كوارث الطيران ... التكنولوجيا والعنصر البشري ونظام الطائر الآلي
صور طاقم الطائرة الماليزية في مدرسة ماليزية (مارس/ 2016/أ.ف.ب)
تعرف منطقة الخليج بشكل كبير نماذج الطائرات المدنية الأكثر حداثة، فبعض شركات الطيران، مثل طيران الإمارات والخطوط الجوية القطرية وطيران الاتحاد، لا تتوفر فقط على عدد متزايد من الإنجازات والجوائز، بل إنّ سجل سلامة رحلاتها أمر تُحسد عليه أيضاً، حتى صباح السبت 19 مارس/آذار الجاري، عندما تحطمت طائرة - فلاي دبي إف981، والتي كان على متنها 62 شخصاً في روسيا. فبسبب سوء الأحوال الجوية، حامت الطائرة ساعتين في المطار، ثم في المرة الثالثة للهبوط فقدت السيطرة فجأة، وسقطت مثل حجر في المطار. لم يتم بعد تحديد السبب فيما إذا كان انتهاء الوقود، أو عطل ميكانيكي أو خطأ من الطيار بسبب الأحوال الجوية السيئة أدى إلى هذه المأساة.
بعد مرور عامين على اختفاء طائرة الخطوط الجوية الماليزية (بوينغ 777) من دون ترك أي أثر، هل سيظل السفر الجوي يحظى بثقة زبائنه؟ أليس هذا هو الوقت المناسب ليقوم كل من له صلة بتصميم وتصنيع وإدارة الرحلات بمراجعة شاملة؟ تشير كوارث جويّة حديثة إلى أن كل شيء في عالم السفر الجوي مخالف تماما لما كان يظنه العالم.
ظل طراز إيرباص 330 محافظاً على مسيرة مهنية خالية من الحوادث الجوية، حتى غادرت رحلة الخطوط الجوية الفرنسية إف 447 من ريو دي جانيرو نحو باريس، في الأول من يونيو/حزيران 2009. ولم تستطع طائرة التوين جيت (twinjet) سهلة القيادة والمتوفرة على قمرة قيادة آلية ونظام تحكم عن بعد بالحاسوب التعامل مع العاصفة، فهوت الطائرة المعروفة بجولاتها الآمنة أسفل المحيط الأطلسي مع 228 راكبا. وعلى الرغم من استرجاع الجثث والحطام في غضون أسبوعين، إلا أن الصندوق الأسود الخاص بالطائرة ظل في قاع البحر عامين. أما أسر الضحايا فقد تسلموا ما تبقى من الجثث التي تم التمكّن من تحديدها. وقد احتاجت صناعة الطيران إلى إغلاق أبوابها، وفكّر مديرون تنفيذيون قلقون في بعض شركات الطيران في إيقاف عملية إنتاج أسطول A330، حتى يتم التحقق من قضية رحلة الخطوط الجوية الفرنسية. وفي النهاية، فاز ضغط الشركات على التحفظ الأخلاقي، واستمر العمل كالمعتاد.
هول المحيط الشاسع
قبل عامين، في الثامن من مارس/ آذار 2014، كان الإعلام العالمي في منافسةٍ شديدةٍ لينقل للعالم كيف اختفت طائرة حديثة أخرى، بنظام قيادة ذاتي، وهي في طريقها من كوالالمبور إلى بِكين مع 239 راكباً على متنها. وكانت بوينغ 777-200 للخطوط الجوية الماليزية تحمل علامة الرحلة 370. وكانت عبارة "ليلة سعيدة رحلة 370" آخر الكلمات التي قالها الطيار، والتقطها مشغل رادار أرضي. كان كل شيء طبيعيا، وكان نظام الطيار الآلي يعمل جيداً، كما أن الطيارين لم يظهروا أي مشاحناتٍ، ولم يقوموا بأي استفسار غير عادي لفريق المراقبة. لم يصدّق أحد احتمال أن الرحلة 370 اختفت فعلا. ولم يكن متوقعاً أن يطول انتظار الأحبة على متن هذه الرحلة أكثر من سنة؛ فقد كان من الواجب أن تحُط الطائرة في بكين، في غضون ست ساعات ونصف الساعة فقط.
