الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32785 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: عبقريه طه حسين2 2/3/2010, 23:35 | |
| ثورة طه حسين على الأزهر
هز خروج الإمام الأكبر محمد عبده أو إخراجه من الازهر أركان مصر المحروسة وصار حديثها بعد تلك الخطبة التي ألقاها الخديوي في علماء الأزهر ، وظن طه حسين أن هذا الحدث الجلل سيفضي لأمر خطير في أروقة الأزهر، كيف لا وهو الإمام الأكبر محمد عبده؟ شيخ التجديد الذي أحدث كسراً في أغلال عصره وكان من شأن ما أجراه وأحدثه ما تفتق كنتاج لمنهجه التربوي رجالات قدر لها أن تصنع التاريخ شبت عن طوق الإنغلاق على يديه من أمثال سعد زغلول وقاسم أمين ممن إتصلوا به وأكملوا عنه كذلك من تأثر بالإمام وما أحدثه هو وتلاميذه الخلص من أمثال طه حسين نفسه . توقع طه أن يتزلزل الأزهر ويكون خطب عظيم فكم من مريد ضج به الرواق العباسي الذي كان الإمام يلقي فيه درسه كل مساء، وخال صاحبنا أن ضجيج الأزهريين سيعلوا ليبلغ أسماع مولانا فيعلم أن شباب الأزهر قد تغيروا وأن تلاميذ الأمام ومريديه لن يتخلوا عنه.
لكن طه صدم بانصراف جلهم عنه وكان يغالب الظن نفسه أن ما أحدثه الإمام في تلاميذه أكبر من أن يخنعوا ويخلع الخوف قلوبهم دون الزود عنه ، وكم كانت خيبته كبيرة وهو نفس تاقت للثورة والتغيير ولكرامة هذا المعلم الجليل الذي أحدث في الأزهر أمراً عظيماً بقياس ذلك العصر ، فبعد أن تلبدت غيم القرون الوسطى قروناً ورسمت خطاً لا تحيص عنه وجعلت تعيد وتكرر ما تعيد أدخل الإمام دروساً كالحساب والأدب والجغرافيا مما لم يألفه طلبة الأزهر ومما عده أغلب أشياخه ضرب من ضروب العبث والفساد لا يليق بالأزهر أن يكون فيه مثلها!
ما لبث الإمام الأكبر بعد حين من خروجه أن توفي وهال طه حسين كيف أن الأزهر بالذات كان أقل بيئات مصر اضطراباً لموته ، ولمح الفتى كيف انتهز البعض وفاة الإمام فرصة للاتجار باسمه ، واستغلال الصلة به ، قارضين الشعر في ذلك ما طاب لهم أن يقرنوا باسمه أسماءهم فيصيبوا عند الناس شيء من حظوته وجلال مكانته.
لاحظ طه حسين في هذا الخطب الجلل أمراً هاله وزاده عن الأزهر عدولاً وابتعاداً شيوخاً وطلاباً . ذلك أنه رأى أن من أخلص الحزن على الشيخ الإمام الأكبر محمد عبده كان من أصحاب الطرابيش لا أصحاب العمائم!
ولك أن تسأل نفسك لو كنت في مؤسسة تعليمية وكان بها رجل كمحمد عبده أحدث ما أحدث وحدث له ما حدث فتخلفت مؤسستك تلك عن دعمه ومؤازرته ولو بعد موته بإظاهر قدره ومكانته فيها بينما يمثل حضور إسمه حدثاً وأمراً جلالاً في غيرها ؛ أقول لك أن تسأل أي مؤسسة تلك في نفسك إذن؟!
مقت طه حسين الأزهريين شيوخاً وطلبة إثر هذا الموقف وسألته نفسه عن كرامة العلم والعلماء وتعمق انفصال نفسه عن الأزهر تماماً في إثر قصة لشيخ من أشياخه منعه القصر من إلقاء دروسه ، فكان أن سعى إلى طه أحد زملائه سائلاً: ألست ترى فيما حل بشيخنا ظلماً وعدواناً ؟ فأجابه أن نعم ، فسأله أن يشاركه في الاحتجاج على هذا الظلم ، فسعياً معاً في جمع نفر من تلاميذ الشيخ ومضوا إليه يسألونه أن يعطيهم الدرس في بيته ، وهذا ما كان واتسعت الدائرة فانضم لهم غيرهم من الطلبة ، لكن طه اصطدم بهذا الشيخ ذلك أنه جادله يوماً في مسألة مما أغضبه عليه فرده رداً عنيفاً قائلا : اسكت يا أعمى ما أنت وذاك؟! فما كان من طه إلا أن أجاب : إن طول اللسان لم يثبت قط حقاً ولم يمح باطلاً. فسكت الشيخ ممتنعاً وصرف عنه تلاميذه إذ ذاك، وإنفض عنه طه إلى غير رجعة ويأس من اشياخ الأزهر عامة مستنكراً عليهم هذه الحدة التي لا تنسجم وخلق العلم، وضيقهم بالمجادل السائل المتشكك طه حسين ، ولم يبقى عنده من أمل إلا درس الأدب ، ترى أكان طه مخطئ فيما اعتمل به صدره ؟ أيؤخذ العلم بالشك والجدل والاستجلاء أم كما قاله ووعاه هذا وذاك ممن علا كعبه في قرن غبر أو شق الأفاق إسمه في ألفية بألف خبر ؟
لعل ما جعل الأسباب تتقطع بين طه حسين والأزهر وتفعل في الفتى النحيل الضرير كل تلك الأفاعيل العجيبة نابعة من عقله الشاك ولعل مبعثها ما أحدثته أخلاق الشيوخ وسلوكهم والتلاميذ ونفاقهم في نفسه من بغض لها ، أو لعله ما أدخله الأمام الأكبر محمد عبده من إصلاح في تعليم الأزهر وعلى نحو خاص درس الأدب الذي كان يرى فيه النفر المعتبر من الشيوخ الأزاهرة ضلالاً ما بعده ضلال ، ولسان حال رأيهم فيه أنه ضرب من اللهو ما لعلوم الدين المعتبرة الأصولية ومال هذا الضلال؟ لعله هذا السبب أو ذاك أو لعلها تلك جميعاً.
