يحوز على أغلبية، يكون فائزاً، والمقترح يقضي بتجميد صفة الشيخ الممنوحة لحسقيل حتى ننتهي من محاكمة حسقيل يوم غد، إن شاء الله، وفق ما أرادت نخوة، وفي ضوء القرار الذي نتخذه تجري مراجعة كل ما يتصل بالموضوع.
عندما أكمل أبو سالم كلامه، وهمَّ ليعرض مقترح سالم للتصويت رفع حسقيل يده مرة أخرى، وأذن له أبو سالم بالكلام، قال حسقيل:
ـ ولماذا، يا أبا سالم، نتشبث بتقاليد عفا عليها الدهر، ولا ننشئ تقاليد جديدة؟.
استأذن سالم أباه والحضور ليتكلم، فقال، موجهاً كلامه لحسقيل ومعه من كان في المكان: ـ ان كل شيء موروث جزء من تاريخنا، ويعتمد على حيويته أو جموده في حالة ما إذا قررنا أن نقبل استمراره، أو أن نمر به مروراً كحالة مجردة، أو مجرد نشاط حصل في تاريخنا فحسب.. ان مقترحك، يا حسقيل، مقترح متخلف، ذلك لأنه يختار عددا من الرجال على أساس عناوينهم، ويستثني الآخرين من الناس.. وفي الوقت الذي يؤخذ عدد محدد من الناس قد يثير الجدل حول مشروعية قاعدته ورصانتها، فإنه يستثني من المشاركة كل الرجال البالغين الآخرين، ومع أنك خاطبت المرأة قبل الرجل، وأنت تهم ان تقدم اقتراحك، فقد استثنيت كل النساء من المشاركة في أمر يتعلق بالحاضر والمستقبل، ويتعلق بمصير الناس وحماها ومصالحها التاريخية، وليس بالسلطة وشكلها ومدى استحقاق من يحمل عناوينها فحسب، ثم اننا عندما نقول بأهمية احترام الأسبقية في عرض المقترحات على أساس تسلسلها الزمني، فلأنه الأكثر عدالة بين ما هو معروف من أساليب أخرى، ومن بينها ما يمكن أن يفهم، من اعتراضك على هذه التقاليد، كأنك تريد أن تقول إن المقترح يطرح للتصويت على أساس عنوان من يقترحه، ويتأخر مقترح من يكون مواطناً فحسب في القبيلة، ويتقدم مقترح من اسمه حسقيل، وان كان على هامش القبيلة، أو لا يمت إليها بصلة، في المعاني ولا في الأصل، أو يترك لمن يدير الجلسة أن يتصرف على هواه، فيقدم هذا ويؤخر ذاك من المقترحات، وعندما لا تكون هناك ضوابط متفق عليها، تسود الفوضى والخلافات، ليس في اطلاق الأحكام فحسب، إنما في تطبيقها ايضا، وفي وصف المواقف، ومن يلتزم بالجماعة، أو يخرج عليها، لذلك يستمر أي تقليد لا تلغيه روح الجماعة، ولا تقتضي تغييره الضرورات الظرفية الملجئة، أو تستوجبه قوانين التطور المولود من رحم وصلب قومنا، وان المحافظة عليه، والالتزام به ضروريان، لذلك نلتزم بالتقليد الموروث الذي أشار إليه والدي، واترك لأخواني وأعمامي الحضور أن يبدوا آراءهم، إذا كان لأحد منهم رأي آخر.
ومع إكمال سالم الجملة الأخيرة، دوى تصفيق من الحضور، بما يعني أنهم متمسكون بما ورثوه من تقاليد، كانت قد أعزت قومهم عندما كانوا متمسكين بها، وأضعفهم الهوى والتخلي عنها كلياً، أو جزئياً، إلى الحد الذي جاء الضعف والتخلي بحسقيل شيخاً عليهم، بدلا من أن يكون شيخهم منهم عقلاً وضميراً، نسباً وموقفاً، كتاباً وسيفاً وراية..
عرض أبو سالم مقترح سالم، وفاز المقترح بإجماع الحضور، رجالاً ونساء، عدا عدد قليل رآهم أبو سالم يجلسون قبالة حسقيل، ويرفعون أيديهم بصورة غير كاملة، ثم يخفضونها حيثما نظر إليهم..
وعندما طلب أبو سالم من سالم أن يقول لهم: إذا كنتم غير مقتنعين، اخفضوا أيديكم، ولن نزعل لهذا.. قالوا له: ـ لا نحن مقتنعون بمقترحك.. ومن تلك اللحظة رفعوا أيديهم بثبات، فكان القرار بالإجماع.
****
خرج حسقيل بأمل أن يحضر المحاكمة في المكان نفسه، في اليوم التالي، فيما راح الجميع يدبك ويغني ويرقص، او يهتف، ويجول، كل حسب اختياره، وشعوره في تلك اللحظة، والأسلوب الذي يقدر انه متمكن فيه أكثر من غيره ليعبر عن نفسه.