مرّت أسابيع وأشهر من دون أن يظهر أي أثر لسترات النجاة والأمتعة والجثث، لتطفو على سطح البحر. كانت البيانات الإلكترونية والصوتية المتعلقة بالرحلة مروعة ومرعبة. وأصبحت طائرة البوينغ المختفية أرضية خصبة لنظرية المؤامرة. لام بعضهم الإرهاب، ووصف آخرون الحادثة بأنها من صُنع الطيار الانتحاري. لكن الأغرب كان الظن أن الطائرة اضطرت للهبوط على بعض الجزر غير المعتادة. وعزّز أشخاص ذوو معرفة علمية المعلومات المتاحة، ليصلوا إلى خلاصة أنه لم تكن هنالك أي بقعة نفطية فوق سطح البحر، حتى تنحرف الطائرة صوب البحر الشاسع والبعيد، في محاولة للبحث عن مدرج للهبوط، في حين أن نظام الاتصالات قد أغلق أو أحرق. وتوصلوا إلى أن الطائرة سقطت في جنوب المحيط الهندي، من دون أي أثر لمواد هيدروكربونية في الخزانات.
ومن المقرّر أن يستنفد التحالف المتعدد الجنسيات بقيادة أستراليا، بدلاً من ماليزيا، نحو 100 مليون دولار، بحلول شهر يوليو/ تموز لتمشيط مساحة 75.000 كيلو متر مربع من قاع البحر باستعمال طائرات بدون طيار ونظام السونار (Sonar). ويبدو البحث إلى حدود الساعة غير مثمر، ذلك أنه تم العثور على ثلاث قطع من الحطام في أمكنة متفرقة، جزء من الجناح في الجزيرة الفرنسية ريونيون، واثنان في موزمبيق. ويبدو أن الحطام من الرحلة الماليزية المحكوم عليها بالفشل لا يحتوي على أي شيء من جسم الطائرة الرئيسي، باستثناء الأجنحة ومثبت استقرارٍ أفقي نادر. ويعتبر جسم الطائرة الفضاء الأوسع للجلوس وللبضائع، والذي يصير ضغطه كالبالون عند الطيران على ارتفاعات عالية. ووفقا لخبراء، سيكون من الغريب اكتشاف أن جسم الطائرة السليم قد سمح لبقايا الركاب وغيرها من الأجسام الخفيفة بأن تهرب وتطفو على السطح.
وقد أصدرت مجموعة تحقيق غير حكومية، من 19 شخصاً، تقريراً في 584 صفحة، يتمحور حول ادعاء رئيسي، مفاده بأنّ البحث عن الصندوق الأسود لم يكن فعالاً في البداية، لأن بطارية المرشد اللاسلكي لتحديد المواقع تحت الماء كانت قد انتهت، قبل عام من إقلاع الطائرة الأخير.
من البطل.. الطيار أم نظام الطيار الآلي؟
تُعَدّ هاتان الحادثتان الجويتان الأكثر إثارة للحيرة حتى الآن. وقد أخبرني محقق تحطم الطائرات ومؤلف عدة كتب بشأن الكوارث الجوية، وليام لانجوفيشي، إن لدى شركات الطيران مشكلة أكبر تتعلق بثقافة قمرة القيادة. وأوضح في مقال معمّق له في مجلة "فانيتي فير"، بخصوص تحطم الرحلة إف 447 للخطوط الجوية الفرنسية أنه: "باختصار، جعلت أنظمة التشغيل الآلي من غير المحتمل أن يواجه طيارو الخطوط الجوية العاديون أي أزمات خلال رحلاتهم. لكن، في الوقت نفسه، جعلتنا نصدّق أن من المرجح أنها لن تكون قادرة على التعامل مع مثل هذه الأزمات عند وقوعها".