حبب لطه ذكر الشيخ سيد المرصفي الذي كان الأمام الأكبر محمد عبده يظله بحمايته وكان يلقي دروساً في الأدب وسمع منه طه حسين فأعجب به وبما جاء به اعجاباً جما ولحظ الشيخ منه نجابة النجباء وذاكرة حافظة قل نظيرها فأحبه وقربه منه وراح يوجه له الحديث إناء الدرس وبعده بل ويصحبه معه بعد الدرس ، بل أن أول مجلس لطه حسين في مقهى كان بين يدي شيخه هذا ومعه ، وكان الشيخ لا يتجاوز حديث الأدب الذي كلف به طه شديد الكلف إلا للحديث عن الأزهر وشيوخه وتدني مستوى مناهجه التعليمية ، وآنس طه فيه روح المعلم وعظمة العلماء فكان يكبر فيه عنايته بأمه وإعراضه عن استلام راتبه فيما يتهافت على الجعالة غيره من الشيوخ رغم أنه المعسر الذي كان في ضيق ذات اليد إذا ما قيس بأقرانه من المشايخ ، ويصف سماحته بإكبار وتوقير يقول :"كان ينزل لتلاميذه فيجالسهم على الدكة راضياً مطمئناً ، ويسمع لهم باسماً ويتحدث إليهم أرق الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف.... ولم ينسى الفتى – يعني نفسه هنا- وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر . فلما صعدا إليه لقيا شيخاً قد جلس على فراش متواضع ألقي في هذا الدهليز ، وإلى جانبه إمرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده!"
فعل الأدب في نفس طه فعلاً عجباً ويذكر الفضل لشيخه المرصفي هذا وأثره وأثر الأدب بالذات على النفس ولعل من أبلغ ما قرأته في وصف الأدب هو ما قاله عنه طه حسين في معرض حديثه عن أثر تلك التجربة :" كانت نفوس الفتية ضيقة بالأزهر ، فزادها الشيخ ودرسه ضيقاً. وكانت نفوسهم شيقة إلى الحرية ، فحط الشيخ ودرسه عنها القيود والأغلال. وما عرفت شيء يدفع النفوس ، ولا سيما النفوس الناشئة إلى الحرية والإسراف فيها أحيانا كالأدب " اسمح لي عزيزي القارئ أن أقف معك هنا برهة نتأمل ذلك : "ما عرفت شيء يدفع النفوس ، ولا سيما النفوس الناشئة إلى الحرية والإسراف فيها أحيانا كالأدب" مما أخذ على طه حسين ميله للأدب وتفضيله إياه عن ما خلاه ولن أمنع نفسي عن هواها وما ترضى وإني لأذهب مذهبه وأصدقك القول أني لا أرى أبدع من الفن عامة والأدب خاصة كيف لا وأبدع ما في الأرض كتاب الله أرقى أدب على الإطلاق ، وإنك لو تأملت معي فيما أملاه طه حسين من أن الأدب أدفع للثورة في النفس من أي شيء غيره لعرفت كنه ولعه به، وإني لأتسع في دائرته فأقول الفن عامة والأدب خاصة ذلك أن العقل والنفس لا ترضى من الأدب ما اعتادت وما عجز عن تحريك العقل والنفس معاً وإنك لتهتف لو هزك بيت من الشعر لما له من أثر ومعنى وموسيقى : الله
ترى كم مرة تهتف الله وتجيش مشاعرك وتتقد نفسك وتتحرك دخيلتك أثناء قراءتك لكتاب نقد العقل الخالص لكانت مثلاً؟
ليس هذا حط من شأن ميدان دون آخر لكنه ما نشهد ونغفل عنه ، ترى يا سادة هل من وسيلة اليوم أشد أثراً في الناشئة من الأغنية مثلاً ؟ إني أذكر فيما أذكر أن أوبريت الحلم العربي أحدث أثراً عجيباً بين الشباب أكبر ألف مرة مما تحدثه كتب القوميين العرب ساطع الحصري و قسطنطين زريق ومن كان قبلهما وبعدهما ، فلماذا يعرض المثقفون عن هذا الفن لست أدري ؟
لقد وعى طه حسين مكانة الأدب إذن ومن ما يلفت النظر أنه سرعان ما اتخذه مدخلاً للتعبير عن ثورته على كل ما ترفضه نفسه في الأزهر ، فثارت حوله ونفر من أصحابه الأقاويل ، أوليس هؤلاء الذين لا يتحرجون في قراءة دواوين الشعر أياً كان فيها داخل الأزهر؟!
وفشي أمرهم بل تقاطب إليهم بعض الطلبة يسألونهم أن يصيبوا شيء من هذا السحر الذي أسمه الأدب ، حتى جلس طه ذات يوم لدرس الكامل فأنكر منه جملة كفر الفقهاء بموجبها الحجاج ذلك أنه قال فيمن يطوفون بقبر النبي ومنبره :"إنما يطوفون برمة وأعواد" ولم يرى طه أن بقوله هذا ما يوجب التكفير له ، وإذا بطه يستدعى على أثر ذلك إلى مجلس شيخ الجامع الشيخ حسونة وفيه المشايخ الكبار بخيت والعدوي وراضي وغيرهم وإذا بنفر ممن وغرت صدورهم على طه وصحبه يستشهدون ضدهم فيتهمون بالكفر لما قالوه في الحجاج!!!! ثم يقصون عنهم أنهم يعيبون بعض شيوخ الأزهر ، ودون أن يحاورهم الشيخ حسونة أمر بشطب أسماء هؤلاء الطلبة الثلاثة من الأزهر وعلى رأسهم طه حسين
سقوطه في العالمية وانحيازه للجامعة
ذكرنا أن العداء بين طه حسين والازهريين بلغ أوجه ، فقد كان طه قد انحاز كلياً للفريق الخاسر في الأزهر فريق أنصار الإمام الأكبر محمد عبده في القول والفعل ، فكان يجاهر علانية بعدائه للأزاهرة ويتندر بفضائح الازهر وعيوب شيوخه ، وقد أغاظه وهو لا يزال فتى قليل الخبرة بالخصومات ما راح بعضهم يؤلفه عنه وعن صحبته من أكاذيب تمس الخلق ، والحق أن بعض العقائديين وما أكثرهم بيننا هذه الأيام لا يجد غضاضة في أن يؤلف الأكاذيب ويبثها غير ورع ولا متعظ بل دون أن يخشى فيما يفعل لومة عبد أو رب لأنه للأسف ولسوء فهمه وطويته والمعرفة التي يرتكن إليها يظن أنه يفعل ذلك في سبيل الله وطالما هو كذلك فالغاية عنده وهي جهاد كما يظن تبرر الوسيلة !