انسل سالم من بين الجمع، وأشار إلى نخوة وعدد من الرجال: أن اتبعوني، وبعد أن تبعوه الى حيث بيت ابي سالم، الذي كان اقرب بيت الى تجمعهم، حيث تناولوا طعام الغداء، بعد ان استمعوا الى حسقيل وسالم ونخوة، وعندما جلسوا في مكان واحد، قال سالم: ـ ان طلب حسقيل تأجيل البت في مصيره في ضوء ما اقترف من جرائم، لم يكن وفق ما اشار له في الجلسة.. ان هزيمة حسقيل امام محاكمتنا له بحضور كل الناس من قومنا، وافتضاح امره وجرائمه تجعلها ضرورية له قبل ان يعرض مصيره وحياته علينا، يوم غد، وهو امر لا يتحمله، لا هو ولا شيخ الروم من بعده، لذلك اردت ان اقول لكم هواجسي واستنتاجي، لنعد انفسنا على قاعدة صحيحة، وقد نصل بالحوار فيما بيننا الآن الى افضل الوسائل لمعالجة اقرب الاستنتاجات مما نتوقعه.
سكت سالم.. وتكلمت نخوة قائلة: ـ ان ما اشار اليه سالم هو الاستنتاج الأساس، بل قاعدة ما يمكن ان نتصور من استنتاجات فرعية منه، واي تصور غير هذا عن نوايا حسقيل، ومن خلفه كلب الروم، يعد تصورا قاصرا من شأنه ان يوقعنا في الوهم، وقد يسبب لنا خسارة، لا سمح الله.. ان اعداءنا لا ذمة لهم ولا عهد.. كما ان هاجس اي منهم لا يكون صادقا امينا، بل غادرا اشرا، وان حسقيل وجماعة الروم معروفون بنكثهم العهود، وعلى هذا ينبغي ان نعد انفسنا ووسائلنا وخططنا.
وتكلم بعدهما من تكلم، ولم يخرجوا عن دائرة الاستنتاج الرئيس، سوى انهم كانوا يقترحون اساليب وخططا لمواجهة تكمل ما قاله سالم ونخوة.. ومن بين ذلك ان احدهم قال: ـ اقترح ان نراقبه، رغم ان هذا ليس متيسرا من غير تضحية، ذلك لأن حراس وخدم حسقيل، الا واحدا منهم، هم ممن جاء بهم الروم، بعد ان فقد الثقة بمن حوله.. تساءل آخر: ما هي الصعوبة في ان نراقبه؟ أجابه من قال بالصعوبة: ـ ان ما اقصده ان احد رجالنا الموجودين معه لا يستطيع ان يغادر المكان الا لو هرب على فرسه.. وان وضعنا عيونا جددا عليه الآن سنكون قد اتخذنا قرارنا هذا بصورة مستعجلة وربما مرتبكة، فإنه عندما يكتشفهم سيلقي القبض عليهم ويعرضهم بعد الضغط الى السؤال والجواب، وعندما يعرف اننا نحن الذين امرنا بمراقبته، ستكون له حجة علينا، ومن بين ذلك قد يمتنع عن الحضور للمحاكمة امام القبيلة.
وبعد مداولة طويلة، اكتفوا بوضع عين عليه في بيت هو الاقرب لبيت حسقيل ممن يطمئنون الى اهله، لينبههم بهروب حسقيل خارج المنطقة ان هو فعل ذلك، لكن حسقيل لم يخرج الا في اللحظة الاخيرة، التي سبقت الزمن المحدد، الذي اتفقوا عليه، ليحضروا في اليوم التالي، بقصد اللقاء في بيت ابي سالم.
تكلم الثمانية المجتمعون في بيت ابي سالم، ومنهم سالم ونخوة، والستة الاضافيون، وهم خمسة رجال وامرأة.
قال سالم: ـ لتكن خطتنا على اساس ان نموه عليه، ونمكر بخطط حسقيل ونواياه، مثلما نتصور انه يعد العدة ليمكر بنا.. وعلى هذا، فإن خمسين من رجالنا ينبغي ان لا يحضروا مكان الاجتماع، وان يكونوا مع خيولهم خلف بيتنا هذا، في الوادي الذي يبعد عن مكاننا هذا ما بين مائة وخمسين الى مائتي متر، اما سلاحنا فهو في بيتنا هذا في مقطع العيال.. واذا ما داهمونا بغدر، سوف يسبق الخيالة المشاة الينا، واعتقد ان حسقيل سيتصور اننا بلا سلاح، وسيفاجئهم سلاحنا، وسيكون هو وحليفه في وضع صعب، ربما لم يتمنياه لو انطلق فرساننا الخمسون من مكانهم، مقسمين على مجموعتين.. وظهروا كلهم بعد ان يلتفوا من الجوانب خلف العدو، واعملوا سيوفهم في رقاب العدو، في الوقت الذي اركب انا ونخوة فرسينا، حيث ستكون لها فرس مجنبة قرب فرسي، وسوف اوعز الى حازم وعمر وسمعان بأن يحضروا خيولهم، لتكون قرب جارنا، وتربط في مقدم البيت، لتكون اقرب الى مكاننا، وسوف آمرهم بأن يلازم اثنان منهم نخوة على جناحي حركتها، والثالث الى الامام قليلا..