وعادة ما ينتقل الطيارون إلى خيار الطيار الآلي، بعد أربع دقائق على الإقلاع، ولا يوقفون تشغيله إلا قبيل الهبوط بقليل. أما مسار الطائرة، فعادة ما يكون مقرراً من تقنيي شركة الطيران المكلفين بالإرسال (airline dispatchers)، ويكون مبرمجا في النظام الخاص بإدارة الرحلة (jet flight-management system). وقد أضحى هذا الإجراء مسألة عادية في أيامنا. ففي الرحلات التي تدوم ثلاث ساعات، لا يترك نظام الطيار الآلي والأنظمة الخاصة بإدارة الرحلة للطيارين سوى خمسة في المائة من مسؤولية العمل.
ويقول ويليام، مبسّطا الإجراء المعقد للقارئ العادي: "كان طيارو الخطوط الفرنسية مُتعبين قبل صعودهم إلى قمرة القيادة. أما مسؤولو المراقبة فلم يتعاملوا بجدية مع تهديدات الطقس السيئ، وقد ارتكبوا أخطاء متتالية، ما أدى إلى الكارثة. فالطيارون الذين لم يعتادوا القيادة اليدوية للطائرة في حالات الطوارئ تعاملوا مع تلك الحالة بشكل تجاوز الحدود، بحيث أنهم تحدّوا حدود الطائرة الهيكلية والإيروديناميكية (aerodynamic)".
بدأ نظام الطيار الآلي يُحدِث ثقافة من اللامسوؤلية في أوساط الطيارين، فأصبح حس المسؤولية عند عديدين منهم شبه غائب، حتى في حالاتٍ عليهم فيها الأخذ بزمام الأمور. والخطأ البشري عند عدم التدخل لمنع حالة ما هو نتيجة لانشغال الطيار، وليس نتيجة لعدم القدرة أو غياب الخبرة. وكارثة الرحلة 255 التابعة لخطوط نورث ويست الجوية خير دليل على التحديات الجديدة التي نواجهها، بسبب الاعتماد المفرط على أنظمة الطيار الآلي. ففي أكتوبر/تشرين أول 2009، تجاوزت رحلة من سان دييغو إلى مينيابوليس وجهة الهبوط في المطار عندما كانت تحلق على ارتفاع عالٍ جداً، وكان سبب ذلك التجاوز هو النقاش الحاد والصاخب داخل قمرة القيادة، والذي حال دون سماع فريق القيادة نداءات الطاقم الأرضي للمراقبة الجوية وتحذيراته. لحسن الحظ، هبطت الطائرة من دون مشكلات، لكن الحادث يوضح بجلاء التحديات التي تفرضها نتائج الأتمتة (automation) المتطورة على الأداء البشري. وكان من المحتمل أن تقع كارثة لو أن طاقم الطائرة لم ينتبه إلى مؤشر عطل، أو أنه تعامل في وقت متأخر، أو بعد فوات الأوان، مع وضع خارجي، مثل وجود طائرة صغيرة في الممر الجوي نفسه.