بعد قرار الشطب أراد طه حسين أن ينتقم لنفسه فسعى بمقال مرير عنيف اللهجة إلى رئيس الجريدة استاذ الجيل أحمد لطفي السيد ؛ الذي رده لأحدهم ضاحكاً ولم ينشر المقال واكتشف الفتى أن قرار الفصل كان للتخويف ولم ينفذه الشيخ في حقهم .
كان طه قد قضى في الازهر اربعة اعوام حين سمع بالجامعة لاول مرة فاسرع إليها وانتسب ليسمع أول دروسه فيها على أحمد بك زكي درساً في الحضارة الإسلامية ، هاله أن يبدأ المدرس درسه على غير ما ألِف هو :" أيها السادة أحييكم بتحية الاسلام ، فأقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" وتابع درسه شارحاً من ذات عقله لا ملقناً من كتاب فاختفت اللازمة الازهرية: "قال المؤلف رحمه الله"!
أين هذا من ذاك؟! كان أشياخه لا يوجهون حديثهم لطلبتهم كأنهم لا يجلسون إليهم ويلقنوهم ولا يعلموهم ، فلا تعدوا شروحهم أن تكون شروحاً على الشروح وحواش على الحواشي.
قدر لطه أيضا أن يتصل بالجريدة ومديرها الأستاذ أحمد لطفي السيد وكذلك صحيفة الحزب الوطني عبر الأستاذ عبد العزيز جاويش وتجاذبه كلاهما إليه ، فقد لمسا منه نجابة وحسن لغة وعقلاً ناقداً فذاً، وكان لكل منهما أسلوبه يجذبه إليه ويغريه به ، فكان الأستاذ عبد العزيز جاويش يحثه على النقد بل والنقد اللاذع ويشجعه عليه وخاصة إذا ما كان النقد متصلاً بالازهر الذي كان الحزب الوطني ثائراً عليه وعلى مناهجه ميالاً للتعليم الحديث ، هذا ما يفسر الرابط الذي وجده طه حسين بينه وبين الحزب الوطني منذ البدء. أما أحمد لطفي السيد فكان يحبب له القصد والاعتدال والبعد عن الغلو في النقد حد الهجوم والتشنيع ، ولأن طه كان لا يزال حديث عهد بالكتابة فقد استجاب لكليهما معاً فكان إذا ما كتب معتدلاً نشر في الجريدة وإذا ما أغلظ النقد وجعله حاداً لاذعاً نشره في صحيفة الحزب الوطني.
يعترف طه حسين بندم أحياناً أنه كان طويل اللسان لاذع النقد ويذكر في سيرته شيء من تلك النماذج التي سعى لدى أصحابها لاحقاً معتذراً عنها، وقد أثار عليه نقده الازهر مشيخته التي صار لا يذكر لها اسمه حتى تلعنه ، وتبخس قدره ، وتجاهر بخصومته لمن ذكره ، ذلك أنه شن هجوماً عنيفاً على رشيد رضا وحفل حضره الأزاهرة أقامه المشايخ في فندق سيفواي احتفاء بمدرسة انشأها الشيخ رشيد رضا للدعوة وكانت تحظى بدعم الخديوي ومشيخة الازهر وكان ذلك يثير حفيظة انصار الإمام الاكبر محمد عبده فاعتبروا أن الشيخ رضا قد خان خط أستاذه وتحالف مع الخديوي وتخلى عن نهج الإمام ، فاوغلوا فيهم وفي حفلهم وقالوا فيه ما قالوا من أن زجاجات الخمر فتحت في حفلهم هذا وكثر اللغط ، واستل طه حسين قلمه وسنه مهاجماً فيه المشايخ وبلغ به التشنيع عليهم أن أنشأ في ذلك:
رعى الله المشايخ إذ توافوا إلى السفواي في يوم الخميس وإذ شهدوا كؤوس الخمر صرفا تدور بها السقاة على الجلوس رئيس المسلمين عداك ذم
ألا لله درك من رئيس
ودار العام عقبها ليستعد طه لامتحان العالمية في الازهر ، فحضر نفسه له جيداً ، وفي ليلة الاختبار جاءه صديقه القديم واستاذه الشيخ المرصفي وانبأه النبأ :"إذا أصبحت يا بني فاستقل من الامتحان ولا تحضره من عامك هذا ، فإن القوم يأتمرون بك ليسقِّطوك".
انبأه أن الشيخ الاكبر ألحّ في إسقاط طه على الشيخ عبد الحكيم عطا ، فأبى ذلك ولم يجعل له الشيخ حسونة من خيار إما أن يسقط طه وإما أن لا تجتمع لجنته ، فآثر الشيخ عطا أن لا تجتمع لجنته ، وقبل باسقاطه الشيخ دسوقي العربي.
لكن طه حسين أصرّ على حضور اللجنة اياً كان ، وما أن مثل بين يدي اللجنة حتى ناوله رئيسها كوب شايه نصف الممتلئ قائلاً : أتمه قد شربت أنا نصفه لتحصل لك البركة.
وبدا الأمر واضحاً لطه من شدة المناقشة وأنت تعلم عزيزي القارئ ما أهونها مهمة أن يعمد المختبر إلى اسقاطك ، وقد خبرنا جميعاً ذلك حين تنعدم أمانة العلم لدى المرء ، وكم تفاخر أمامي أساتذة بقدرتهم على وضع أسئلة لا يستطيعون هم الإجابة عليها ، كنت دوماً أضحك من ذلك الحمق ومن قلة الضمير وأتذكر قصة طه حسين والعالمية.
بينما الحال تلك والمختبرون يشددون على طه ما استطاعوا دخل الشيخ الأكبر وقال دون سلام :"حرام عليك يا شيخ دسوقي، حرام عليك ، ارفق به! ارفق به!"
ولم يرفق دسوقي به بل ازداد به شدة وعنفاً ، خرج طه من الدرس الأول لينتظر الثاني فوجد الشيخ الأكبر جالساً بجوار الباب ينتظر فما أن رمقه حتى نادى بشيخ أن خذه واسقه فنجانا من القهوة! وما أن مضى طه لفنجان القهوة ذاك وقبل أن يأتوه به حتى أنبؤوه بسقوطه دون أن يتم ما تبقى له من الدروس فاللجنة لا تريد أن تسمع منه ما بقي من دروس!
نعم أخطأ طه بأن أغلظ النقد لمشايخ الأزهر ، لكن السؤال أيكون الرد على ذلك أن يسعى شيخ الأزهر بكل ما استطاع لإسقاطه في اختبار يقتضي الأمانة العلمية وبنفسه؟!