علقت نخوة: ـ ألا تثق بقدراتي، يا سالم؟ ـ بلى، ولكن التحسب واجب. ـ ألا يكفي حازم لحمايتي، هو وشخص آخر، وان يكون الثالث معك؟ ـ اطمئني، سأكون بين جمعكم، حتى عندما اتقدم صفوفكم، وفق ضرورات الحرب، اذا تطلب الامر ذلك، لذلك ستكونون جميعا بحمايتي بعد الاتكال على الله. تبسم الجميع.. قالت نخوة: ـ ربنا، منك النصر، وبك نستعين.. ردد الجميع: ـ آمين..
ونهضوا بعد ذلك، ليقوم كل بواجبه قبل ان يحل موعد اليوم التالي.
****
في الوقت الذي كان سالم ونخوة يرسمان، كل في ميدانه، سيناريوهات لما ينبغي او يجب، في ضوء ما استنتجاه عن نوايا حسقيل وخططه.. اتصل حسقيل فور وصوله الى بيته بشيخ الروم.. بعد ان كلف من يقوم بذلك ليشرح كل ما سمعه عن الاتهام الذي وجه اليه هذا اليوم، والى تجميد صفة المشيخة فيه، والى دعوته ظهر اليوم التالي ليحضر اجتماع القبيلة، الذي يتقرر فيه مصيره النهائي كشيخ للقبيلة، وربما حتى حياته، قال، وأكد القول على من بعثه الى شيخ الروم:
ـ قل لشيخ الروم انني سأنتظره هو وفرسانه عند القنطرة التي كنا نخيم حولها في خريف العام الماضي، عندما كنا في (القنيص، القنص،) وهناك سأبين لهم كل شيء إضافي عن الخطة، واسمع ايضا اي تعديلات اضافية يريد الشيخ ادخالها عليها.. وكرر على شيخنا الكبير ان التوقيت قبل الظهر بساعة او ساعة ونصف الساعة.. وقل له ان تأخرهم قد يفشل خطتنا، لأن سالم وجماعته ومعهم قبيلتهم، عندما يعرفون انني لم احضر في الموعد المقرر، سوف تداخل عقولهم هواجس عن سبب تأخري، وقد يحتاطون، بينما لو داهمناهم قبل ذلك، سنغلبهم لأنهم غير مسلحين..
انطلق من كلفه حسقيل على فرسه باتجاه شيخ الروم، وبعد ان تسلل في الوديان القريبة من بيت حسقيل، لئلا يراه احد ويكشف اتجاهه، وصل الى شيخ الروم وابلغه الرسالة..
قال شيخ الروم للرسول: ـ ابلغ حسقيل بأن يطمئن فإن ما لدينا من عدة حرب تكفي لما هو اكثر عددا من قبيلة سالم، وان رجالنا كثر، مع اننا لم نجرب من قبل الاصطدام بهم، ولا نعرف تفاصيل كثيرة عنهم، وبخاصة معنوياتهم، لذلك قد يجد رجالنا في بادئ الامر صعوبة في ان نجعلهم يقاتلون كما يجب، لكن التفوق في السلاح والخيل امام رجال غير مسلحين يجعل القتال معهم محض نزهة.
ثم ان حسقيل يقول ان عددا كبيرا من شيوخ وشباب القبيلة سينسلخون عن سالم وجماعته، عندما يبدأ القتال، وهذا جيد، ذلك لأنهم ما ان يروا خيولنا تجمح باتجاههم، حتى ينقسموا على بعضهم، وعندما ينقسمون ويبدأون ببعضهم، سآمر رجالي بأن يكفوا عن مهاجمتهم، لكي لا نوحدهم اذا جعلناهم هدفا واحدا، وحيثما مالت منهم كفة على كفة، سندعم الكفة التي تضعف، بحيث نعيد التوازن بين الكفتين، بما يجعل القتال ومعه الخسائر يستمران ولا يتوقفان.. واذا ما حاولوا الصلح فيما بينهم بعد ان يتعبوا، سوف ندس بينهم، ونخرب اي صفاء، ليعاودوا التناحر والانقسام، فيضعفون، واذا ما التجأوا الينا بعد ذلك لنحكم بينهم، سوف نفرض عليهم شروطنا، حتى يرضخوا، ولا يعودوا يتمردون على سلطتنا، سلطة تحالفنا العتيد.. وقل لحسقيل اننا لن نتخلى عنه.. الا اذا هددت مصالحنا، وبما ان مصالحنا مضمونة ومؤمنة بدوره وجلوسه فوق رؤوس المضطرة كشيخ عليهم.. فلن نتخلى عنه.. وسأكون مع فرساني.. وسأحشد كل ما استطيع حشده، وهو كثير، قرب القنطرة..