الرحلة بدون طيار
ليست هناك قرائن مؤكدة على أن نهاية رحلة الطائرة الماليزية كانت بسبب الأخطاء السالفة الذكر، فقد تحدث محققون عن عدم وجود فرضية الانتحار لدى الطيارين، فقد كانوا مرتاحين بما يكفي، ولديهم الخبرة اللازمة للقيام بواجبهم. وإذا لم يكن هناك أحد ليخفي عنا معلومات مهمة وأساسية متعلقة برحلة الطائرة، فستبقى نظرية الطيار كريس غودفيلو معقولة إلى حد ما. قال إن حريقاً كهربائياً في قمرة القيادة قد يكون ما أدّى إلى فقدان الإرسال والاتصالات داخل الطائرة. فطاقم الطائرة تحوّل غرباً نحو مطار قريب، قبل أن يسيطر الدخان على الطائرة التي كانت تطير بنظام الطيار الآلي، حتى آخر لحظة. لكن، السؤال هنا ما إذا كان الطاقم انتبه، في الوقت المناسب، للحريق الكهربائي الذي أتى على كل شيء، بما فيه الطاقم نفسه. أما بالنسبة لطيّارين لم يسبق لهما التحقيق في كوارث الطيران، وبناء على حسابات رياضية، فالتحقيقات حول تحطم الطائرة، والتي تقودها أستراليا، بعيدة عن مكان البحث بـ 800 كيلومتر. أما الآن، فقد خصصت ميزانية أخرى، تقدر بخمسة ملايين دولار، من أجل البدء في بحث آخر في منطقة أخرى في جنوب المحيط الهندي، حيث يعتقد بوجود بقايا الطائرة.
وفي حين ما زال مسؤولو الملاحة الجوية العالمية يناقشون بحدة مسألة بقاء الطيارين حذرين ومنتبهين، حتى مع وجود أنظمة الطيار الآلي متفوقة، إلا أن المصنّعين يعملون على تطوير قمرات قيادة بدون طيار. وقد يتم تجريب تلك التي ما زالت في مرحلة الاختبار في آلات شحن الطائرات (freighter planes)، لكن بعد الانتهاء من إجراءات تنظيمية شديدة. وتعتقد شركة بوينغ أن هذا الإجراء قد يساعد على تحقيق الهدف من الناحية التكنولوجية، إلا أن شركة إيرباص تقول إن ذلك لن يساعد على تطوير الطائرات المستقلة.
بالنسبة لشركات الطيران، بما في ذلك الشركات العملاقة في منطقة الخليج، سيكون من الصعب بمكان إقناع أحد الركاب بالسفر على متن طائرة بدون طيار. وسيأخذ التحقيق في حادث الطائرة الإماراتية فلاي دبي إف زد 981 شهرين ليكتمل. وقد قال لي محام أميركي مهتم بالملاحة الجوية ساخراً إنه لا يعتقد أن طائرة بدون طيار قد تستطيع أن تقرر الهبوط على نهر هدسون إذا ما تلقى محركها ضربة طير محلق. وكان يلمح إلى رحلة طائرة الخطوط الجوية الأميركية A320 التي كان يقودها الطيار تشيسلي سلنبرغر، في 15 يناير/كانون ثاني 2009، والذي انتبه في الوقت المناسب، للحالة الطارئة، وتصرف بالشكل المهني اللائق، وأنقذ حيوات من كانوا على متن الطائرة.
تخلف حالات تحطم الطائرات وراءها أسئلة محيرة حول رؤية البشر ومدى إدراكهم مسألتي التطور والتميز. وعموماً، يعتقد غالبية سكان الأرض أن الكمال العلمي تحقق، وأننا نشهد، يوماً بعد يوم، عروضاً تكنولوجية مذهلة. وبالنسبة لكثيرين، لم تعد الفجوة بين الخيال العلمي والحقيقة العلمية قائمة، إلا أن هذه التفنيدات المذهلة كالإبحار الرائع (super cruising) أو الطيران الجوي المذهل (hyper-romanticized aviation) أبانت عن حقيقة موضوعية كبيرة، تؤكّد أننا لم نصل بعد إلى تحقيق ذلك. وعلى الرغم من أننا لا يمكننا أن نُسائل بشكل كلي بعض الكوارث، إلا أنها تذكّر البشر بأنه مع ضخامة كوكب الأرض، يبقى التطور التكنولوجي محدوداً جداً. مع ذلك، لا يجب علينا التقليل من شأن السرعة التي صدرتتم بها هذه الاكتشافات التكنولوجية، ويبقى الذكاء الإنساني فوق كل اعتبار، مهما كانت الظروف.
المصدر : alaraby