لقد خبرنا هذا ومثله وما أكثره في مسيرتنا التعليمية ، فالنفوس المريضة تتسلط وتجد لها متسعاً ما انعدم النظام الأكاديمي الضابط وما كانت سلطة الاستاذ مطلقة، والسلطة المطلقة مفسدة ولا ريب ، وقد خبرته شخصياً يوم منعت مشرفة رسالتي للماجستير نقاشها رغم أنه قد ضرب لها موعداً زاعمة أنها ليست جاهزة بعد لذلك بل جاوزته لأن سعت لدى بعض اساتذتي ليعملوا على خفض درجاتي لأني سبق وأن قلت رأيي بها صراحة وبأسلوبها وجادلتها غير مرة حتى صارت تعتذر عن الحضور حيث حضرت ظانة أني أحرجها وأكشف ضعفها ، لكن شاء القدر أن تنشر الرسالة في واحدة من أمهات النشرات العلمية مما زادها حنقاً وغضباً وانتهى بها الأمر أن هجرت الجامعة إلى غيرها، بعب لبسؤال الملح هنا كيف ترتاح ضمائر هؤلاء عندما يخلطون الشخصي بالموضوعي؟ وأكثر من ذلك عندما يتصل الامر بالعلم والتعليم بالذات.
هذا ما كان مع طه وأكثر منه بمراحل شاهقة فالذين كادوا له ليسقطوه إنما فضحوا عجزهم هم فقد رقي طه سلم العلم حتى بلغ أعلى مراتبه كما سنرى لاحقاً وكسبه العلم وكسبته مصر وخسر الازهر في واقع الامر لا طه حسين.
هكذا لم يبقى لطه غير الجامعة ، أخسر هو الازهر الذي أعرض عنه أو حول عنه عنوة أم خسره الازهر؟!
على ايّ حال كسبه العلم الأكاديمي وهو بهذا أو بذاك تفرغ للجامعة والصحافة وقد أصاب نصيباً وافراً من علوم الازهر كان من المفترض أن ينال بها الدرجة لولا أن حيل بينه وبينها ، ولا يخفي طه أن رب ضارة نافعة فيحمد ربه أنهم حالوا بينه وبينها
كيف أصابت الثورة طه حسين
حب المعرفة كأي حب وإن كان أسمى من أي حب ، فهو مكتنف بتلك الرغبة في الاستزادة دائماً ، ولأن المعرفة لا حد لها فعشقها متجدد متولد، ذلك أن علته في ذاته يتجدد ويتولد ويتسع أفقاً وعاموداً. ما تصيب من المعرفة شيء حتى تراك راغباً بازدياد ، ولتجدن نفسك كلما علمت أكثر جهلت أكثر ، ذلك أن العلم كالدائرة كلما قصر في تحصيله المرء كانت تلك الدائرة في عينه كالنقطة وما يعرفه منها مركز النقطة فيخال نفسه أحاط العلم ووسعه، لكنه إذا ما اختلف لتحصيل العلم والمعرفة واستزاد منها وعلم نظامها ابتعد عن مركز تلك النقطة وتبين من حوله المعرفة دائرة تتسع كلما اغترف من معينها اتسعت أمام ناظريه أكثر مما كانت فعلم أنه إنما أصاب من العلم أقل مما يعرف بوجوده! سأل السائل يوما أرسطو : لما اختارك المجمع الإلهي أكثر من يعرف في آثينا؟ أجاب : لأني الوحيد في أثينا الذي لا يعرف شيء سوى أنه يعرف أنه لا يعرف!!! لماذا هذا المدخل؟ هو نتاج سؤال ابتدرت به نفسي : لماذا هذا التعلق العجيب لطه حسين بالعلم والمعرفة والرغبة في النيل منهما والغرق في بحرهما؟ كنت بداية أجبت هي الطريق التي ينبغي أن يسلكها انسان ضرير ليصنع في هذا العالم له كياناً محترماً ومصدراً للدخل يعتاش منه، لكن هالني فعلاً هذا الشغف الكبير الذي جعل طه حسين بهذا النهم وهذا الاقبال منقطع النظير على التحصيل ، أتراه كان عسيراً على طه حسين أن يحقق حلم أبيه ويجلس إلى أحد أعمدة الأزهر بعد أن ينال العالمية ؟ لا أظن أن ذلك كان عليه عسيراً وما كان الأمر يلزمه وهو الفطن كثير الدرس والاختلاف إليه أن يحصله ولو رضي عنه التيار المحافظ الذي كان يسيطر زمن الشيخ حسونة على الأزهر فما كان ذلك عليه عسيراً أبدا ، ثم الحجة البينة على خصوم طه حسين والطاعنين بأمانته : لو كان طه حسين من ذلك النوع الانتهازي الوصولي المستعد لبيع نفسه وبأي ثمن حتى يصل إلى ما يريده أكان المنطق هذا يقتضيه أن يتوافق مع التيار المهيمن في الأزهر أم أن يثور عليه ويعلن له العداء وينتقده ويجهر بالآراء التي تعدها المشيخة كفراً داخل الأزهر؟ لو زعم الطاعنون أن آراءه التي دعى إليها فيها خطأ ومخالفة لتاريخ أو دين لكان ذلك يسيراً جائزاً بل مقبولا منهم وحق لهم ولكان قولهم هذا محل نظر وجدال ، لكن كما كان طه حسين نفسه يردد عجزوا عن تفنيد حججي وأرائي فنزعوا للمطاعن. نحن نرى مطمئنين أن الدكتور طه حسين لو كان انتهازياً وصولياً لكان أيسر له أن ينحى ما نحى له خط الشيخ حسونة وما كان أهون الأمر عليه وهو الذي شهد له أشياخه بالنجابة والفطنة كما أنه وقت بدأ ثورته على الأزهر ما كان له من طريق غيره يسلكه ولا اتصال بالمطربشين ولا الجامعة لدرجة أنه كان لفترة يفكر في الانصراف عن الأزهر والعود إلى قريته ثم أمامك اختياره للدروس التي كانت محل نقمة على من يدرسها ومن يختلف لها ، هذه واحدة ، وأما الثانية فهي طبعه ونزوعه للشك والاختلاف ، وقد برز ذلك أول ما برز عندما رفض طه حسين أن يكون الكم المهمل الذي لا يعيره الناس اهتماماً ، وربما بدأت هذه النزعة لديه أول الأمر بدافع الرغبة في جذب الانتباه وتلك حال كل غلام فطن نجيب ، لكنها نزعة سرعان ما تحولت إلى اتخاذ الشك منهجاً والتساؤل عرفاً في التحصيل ، وأقول وبشكل عام وعقب نظر واسع أتاحته لي تجربتي من اتصال بشرائح واسعة من الأكاديميين والمثقفين أنهم طائفتان الأولى وفيها الكثرة الكاثرة وتضم بين حناياها العقول المستسلمة المنكبة على ما حصلت تقدسه فهذا قاله فلان وفلان هذا لا يربو الشك إليه وهذا الموروث المقدس كيف تشك فيه أو تقلل من عظمته؟ وهذه قوانين وضعها العالم الفلان فكيف تشك في صحتها ؟ وهذا ما اصطلح عليه الفقهاء أو العلماء فمن أنت حتى تشكك فيه أو تزعم غلطه؟ هذه طائفة لا تبدع ولا تضيف وإنما هي هكذا تنصرف شارحة تعيش على الفتات وشرح الحواشي وتتوهم العلم بنفسها وهي لا تعدوا كونها حافظة له لا أكثر . أما الطائفة الثانية فهي تلك التي حوت القلة القليلة من الثائرين وأقولها مطمئناً لهذا الوصف أيما اطمئنان فالمبدع انسان لا منتمٍ بمعنى أنه لم يرضى بالقائم ويقبله ويسلم به ؛ لا ينتمي للسائد ، بل أدرك الاشكاليات الجدلية التي اكتنفته وهب إليه يصب عليه نقده ويحاول اكتشاف علائقه وتعرية تناقضه لينتهي من ذلك إلى تجاوزه وتكريس نمط أكثر تطوراً ورقياً من الفهم وتلك سنة التطور التي جعلها الله قانون الوجود وهؤلاء بالذات وقودها الحقيقي ، هؤلاء عزيزي القارئ هم الذين امتلكوا ملكة مهمة هي ملكة الاستغراب والشك ورفض التسليم بالمعطيات الجاهزة دون تمحيص وفحص إنها ملكة الفلسفة بالذات والقدرة عليها. فكيف التحم طه حسين بها وكيف امتزج عقله بنظامها ؟ تلك الملكة هي الشرط الضروري الذي يخلق فيلسوفاً أو لنقل عقلاً متفلسفاً ، والمتفلسف هنا ليس ما درج الاستخدام العامي على إدراجه نعتاً للسفسطة ، إنما التفلسف القدرة على الشك والاستغراب والأسئلة حول الاسئلة نفسها وحول النظم والمعارف والحقائق ، تلك الملكة كالعضلة التي يربيها ويقويها التمرين على استعمالها ويقمعها للأسف البالغ كما يحصل في مجتمعاتنا مصادرة الاسئلة المنبثقة عنها وتجريمها بالعرف تارة والموروث أخرى والكفر تارات وتارات، فالمجتمعات متى تكلست مفاصلها اكتملت فيها بنية المفاهيم والعادات والأعراف والمعتقدات والقوانين وصارت تابوهات لا تقبل الشك فيها ولا جدالها وصار من نظامها ما تقوم به قامعة لأي تبدل في بيئتها الاقتصادية الاجتماعية مميتة لأي تغيير معطلة لأي ابداع يغير في تلك البنيات شيء. كيف استطاع طه حسين اختراق هذه الحلقة الجهنمية ؟ الاجابة لا تقتصر على نجابته وعبقريته الذاتية فالعبقرية ليست بنت صدفة ولا نتاج معجزة فالمعجزات انقضى زمانها ، بل العبقرية نتاج بيئة كانت تعج بالتناقضات ونتأ فيها ما أربك ركود بركتها التي أسنت قروناً ، كان دوي مدافع نابليون لازال حاضراً في ذهن المصريين وكان مشهد المماليك بسيوفهم خارجين لقتاله حاضراً في أذهانهم أيضاً مشهد يربك البركة حتماً ، خرجوا لطرد لويس الملك الفرنسي الجديد!!! يريدون احياء سنة الأجداد بيبرس وقطز وقبلهما أقطاي وعز الدين أيبك وشجرة الدر!!! لكن مهلاً ، فنابليون تجر جيوشه المدافع ، أوربا عبرت قروناً سقطت في بركتنا الآسنة، وهنا ما عاد من الممكن أن تظل البركة راكدة فالحجر ألقي والبركة اهتزت وقدم السحرة الجدد سحرهم ففر الأزاهرة من صحن المسجد مستعيذين بالله من الشيطان ، وفكت طلاسم حجر الرشيد ، ونقرت المطبعة القرآن الكريم! وحمل محمد علي وأبنه ابراهيم باشا تجربة النهضة على الأكتاف ولا نريد أن نتحول إلى التاريخ وكيف تآمرت تركيا العثمانية أسوء المحتلين على الأطلاق في تاريخنا مع الفرنسيين والأنجليز لإجهاض التجربة، لكن ما أنتج طه حسين وأنتج قبله وبعده العظام من أمثال سعد زغلول وقاسم أمين هو ذلك بالضبط وهو الذي أشعل عتمة مصر في الثورة المصرية الكبرى 19-23 والتي أثبتت أن الحياة تدفقت في العروق المصرية. طه حسين استفاد من المناخ الذي خلقته الثورة وقبله تجربة النهضة من الأعلام من قاسم أمين وسعد زغلول ومحمد عبده والأفغاني ومصطفى كامل ومن أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد وعبد العزيز جاويش وغيرهم وغيرهم الذين هم بحق الثائرين الذين رفضوا القبول بأن التخلف قدر.
أول من منحته الجامعة درجة الدكتوراة
انشاء الجامعة المصرية، حدث استثنائي في غاية الأهمية لم يحظى بالاهتمام الكافي الذي يليق به ، وكم عجبت فيما تتبعت من شأن الدراما المصرية أن تهمل مثل هذه القصة الغزيرة الدلالة ، فالجامعة إنما انشأت بجهود تطوعية هب لها أفراد وتبرعوا وانفقوا ما أمكنهم وعملوا جهدهم الموصول الجهيد حتى تنفذ واقعا ماثلا ، وكم يعز علينا اليوم وفيما تفصلنا عقود أو قل زهاء قرن من الزمن عن ذلك الحدث لا نرى بيننا من الأعلام من يقوم في طلب مثل هذه الانجازات العظام التي فيها رفعة الأمم ، أين تلك المبادرات التي نهض لها و بها أفراد وجماعات في أطر من العمل التطوعي الخالص؟ أين منا سعد زغلول وقاسم أمين ومشروع الجامعة أين منا طلعت حرب ومبادراته المنقطعة النظير؟
إننا حتى لم نعد نجرؤ على أحلام النهضة نفسها ، أيجرؤ أحد اليوم أن يؤرخ بالفن لثورة تبني فيقول : أدورة أرض بغير فضاء أمعجزة ما لها أنبياء ..... وصاح صوت أبي......أنا الشعب تحدي التأميم و بناء السد العالي ، التصنيع الثقيل الذي بيعت مصانعه بملاليم دون أن يعلم الشعب الذي دفع الثمن من لحمه و دمه كيف وأين ومتى أهدرت ثروته؟
هل عدمنا مثل هؤلاء البشر أم أعدمناهم؟
لا والله بل إن ما نحن عليه من أمر يعدم هؤلاء ويزدريهم ويحول بينهم وبين أن يقوموا لأمر أمتهم، أتغيب عن الذهن مثلا قصة العلامة الدكتور أحمد زويل ومشروع الجامعة التكنولوجية؟ فهل العلة بانعدام الرجال أم العلة في إعدامهم؟!