يركب المبعوث فرسه، ويهم بأن يلكزها ليغير عائداً من حيث أتى.. لكن شيخ الروم يستوقفه.
ـ قلت إنهم سيكونون غير مسلحين.. أليس كذلك؟ ـ نعم يا شيخ، حتى ان حسقيل اشترط أن لا يحضر منهم أحد حتى لو كان يحمل عصا غليظة، وليس سلاحاً.. ـ هذا جيد، أجاب شيخ الروم.. سأكون عنده قبل ظهر يوم غد، وفق ما أراد.. ثم قال للمبعوث: ـ ارشد.. أي اذهب راشدا..
قال شيخ الروم ذلك، واستدار بوجهه ناحية البرج، الذي بناه الى جانب برج حسقيل، وكلاهما في حماه، لكن على مقربة من الخط المتعارف عليه بين القبيلتين.
****
التقى شيخ الروم بشيوخ قبيلته وفرسانه، وشرح لهم الخطة.. وناموا ليلتهم.. وما ان صارت الشمس في صباح يومهم ذاك (بارتفاع قامة) عن الأفق، كما يقول أهل الريف والبادية، حتى سار بفرسانه، منطلقا ناحية القنطرة بعد ان حسب مسافة الطريق، يحف به الفرسان المدججون بأسلحتهم ودروعهم، وهم يضعون على قلنسوات المعروفين منهم ريش نعام أو ريش (فزن)، أو قرون اكباش كأنهم في غرورهم وحبورهم ومظهرهم إنما يقدمون على زفاف او استعراض في مناسبته..
وما أن اقتربوا من القنطرة، حتى لاح لهم (خيّال) فارس وحيد فوق فرسه، مما اثار استغراب شيخ الروم، خاصة أنه رأى خيالاً واحداً في هذا المكان، في الوقت الذي يفترض ان يكون حسقيل فيه.. وعندما ابدى استغرابه لمن حوله.. اجابهم الأكبر مكانة ومرتبة بين من كان مع الشيخ الكبير، شيخ الروم:
ـ قد يكون أحد فرسان حسقيل وسبقهم إلى هنا، ليكون في استقبالنا قبل حضور حشد حسقيل الكبير.
عاد الشيخ ليقول: ـ لكن التوقيت حكم، فمتى يأتي؟!.. ليذهب اثنان منكم ناحيته وليتأكدا من هويته، لكن احذرا أن تتركا له فرصة الهرب، إذا لم يكن من جماعة حسقيل، خشية أن يبلغ جماعة القبيلة المضطرة بأي شيء، بعد ان رأى موكبنا.. ونحن قريبون منازلهم الآن.. انطلق الفارسان باتجاه الفارس الذي كان متوقفا وهو يمتطي جواده عند القنطرة، بينما توقف رتل الشيخ الرومي بانتظار ما سيكتشفانه عن ذاك الخيال..
وصل الفارسان، وتعرفا على الفارس.. انه حسقيل الذي جاء معهما (هذبا) خببا باتجاه رتل الروم.. وما ان وصل حتى قفز من على ظهر فرسه، واتجه ناحية شيخ الروم، فيما بقي شيخ الروم في بادئ الأمر على ظهر حصانه، مما اضطر حسقيل أن يمد يده لشيخ الروم ليصافحه وهو على ظهر حصانه.
سأله شيخ الروم قائلا: ـ أراك وحدك، يا شيخ.. ترى، ألم يبق معك أحد؟.. عرف حسقيل أسباب التغيّر الذي طرأ على شيخ الروم (ذلك ان من يكون وحده، لا يحمل إلا وزن جسمه حتى في نظر اصدقائه).. هكذا قال حسقيل في نفسه.. وعلى أساس ما فهم اجاب حسقيل شيخ الروم:
ـ ان فرساني كثر، يا شيخنا، لكنني قدرت أننا لن نحتاجهم، ذلك لأننا سنواجه قوماً بلا سلاح، وخطتي مثلما شرحت لك تقوم على المخادعة، واستصحاب فرساني معي إلى هنا سيكشف خطتي، ويجعل القوم يتهيأون، لذلك فضلت استبقاءهم هناك، على أن يلحقوا بنا، عندما يروننا نهجم على تجمع سالم في قبيلته، وربما هاجموهم قبل أن نصل لو رأوا (عجاج) الخيل.. أما لو سألتني: هل تريد أن يهجموا معنا؟ لقلت: كلا، ومع ذلك عملت هذا التدبير خشية ان تلومني لو حرمتهم من المشاركة معنا.. وإلا كنت افضل ان لا يحظى بشرف إبادة سالم وجماعته إلا أنتم وأنا معكم.. وربما خادمي شميل الذي تركته معهم هناك..
ترجل شيخ الروم من على ظهر حصانه، بعد ان سلم رسنه إلى أقرب مرافق له.. وتكلم وهو منفرج الأسارير:
ـ ظننتك وحدك من غير تدبير، لذلك ظننت انهم ربما جردوك من الرجال فأصابني الغم.. لأن الشيخ من غير رجال لا يساوي وزن عقاله، حتى لو كان عقاله من ذهب.. قال ذلك وهو يشير إلى عقال حسقيل الذي كانت خيوطه من ذهب، كأنه ذاهب هو الآخر إلى حفلة..
قال حسقيل، بعد ان نفث حسرة من صدره: ـ نعم، يا شيخ، كلامك ذهب.. سترى ان فرساني (يسدون عين الشمس) لو اصطفوا في مكان بعينه.. لكنني استبقيتهم هناك وفق ما أشرت ـ واسترسل في الكذب ـ حتى انني نسيت ان اقول لمبعثوي إليك اننا لا نحتاج إلى فرسانك كلهم، إنما لجزء صغير منهم، أو بالعدد الذي كنا نستصحبه معنا في (القنيص) القنص.. وطالما احضرتهم جميعاً، فعلى بركة الله، ولو ان حصصهم من الغنائم ستقل بسبب العدد الكبير.. لكن حصتي وحصتك لن تتأثرا.. حيث لنا النصف مما يغنمون..
قال ذلك وضحك هو وشيخ الروم.. ثم رفع شيخ الروم يده ليصافح حسقيل.. وضربا يدا بيد بقوة، وكانت يداهما مرتفعتين بصورة قائمة وليستا ممدودتين إلى بعضهما، كما الطريقة العربية.. فعلا ذلك جرياً على عادة الروم، تعبيرا عن مستوى علاقتهما وحبورهما..
****
جلس حسقيل وشيخ الروم القرفصاء، وأعاد حسقيل شرح خطته على الارض، بعد ان استخدم عصا بيده، يخط بها على الأرض، وكان يستعين بشفرة حصى من حين لحين، ليحفر بها خطوطاً على الأرض بما يشبه الخريطة الإيضاحية..
طلب حسقيل وشيخ الروم احضار عدد اضافي يمثلون عينات من قوم الروم الذين يتولون القيادة..
نهضا واتجها كل إلى فرسه أو حصانه، وقبل ان يركبا، لاحظ حسقيل ان عددا من الصقور كان يطارد رف طيور من الحبر، فنبه شيخ الروم الى ذلك المنظر، وقال شيخ الروم:
ـ انه لأمر عجيب حقا ان نرى في شهر نيسان هذا العدد الكبير من طير الحبر، يطارده هذا العدد من الصقور.. بينما اعتدنا ان نرى هذا في الخريف فحسب، أو حتى في أوائل الشتاء..
أجابه الأعرابي الذي اتخذه شيخ الروم دليلاً في معرفة الأرض والقبائل والبطون: ـ اننا في شهر نيسان، يا شيخنا، والعرب يتفاءلون بشهر نيسان، مثلما يتفاءلون بشهر أيلول، ونيسان مثل أيلول يحمل مفاجآت سارة، لذلك فإن منظر الصقور هذا، وهي تطارد رف طيور الحبر، علامة فأل خير قد ينصرنا الله به على عدونا..
ورغم ان أحد حكماء الروم نبّه شيخ الروم إلى التورية في كلام الأعرابي بقوله: (فأل خير قد ينصرنا الله به على عدونا)، بينما كان يفترض أن يقول تعبيراً عن الاحترام والتبجيل انه (فأل خير قد ينصرك الله بعده على عدوك).. فقد أجاب شيخ الروم بنزق:
ـ بل سننتصر عليهم وعلى قومهم كلهم، من غير أن يذكر اسم الله، أو يتّكل عليه..
بقي شيخ الروم ممتطياً ظهر حصانه، يتوسط مقدمة الفرسان الذين كانوا يحيطون به من اليمين واليسار، وكان حسقيل اقربهم إليه من جهة اليمين، يتوزع حوله وجوه القوم وشيوخ القبيلة، وتتأخر خلفهم، على جانبي حصانه، كوكبة من الذين يتولون حمايته اثناء القتال، وغالبا ما كان دوره في القتال رمزيا، لأن مرافقيه ورجال حمايته ينوبون عنه في ذلك..
****
بعد ان أنجزت نخوة واجباتها مع نساء القبيلة، وقدرت ان سالماً وأباه أنجزا واجباتهما، عادت إلى بيت أبي سالم بعد المغرب بقليل.. فقدموا لها ولهم طعام العشاء المؤلف ذلك اليوم من خروف صغير، أعدته أم سالم، وجعلته هبيطاً ثردت خبزاً فيه..
قالت نخوة: ـ هلاّ أعفيتموني من العشاء، فنفسي لا تشتهي الطعام..
أجابتها أم سالم: ـ كيف يا عمة؟ أيصح هذا.. مضى زمن ونحن نأكل من خيرك.. ولا تريدين الآن أن (تمالحينا) في بيتنا؟ ما الذي تنوينه مما لا نعرف؟!!..