لولا الجامعة وقتها لكتب لعبقرية طه حسين أن تئدها مشيخة الأزهر إلى الأبد ، ولما نعمنا بما أثاره وما صنعه ، ولا داعب عقولنا ما كتبه وأبدعه ، فماذا وجد طه حسين في الجامعة ؟
يصف طه حياته الجامعية الأولى بأنها عيد متصل رائع الامتاع ، تخيل وإن كنت طالبا بالذات عزيزي القارئ أن تحس بأن حياتك الجامعية عيدا متصلا رائع الامتاع ، تخيل أن تنشئ نثرا وشعرا تستعطف فيه معلمك أن يزيدك بعد انتهاء المنهاج المقرر درسا أو درسين امتاعا لعقلك ونفسك.
صعب أن يتخيل طلبتنا اليوم ذلك ، ليس بالضرورة لأنهم يقلون عن طه حسين قدرة على الأقل من حيث المعدن العقلي لكن وذلك بيت القصيد لأنهم لم دخلوا الجامعة ولم تدخلهم الجامعة ، وقد عنيت مدة بسؤال ماذا تدرس ولماذا تدرس؟ اتذكر يوما كنت فيه اختلف إلى أحد مقاهي الجيزة فيما بين الهرم وفيصل من شوارع فرعية هي إلى العشوائية أقرب فإذا بمجموعة ظريفة من الطلبة الجامعيين يصنعون في المقهى جوا من الفكاهة يلذه المرؤ ويألفه ، عجبت من أمرهم وهم يأتلفون إلى المقهى في هذا الوقت الباكر وعلى الأغلب هو وقت درس ومحاضرات لكني عدا ابتسامتي ما كنت ابادرهم ، حتى حمل أحدهم إلي طاولة الزهر وسألني : تلعب؟ قلت : ألعب. ووضعت جانبا كتابي الذي كنت أطالع ، وبدأت معه اللعب والحديث ، ولم يحتج الفتى لكبير جهد من مخزون براعته فغلبني مرارا وتكرارا لا في الطاولة فحسب وإنما في الشطرنج أيضا ، كيف لا وهو "الحريف" وأنا الغشيم قليل المران بهذه الألعاب ، وسرعان ما اختلف بقية الفتية إلى مجلسي وصار لي معهم ساعة نقضيها من كل صباح ، فعرفت فيهم طالب الحقوق وطالب التاريخ وطالب الاقتصاد ، وسألتهم كيف هم من طلبة الجامعة وينجحون برتابة مع أنهم لا يختلفون إلى الدروس ، فضحكوا ورد أنجبهم علي : بص حضرتك في حاجة عندنا اسمها الملخصات والملاحق و كمان حبة دروس على حبة مجموعات وتنجح!
سألت طالب التاريخ سنة ثالثة عن أول رئيس جمهورية لمصر العربية ؟ فلم يعرف! وعندما استهجنت منه ذلك ، رد : أصل حضرتك مش واخد بالك يعني اسألني مثلا في الأسرة الفرعونية السبعة ماشي إنما الحجات دي معلش مش أوي. وطبعا لماذا هذا التخصص ؟ الاجابة المجموع المسألة برمتها لم تعد تعليما أبدا ولم تعد هناك رغبة في تحصيل العلم ولا معرفة بمعنى العلم والتعليم ولا هدفه ولا غايته ، ما هي إلا أيام تقضى وعملية اجرائية دورية لا يرعاها الطالب ولا المعلم والكل يضع نصب عينيه في نهاية الأمر رغيف العيش. لا أمنع نفسي من القياس على وصف مزعج استعمله فرانسيس فوكاياما في وصف العلاقة بين الدولة والعاملين في النظم الشيوعية : "الشعب يمثل على الدولة أنه يعمل والدولة تمثل على الشعب أنها تدفع له الرواتب." هكذا يتحول تعليمنا وجهازه برمته طلبة تمثل أنها تحصل العلم ومعلمين يمثلون أنهم يعلمون. قد يبدو هذا قاسيا وربما تحس فيه شيء من المبالغة لكنه فعلا يطغى ويتكرس فيما نظام حياتنا برمته يتحول إلى مسرحية لتمضية الوقت.
عيد متصل ومتعة لا تمل تلك كانت الجامعة في نظر طه حسين وزملائه نأمل أن تتكرس العناصر الضرورية لتجعل طالبنا يستمتع بالعملية التعليمية بهذه الكيفية وعلى هذا النحو.
بين اساتذته المستشرقين والمشارقة توزع عقل طه باتزان ، فقد أتاح المشارقة منهم له أن يأتلف ائتلافا معتدلا من علم الشرق والغرب جميعا، بين المطربشين منهم وحاسروا الرؤوس وأرباب العمم ، لكن أي نوع من الأساتذة كانوا؟
ذات يوم نشرت الجريدة مسابقة شعرية جعلت لها كتاب الأمالي لأبي علي القالي جائزة وحكمت فيها الاستاذ حفني ناصف وطالبه طه حسين! وكبر الأمر في نفس طه وأثار فيه شيء من الغرور أيقرن لأستاذه ، ولكن الاستاذ بما يليق بالأساتذة من مكانة ومن عمق إدراك وثقة يحمل في الليل المساهمات التي أرسل بها المتسابقون ويذهب بها بنفسه إلى بيت طه حسين ويفاجئه قائلا: أتيت لأخلو إليك ساعة نفرغ فيها من قضية هؤلاء المستبقين.