ضحكت أم سالم وضحك الجميع.. وأشارت أم سالم إلى أهمية الملح ودوره شبه المقدس عند العرب، ذلك لأن الملح يوضع في الطعام، ومنه الخبز، ورغم ان كثيره ضار للصحة، فإن شيئاً منه ضروري للإنسان، بل حتى للحيوان، إلى الحد الذي قد لا يعيش الإنسان ولا الحيوان من غير ان يتناولاه في أي مما يأكلان أو يشربان، ولأن الغذاء، مثل الماء، مقدس عند العرب، لتوقف الحياة عليه، فإنه يتخذ بما يشبه الرمز المقدس.. وتقديرا لهذا وما يرتبط بمعانيه، فلو ذاق أي عربي طعاماً في بيت أحد، فإنه لن يخونه أو يغشه أو يسرقه، وعلى ذلك قصص كثيرة في الموروث الشعبي بعضها يقول:
ان احد الأعراب حمل عصاه، وارتحل يبحث عمن يغزوهم، ليسرقهم خلسة، لا علنا.. وهذا النوع من السرقة يسمى (الحنشل) وقد سطا على بيت لا على التعيين في الليل.. وعندما كان يبحث عن ضالته في الظلام، وجد جرة فتحتها واسعة، وعندم |
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32781 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: اخرج منها يا ملعون صدام حسين 3/3/2010, 00:11 | |
| الحلقة الثالثة عشر والأخيرة :هل فعلها العرب حقا وأحرقوا البرجين..ام فعلها غيرهم ليرمي نتائجها على العرب؟ قبل ان يصلوا إلى ديار أبي سالم، سأل حسقيل شيخ الروم: ـ هل أبقيت حراسة كافية على البرجين؟.. ـ نعم، لكن ليس بنفس عدد من يقومون بالحراسة كل يوم، إنما أقل من ذلك.. قلق حسقيل على المال والذهب في برجه فقال: ـ لو اعدنا عددا من فرساننا الذين لا تقدر اننا بحاجة إليهم، ليعودوا ويعززوا حراسة البرجين، خشية ان يدهمهما عدو أو طامع في غيابنا..
أعاد شيخ الروم ستة من الخيالة إلى البرجين، قبل أن يقتربوا من المثابة التي بعدها تبدأ الصولة.. وبعد مسافة ليست ببعيدة، وصلوا إلى تل يشرف من يكون فوقه على ديار أبي سالم هناك، بل لعل من يكون فوقه على ديار أبي سالم هناك، بل لعل من يكون فوقه بامكانه ان يرصد كل حركة، ويعرف الراجل من الخيّال..
تجمع وجوه القوم حول حسقيل وشيخ الروم.
قال شيخ الروم موجها كلامه اليهم: ـ عليكم ان تنقسموا الى قسمين متساويين، كل قسم يخرج على العدو من جهة التل.. رتل من جهة الشرق، ورتل من جهة الغرب ـ قال ذلك وهو يشير بيديه الى حيث ينبغي ـ اما انا وحسقيل، فبعد ان تخرجوا عليهم، سنكون فوق التل، نرصد حركتكم وحركة العدو، ونتدخل في الوقت المناسب، ويبقى عدد من الخيالة حولنا خلف التل، ليقوموا بواجب الحماية، وكاحتياط بايدينا، نزج بهم في اللحظات الحاسمة.
لاحظ شيخ الروم، وهو يعطي أوامره، ان هناك بيتين صغيرين يقعان في اطراف منزل القبيلة، كل منهما يرفع راية على عمود عال كأنها اشارة ما.. فنبه حسقيل الى ذلك..
قال حسقيل: ـ اخشى ان تكون اشارة متفقا عليها، وهذا معناه، ان العدو اكتشفنا قبل ان نظهر عليه من خلف التل..
****
في اليوم التالي مر سالم على كل العناصر القيادية من جماعته، وتأكد بنفسه من ان الاوامر التي اعطاها في اليوم السابق فهمت تماما، وان الاجراءات التي امر بها نفذت وفق ما اراد، وان التهيؤ جرى وفق روحية تلك الأوامر..
كان هناك واد عميق يحيط بمنزل القبيلة، حفرته مياه الامطار على مر السنوات الماضية، حتى صار وهو يستدير هنا، وينعطف هناك، على شكل حدوة حصان، أو شبه جزيرة، تاركا خلفه التل الذي كان حسقيل وشيخ الروم ينويان ان يبقياه خارج منازلهم، وما يليه باتجاه خط مجيء قبيلة الروم الى المكان، منبسطا تماما..
أمر سالم، وشدد حتى اللحظات الاخيرة على الخيالة المختبئين في الوادي ان ينطلقوا، مستخدمين الوادي، كل باتجاه، وان يظهروا خلف التل، أو قريبا من جهتيه، ليقطعوا على المهاجمين خط انسحابهم، وليوقعوا بالأسر اكبر عدد ممكن منهم..
اعطى شيخ الروم أوامره.. وانطلقت الخيول بفرسانها على ظهورها، وبدلا من ان يجدوا الناس بلا سلاح، وجدوهم مدججين بالسلاح، ووجدوا النساء متهيئات للقتال، ومتسلحات بأعمدة بيوت الشعر في الأقل، بعد ان سحبن الأعمدة منها حال وصول الإشعار بهجوم العدو.. وما هي الا لحظات، حتى صار فرسان القبيلة كل على ظهر فرسه أو راحلته، أو يمسك بسلاحه ليقاتل راجلا..
كان الصف الاول في القلب من حاملي القسي والسهام، يليهم الرماحة، فيما يحاول الفرسان الاغارة فوق جيادهم على الاجنحة.. وكان جماعة سالم، كلما حاول جماعة الروم اختراق القلب، امطرهم حاملو القسي بوابل من السهام، فيسقط الفرسان من على ظهور خيولهم، أو يسقط الجواد المصاب، فيتدحرج الفارس، ويضع الاقرب اليه السيف في رقبته، وقد اختلط الحابل بالنابل، في الوقت الذي اختلط صهيل الخيول بصيحات الفرسان، وهلاهل (زغاريد) النساء العربيات اللائي كن يمسكن بالاعمدة، ويحرسن الاطفال والبيوت، كلما جاء فارس رومي مهزوما على فرسه، أو منقضا على العرب، ضربت النساء قوائم فرسه بالأعمدة، أو يشددن قوائم فرسه بحبال ممسوكة من طرفها، وتكون ممدودة على الارض، وترفع فور اقتراب الفرس الغائرة منه فيتجندل الفارس، ويتناولنه بالعصي والعمد، فيهرب، أو يردينه قتيلا.. أو يسقط في الاسر..
وكانت نخوة تهجم، يسندها الرجال الثلاثة على خيولهم.. وكلما حاول احد فرسان الروم الاقتراب منها، برز اليه احدهم ليرديه قتيلا مضرجا بدمائه.. وكانت صيحات (الله أكبر) هي الأعلى..
وكان سالم يقاتل فرسان الروم، كأنه صقر ينقض على فريسته.. وكان يمتطي حصانه الابيض الذي سماه (نسر).. بعد ان خلع قميصه، حتى بان صدره وظهره، ولم يبق على رأسه غطاء.. وكان يطلق ضفيرتين طويلين تتدليان حتى اسفل كتفيه، مثلما كانت عادة شباب العرب آنذاك، والى وقت قريب من زمننا هذا، وهو ينتخي.. ويصيح: ـ الله أكبر.. ـ الله أكبر.. ـ وليخسأ الخاسئون.. ـ ليخسأ حسقيل وكلب الروم.. ـ وعاش العرب.. ـ يحيا الايمان.. ـ وتبا للكفر والالحاد.. وكان لا يحمل الا سيفا فحسب.. وكلما انكسر سيفه، ناوله احد الفرسان سيفا آخر. وكان جمع الروم يتفرق عندما يغير عليهم، تماما كما تفر النعاج امام ذئب يطاردها، أو كما حمر فرت من قسورة..
وبعد ان يصيح: ـ الله أكبر.. كان يقول (عين عيونك يا نخوة).. حياك الله.. وحيا الحمى.. حياك الله.. وحيا أهلنا..
كانت نخوة غالبا ما تنسى القتال وتقف لتملأ عينيها بمنظر سالم وهو يقاتل، وكان حصانه (نسر) يجود بما لا يخذل فارسه..
بدأ جمع الروم يتقهقر، وعبر التل الذي كان حسقيل وكلب الروم يقفان فوقه.. وقفت نخوة هي والفرسان الثلاثة عمر، وحازم، وسمعان.. لترى اللوحة العظيمة التي خذل الله فيها الروم وحسقيل امام العرب.. وعرفت حسقيل وشيخ الروم من طبيعة الكوكبة التي كانت تحيط بهما ولا تغادرهما، وعرفت ايضا انهم صاروا في وضع كأنهم يهيئون انفسهم للهزيمة..
ولاحظت نخوة ان سالما، كلما قاتل وجيها كبيرا من وجوه الروم، أو جندل احدهم فرسه من تحته، أمر له بفرس، ولم يقاتله، ومنع الآخرين من قتاله الا بعد ان يصير فوق ظهر فرس أو حصان، واذا كسر احد سيفه أمر له بسيف جديد.. حتى يقاتله، أو يقبل بأن يقاتله أحد الفرسان.. وهذه عادة اصيلة حفظها عن أجداده وبقي متمسكا بها..