كان جل الأساتذة المشارقة إما من انتخبته إدارة الجامعة من المشايخ لدروس تتصل بما اتصل به الأزهر قرونا وإما ذاك الصنف من الرواد الذي غرف من معين العلم الحديث في الجامعات الغربية وعاد به مشغوفا بتعليمه لأبناء مصر.
تدرج طه حسين سريعا في علومه موفور الحظ قرير العين ، كما لمع كاتبا وذاع صيته وتيسر له من أمره ما أحب أن ينهل من العلم كيف يريد ، لكن نما إلى علمه أمر البعثات التي ترسلها الجامعة إلى أوربا وأغراه ذلك وفتنه فقد لمس من الأساتذة القادمين من فرنسا غزارة علم وجدة وموفور معرفة في ألوان من الفكر لم يألفها ولم يسمع بها المصريون من ذي قبل ، لكن كانت تقف بينه وبين ذلك غيرما عثرة ، فهو كفيف وهو غير حاصل بحكم ذلك وبحكم أزهريته على الثانوية وهو ضعيف المعرفة باللغة الفرنسية ، فكان مصير طلبه الانضمام إلى بعثة الجامعة الرفض ، خاصة أنه سيتكلف أكثر من غيره لحاجته لدليل يهتدي به في طريقه ويعينه على أمره.
فأعاد طلبه متنازلا عن النفقة الاضافية كونه سيقتطع ما يحتاجه الدليل من مخصصاته هو لكن عبثا ، واحتج المجلس الجامعي بأنه لا يجيد الفرنسية ، فعاد بعد عام أنفقه مشددا على نفسه في اللغة الفرنسية ورفع كتابا جديدا يطلب فيه إيفاده لدراسة الفلسفة أو التاريخ ويذكر بأنه سيتقدم في عامه هذا لنيل درجة الدكتوراة من الجامعة من قسم الآداب ، فوافق المجلس شريطة أن يظفر طه حسين بالدكتوراة أولا.
جاء يوم النقاش لرسالته التي أعدها في تاريخ أبي العلاء المعري وكان فيه خوف شديد أن يكون هذا يوم كيوم امتحان العالمية في الأزهر ، لكن طه كان جاهزا مستعدا وإلى جانب رسالته في تاريخ أبي العلاء كان عليه أن يناقش في علمين يختارهما وكانا الجغرافيا عند العرب والروح الدينية عند الخوارج ، من الطريف أن التمرد والآفة تلزمه ويلزمها نفسه فأبو العلاء المعري رجل كفيف وأديب والخوارج أشد الفرق تعلقا بالثورة وأكثرها نزوعا لها .
استمر النقاش زهاء الساعتين ، ثم تقرر منح طه حسين درجة جيد جدا في الرسالة والامتياز في الجغرافيا عند العرب و الامتياز في الروح الدينية للخوارج .
ليكون طه حسين أول طالب في هذه الجامعة ينال درجة الدكتوراة !
نعم طه حسين الفتى الكفيف القادم من صعيد مصر يشق الصفوف بل ويتقدمها جميعا ويقبل التحدي الكبير ويثور على الأزهر ويهجره ويمخر عباب تجربة جديدة في الجامعة ويتقدم كل أقرانه ليصبح أول طالب تمنحه الجامعة درجة الدكتورة.
كان ذاك فوزا كبيرا مستحقا عن جد واجتهاد وكم كانت فرحة الدكتور طه حسين كبيرة ليس فقط لأنه نال الدرجة ولا لكونه أول من نالها من الجامعة فقط ، بل وذلك هو الأهم أنها إيذانا بتنفيذ الجامعة لوعد قطعته وهو إرساله لأوربا في بعثتها إن حصل على الدرجة
خروجه من الجبة والقفطان
|
|
|
| [size=21] الدكتور طه حسين إذن هو أول من منحته الجامعة في مصر درجة الدكتورة ، أكان في مصر كلها ليلة إذ من هو أشد منه فرحاً ؟! لكن مهلاً شيء واحد كان يشغل ذهن طه حسين وقت إذ لم تشغله الفرحة عنه ، إنه وعد الجامعة إياه أن تبتعثه إلى فرنسا إذا نجح فعلاً في الحصول على إجازة الدكتورة وأجاد اللغة الفرنسية ، وهاهو ينجز المطلوب وما ظل إلا أن تنجز الجامعة وعدها.
يوم موعود هو ذاك الذي ضرب له ليلقى الخديوي ، يومها تقبله أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا فرحاً بهذا الطالب النجيب الذي رأى فيه أحمد لطفي السيد ما كان يراه محمد عبده في سعد زغلول وقاسم أمين، فحفي به أيما حفاوة وضمه إليه مذكراً إياه " أمضي وأذكر أنك في أول الطريق".
أي طريق هو يا طه حسين ؟ أكنت ساعة إذ قد بلغت مبتغاك أم إزداد وعيك بضخامة ذلك البحر الذي لا ساحل له ؟
ألا زلت يا طه حسين تريد أن تغرق في ذلك البحر ؟ ألا زالت كلماتك تتردد في فضاء عقلك المبصر دون بصر ، فظللت راغباً في القضاء في محراب العلم به ومن أجله ؟
ما كان أمر البعثة يسيراً إلا لأغنياء القوم القادرين على النفقة ، ما كان لطه حسين إبن الصعيد المصري الفقير إلى فرنسا سبيلاً غير أن تبتعثه الجامعة ضمن بعثتها ، لكن تلك البعثة كانت قليلة العدد وتعتمد على الإختيار مما يصعب الأمر أكثر ، ولكن طه أعمل مع مجلس الجامعة مبدأ سد الذرائع ، وأي ذرائع تملكها لمنع أول الحاصلين على درجة الدكتوراة منها؟!
إستحق طه حسين البعثة فنالها إذن ، نالها بجده واجتهاده ، بالصبر والأناة في التحصيل ، ومما يذهل المرء وهو يقتفي أثره ويتسقط خبره ، أنه كان على طموحه رجل مبدء جريء الرأي حاد البصيرة مقبلاً غير مكترث بالعاقبة إن كان مؤمنا بما هو مقبل عليه ، أدار ظهره للأزهر غير مكترثاً بعالميته تلك ولا بالعامود الحلم الذي كان أباه يريده أن يستكين إليه ملقناً، ورغم ما نجم عن ذلك ما حفل طه لا بالوعد ولا بالوعيد ولا حتى بالخيبة التي خيمت من حوله لأنه عرف أن لكل موقف ثمن ، فقد إنحاز من البداية لخط التجديد إنحاز لخط دفع فيه ولا زال عباقرة الأمة من محمد عبده وليس انتهاء بنجيب محفوظ كل ما امكنهم ولقي واحدهم فيه أزيد مما يستطيع المرء احتماله، فقدر المبدع أن تكون حياته وسيرته وعذاباته قرباناً وجسراً تعبر عليها الشعوب نحو النور.
دفع طه حسين ثمن عشقه للأدب في الأزهر كما دفع ثمن مقالاته النقدية التي أرسلها كالصواعق المنزلةعلى الأزهر مؤسسة ومشيخة ، وراح يستقبل العلم في الجامعة واثقاً مقبلاً ثابتاً ، حتى جاز فيه ما جاز وحاز منه ما حاز فأدهش معاصريه وتقدم الصفوف ليكون لنا نحن العرب مثلما هي ماري كوري للغربيين ، معجزة التفوق على العاهة التي ابتلي بها الإنسان ، وتكريساً كما سبق وذكرنا لما قاله مصطفى كامل رمز الوطنية المصرية لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس . أن تكون أول من يحوز درجة الدكتورة من جامعة في بلدك هو عمل عظيم واستثنائي أما أن تكون أول من حازها كفيف البصر فذلك أدعى لوقفة اعجاب حقيقية ، لم يكتفي طه حسين بذلك بل كان من شأنه الكثير الكثير كما سنرى لاحقا ولعل أهم ما من شأنه هو ما تدين بها الأمة لرجل له فضل عظيم على مؤسسة التعليم وإعادة فتح التراث على مصراعيه للبحاثة بمنهاج العلم النقدية.
استقبل الخديوي طه حسين في الاسكندرية بعد أن حمل إليها ، سأله الخديوي عن نيته لما في قادم الأيام ، فرد طه حسين - سأحاول السفر إلى فرنسا لأدرس الفلسفة أو التاريخ. - إياك والفلسفة فإنها تفسد العقول ... بل وتفقد الذوق أيضا ... ستسافر إلى فرنسا ولكن لا لتدرس الفلسفة وعليك بالتاريخ فإنه علم عظيم.
كان للخبر وقع عظيم في نفس الفتى رغم امتعاظه من رأي الخديوي في الفلسفة ، كما كان للخبر أثر أعظم في نفس أسرته ، فوقع من أبيه موقع الزهو والفخار لما أحرزه طه ، فإذ به يقول للقوم
- لله في خلقه شؤون ، هذا الفتى أضعف بني وأخفهم علي حملا ، واقلهم نفقة. قد أتيح له ما لم يتح لإخوته الاقوياء المبصرين الذين كلفوني من النفقة ما أطيق وما لا أطيق. لم تتحدث الصحف عن أي منهم ولم يقابل الخديوي واحد منهم ، ولم يخطر لي ولا لواحد منهم أنه قد يسافر إلى أوربا كما سافر إليها أبناء الأغنياء. وكان قصارى ما تمنيته له أن يجلس إلى عامود في الأزهر ليلقي الدروس على بعض طلابه فإذا هو مسافر إلى باريس التي نسمع من أحاديثها الأعاجيب.
إلا أن فرحة طه حسين بالبعثة لم تشأ الأقدار لها أن تتم ، فقد حال دونها إعلان الحرب العالمية الذي جعل الجامعة توقف البعثة.
ثقل على طه الجلوس والانتظار بلا عمل ولا شاغل ، وما كان ليكتفي بما يختلف إليه من سماع لما يقرأ عليه بعض أصحابه ، جالساً عالة على معيل ، فقرر قطع ذلك بأي ثمن ، فتقدم بكتاب إلى مجلس الجامعة يسأله أن يستفيد بما أصابه من علم وبأنه مستعد لإعطاء دروس في تاريخ الأدب العربي بدون أجر حتى ينفع الطلبة بما تعلم وينتفع بتعليمهم.
أبت الجامعة عليه المجانية وشكرته إياها وأكبرتها منه ، وكلفت علوي باشا أن يقدر له المكافأة التي تلائم حاله وطاقة الجامعة.
جلس لعلوي باشا فبادره الأخير بأن اقترح عليه أن يشترط رسم يدفعه الطلبة لحضور درسه فيعاد عليه بذلك الرسم كما هو الحال في بعض الجامعات الألمانية أيامها ، لكن ذلك شق على طه إذ يشعره بأنه مدين مباشرة للطلبة، فقرر له علوي باشا راتباً مقداره خمس جنيهات شهرياً، كانت على قلتها أكثر مما يقرر الأزهر لمشايخه.
مضى طه حسين مدرساً جامعياً وفي ذات وقته إنكب بنهم على دراسة الأدب الأندلسي ، حتى جاء موعد السفر إلى فرنسا بقرار عودة البعثة.
لتحمل الباخرة طه حسين مصطحبا معه أخاه في 14 نوفمبر/تشرين ثاني عام 1914 إلى فرنسا ، و بينا كان ركاب الباخرة أصفهان منشغلين بخطوب البحر كان طه حسين منشغلا بحدث شخصي طال أجله حتى أنه تأخر بإحداثه أزيد مما يلزمه ، فقد كان لا يزال حتى اللحظة يرتدي جبة وقفطانا ، ورغم أنه هجر الأزهر منذ زمن ونال درجة الدكتوراة من الجامعة بل واختلف إليها مدرسا وإلتحق بالصحافة كاتبا وبالمطربشين صحبة ، لكنه ما زال بهما حتى ركوبه البحر إلى فرنسا ، وهنا وجد طه أنه لا بد مما ليس منه بد ، فأنفذ في زيه ذلك التغيير ليس فقط لما ذكرناه وحسب بل أيضا لأن هذا الزي سيبدو غريبا غير متسق مع ما يألفه الذوق في المصر الذي يسعى إليه طالبا العلم ، وليس من الحكمة أن يختلف لبيئة بزي يشذ فيها عن الذوق السائد وإلا كان شاذا نشازا ، وأخال أن من لا يريد أن يبارح زي بعينه لأي غرض فالأولى به أن لا يبارح المكان الذي هيئ له ذلك الزي . وصلت الباخرة بهم أخيرا إلى مدينة مونبليه حيث هم مأمورون بطلب العلم عامهم الأول ليضع طه حسين قدمه على أرض أوربا ولتبدأ به مغامرة عقل جديدة |
|
|
sa7ar مشرفة
عدد الرسائل : 1036 بلد الإقامة : ج.م.ع احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 7241 ترشيحات : 2
| موضوع: رد: عبقريه طه حسين2 9/3/2010, 00:47 | |
| الأستاذ الوتر |
|