****
عندما كانت نخوة فوق التل، ترقب منظر القتال، وتراجع فرسان العدو، لاحظت ان اثنين جاءا مسرعين على جواديهما، وما ان توقفا قرب مجموعة شيخ الروم وحسقيل، حتى انطلقت خيولهم مسرعة للخلف باتجاه البرجين، في الوقت الذي بقي الآخرون يقاتلون، وفي ظنهم ان امكانية التراجع المنظم ممكنة.. ولكن الهجمات المستمرة للعرب جعلتهم لا يصمدون امام الموت، ففروا معقبين حسقيل وشيخهم، بعد ان سقط خلق كثير منهم بين صريع ميت وجريح، اضافة الى اسر خلق كثير ايضا.. وفقد العرب صناديد منهم، ولكنهم انتصروا، وبقيت راية الله أكبر ترفرف فوق هاماتهم.. وعرفوا، بعد ان جاءهم من تولى مطاردة الفارين، ان النيران شبت في البرجين، واتت عليهما وعلى كل شيء فيهما، مما لا يعرف مصدره الا الله، وان شيخ الروم وحسقيل، عندما اخبرهما الفارسان بالواقعة، وجدا في ما اخبرا به الغطاء الذي كانا يبحثان عنه للهزيمة..
****
عندما رأى حسقيل النار كأنها الجحيم، تعصف بالبرجين بلهيبها ودخانها، راح ينثر التراب على وجهه..ويصيح:
ـ (أويلي عليّ).. لقد ذهب كل شيء جمعته طيلة السنين الماضية.. يا لها من نكبة كبيرة لي ولشيخ الروم!! قال له أحدهم متشفيا من الروم:
ـ انصحك يا حسقيل ان تبني برجين آخرين، تبيع احدهما وتؤجر الآخر لشيخ الروم، وتذهب انت لتكون ضيفا على ابن عمك في النار.
****
لقد فعلها العرب.. يا لهم من مغامرين عندما يستفزون!! ومع ان حسقيل، والى جانبه كلب الروم، كانا يحثان التراب ويذروانه على رأسيهما.. فقد تساءل كبير الروم مستفسرا من حسقيل:
ـ هل عملها العرب حقا، واحرقوا البرجين، في الوقت الذي كنا منشغلين بالقتال مع جماعة سالم، أم فعلها غيرهم، ليرمي نتائجها على العرب، مع ان اعداءنا من غير العرب كثر ايضا؟
ويجيبه حسقيل: ـ لا، ان مثل هذا العمل الفدائي لا يقوم به الا عربي.. لأنني وفق ما عرفته ممن جاءنا بالخبر ان الذين احرقوا البرجين، احترقوا جميعهم في نيران البرجين بعد ان احرقوهما..
ـ كيف ذلك؟، يستفهم كلب الروم.. اعتقد ان آخرين من غير العرب لو آمنوا بما يؤمن به العرب قد يقومون بهذا ايضا.
ويجيبه حسقيل: ـ لقد باشروا باحراق البرجين بعد ان صعدوا الى حيث الحرس في البرجين، وقتلوهم.. باشروا باحراق البرجين من على الأعلى، أو منتصفهما ابتداء، وليس من الاسفل، وكانوا يعرفون، كما يبدو، ان مثل هذا العمل يجعل امكانية احتفاظهم بالحياة غير ممكنة، ولذلك قبلوا هذا المصير لأنفسهم.. وقال من اخبرنا بهذه التفاصيل انهم كانوا يرددون، مع قيامهم باحراق البرجين، بصوت جماعي مدو: الله أكبر.. الله أكبر.
وعندما سمع أحد حراس كلب الروم هذا، ويبدو ان جماعة سالم كسبوه الى طريقهم وموقفهم، قال:
ـ رحم الله الشهداء الابرار، شهداء الايمان، والعروبة المؤمنة، وأخزى الله الكافرين. عندها جفل كبير الروم وحسقيل، وهما يقولان:
ـ يبدو ان لا مفر امامنا.. ان البرجين وخسائرنا وهزيمتنا في هذه المعركة ليست نهاية المطاف.
قالا ذلك، وركبا فرسيهما، ورحلا..
****
رأى سالم منظر النار وهي تشب في البرجين.. وكان فوق التل، بعيدا عنهم، وقد ارخى الليل سدوله، ولما يزل يطارد بقايا قوم الروم المهزومين قريبا من ديارهم.. رأى منظر البرجين البائس، واستعاد بذاكرته ثروة حسقيل، وشيخ الروم، تلك الثروة التي جمعاها من المنطقة على حساب اهلها والمحتاجين اليها..
التحقت به نخوة، وفرسانها الثلاثة، وكوكبة من افضل رجال العرب، ووقفوا هناك، فوق ذاك التل، يتأملون في ما حصل..
ردد سالم عند ذاك بصوت متهدج، بعد ان فاضت الدموع من عينيه، ومن عيون الجميع، وبكت نخوة خشوعا وحبورا:
ـ (بسم الله الرحمن الرحيم.. الم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا ابابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول) وردد ايضا: (قل اللهم مالك الملك، تأتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) صدق الله العظيم.. كأنه استحضر ما يعطي التفسير لما رآه من هزيمة حسقيل والروم واحتراق برجيهما.. واستحضر هذه الآيات من هذا المنظر ومنظر الصقور، وهي تنقض على طيور الحبر، ذلك لأنها قد مرت من فوق رؤوسهم، وهم يتجمعون في بيت سالم، وحوله وامامه، مثلما مرت من فوق حسقيل وشيخ الروم. والله أكبر.تــــــمـــــت |
|