جدلية الأنا والآخر: قراءة في معلقة طرفة بن العبد
- يستقبل غناء القينة على أنه بكاء نياق متجاوبة على ولدها .
- ما يحول دون اندماج طرفة في قبيلته، هو أنه صاحب فلسفة خاصة، تشتمل على مبادئ ثلاثة .
- ويوظف الشاعر عقيدته في الموت الذي لا بعث بعده في التعبير عن يأسه من الخير.
- إن حزن الشاعر على نفسه شديد لأنه يدرك تميزه وتعاليه ولذلك يريد أن يكون موته مختلفاً .
- كان التضاد الأساسي بين الشاعر والآخر في هذه القصيدة يرجع إلى اختلاف هموم كل منهما .
****************
تحاول هذه القراءة استكناه صور الجدل بين الأنا والآخر في معلقة طرفة بن العبد، من خلال رصد المكونات الدلالية للعلامات اللغوية الرئيسة، والكشف عن العلاقات المتشابكة بينها، على ضوء مفاهيم التزامن والثنائيات الضدية. وتتيح معلقة طرفة هذه الدراسة، ففضلاً على طول هذه القصيدة، التي تزيد أبياتها عن مائة بيت، تبرز فيها أنا الشاعر الجاهلي المتوارية في أكثر الشعر الجاهلي خلف النظام القبلي، مما يوجد في هذه المعلقة أصواتا متعددة (بوليفونية) ، وإن تم عرضها من خلال رؤية الشاعر ؛ مما يمكن معها اقتراح الجدل بين الأنا والآخر باعتباره البنية أو النسق الذي يحكم مجموعة العناصر التي تشكل هذا العمل الأدبي . فالبنية تصور عقلي يرجع إلى الناقد، تعينه عليه طبيعة العمل الأدبي، يحقق الناقد معه عن طريق الكشف عن العلاقة بين العناصر أو الأجزاء، وحدةَ العمل الأدبي . وعلى الرغم من ثبات البنية وبقاء نسقها، إلا أنها قد تخضع لسلسلة من التحولات لها قوانينها الخاصة التي تزيد من ثرائها . (1)
يشتمل الفضاء الشعري للمعلقة على صور متعددة لجدل الأنا والآخر أولها :
1 - جدل الأنا المتعالية والقبيلة :
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عُنيت فلم أكسل ولم أتبلد
ولست بحلاّل التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد(2)
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
وإن يلتق الحيّ الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصمِّد
نداماى بيض كالنجوم وقينة
تروح علينا بينُ برد ومجسد
رحيب قطاب الجيب منها رقيقة
بجسِّ الندامي بضة المتجرد(3)
إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا
على رسلها مطروقة لم تشدد
إذا رجّعت في صوتها خلت صوتها
تجاوب أظآر على رُبع ردي(4)
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد
فنجد النسيج الداخلي للأبيات تتقاسمه ثنائية متضادة رئيسة هي القوم والفتى، إذ يقدم لنا البيت الأول القبيلة في صيغة التعريف (القوم) والفتى، في حين تبدو أنا الشاعر غارقة في التنكير (فتى) ولهذا دلالات متعددة واضحة، نشير منها إلى أن أنا الشاعر لم يكن لها حتى زمن البيت السابق التميز الكافي لتعريفها، وإنما تكتسب تميزها - لتكافئ تعريف القبيلة- بتراكم الأوصاف لها، حتى إذا اكتمل تميزها أخذت زمام المبادرة إلى الظهور في البيت الثاني، إذ يسبق وجودها فيه وجود القوم . ويلاحظ أن صورة الأنا تحاول التضخم من خلال القيم القبلية التي تشكل ثقافة المجتمع لكي يكتمل لها كيان مستقل فيما بعد يوضع بإزاء القبيلة وبينما يبدو حرص الشاعر على التكيف مع العالم القبلي من سرعة استجابته لقبيلته التي يعكسها استخدام حرف العطف الفاء، يبدو أيضاً الحرص على تميز الذات (خلت أنني عنيت) .
وتسهم صور العلو في رفد الأنا وتكريس تميزها عن القبيلة : العلو المعنوي – بالعطاء في البيت الأول، وفي الشطر الثاني من البيت الثاني : متى يسترفد القوم أرفد، فللشاعر اليد العليا على قومه، وتلك أفضلية مقررة في الثقافة العربية، والعلو المادي في قوله (ولست بحلال التلاع مخافة) فالشاعر لا ينفي بعده أو تعاليه في المكان ، وإنما ينفى عن نفسه الخوف من طلب عطائها، وفي ذلك إعلاء لذاته فضلاً على أن هذه السكنى بعيداً عن القوم تحفظ لذاته استقلالها، ومن صور العلو أيضاً قوله (… تلاقني إلى ذروة البيت الشريف المصمَّد) وفيها تميز الشاعر عن قبيلته بعلو نسبه علواً مطلقاً، والنسب من أهم مقومات السيادة في الثقافة العربية، وكذلك قول الشاعر : نداماي بيض كالنجوم ..) فالبياض شرف وارتفاع، تصلح للتعبير عنه النجوم فهي أيضاً – متعالية وتتحكم في مصير البشر في الفكر العربي الجاهلي .
ويبدو الشاعر من خلال قوله :
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
مطلوباً في القلب من حلقة القوم، يصرف شؤون القبيلة، وفي القلب من الحوانيت، يشبع ذاته، ويكرس فرديتها . فأنا الشاعر موزعة متقاسمة بين الانتماء للقبيلة، والانتماء لنفسها . وتلك هي المشكلة في وجه مهم من وجوهها، فالنظام القبلي وقتذاك، كان يريده - شأن سائر أفراد القبيلة – ملكاً خالصاً لقبيلته ، وتبدو الصورتان " نداماي بيض كالنجوم " ، " في حلقة القوم تلقني " ـ على ضوء رمزية الشكل الدائري ـ متساويتان في الدلالة على تعاليه وتفّرده وبعده عن الأرض .
واعتمد الشاعر خلال المقطع السابق – في تصوير علاقاته بقبيلته على أسلوب الشرط، ليدل على التكرار، وتلازم الشرط والجواب يفيد الحتمية والثبات على هذا النحو من العلاقة، والأهم من ذلك أن الشرط قائم على الافتراض، فيبدو أن ذلك كله مما يدور في ذهن الشاعر ويشكل تصوراته .
ثم تظهر محاولة الشاعر الأولى – الفاشلة كما سيتضح لنا لإقامة مجتمع بديل عن قبيلته ذلك هو مجتمع الحانة، ونجده يتحدث بضمير الجمع لأول مرة في القصيدة، ولكن ضمير الجمع هنا ذو طبيعة خاصة فإنه يرتبط بالمجتمع الخاص الذي أقامه الشاعر ليشبع ذاتيته (قلنا – أسمعينا – انبرت لنا)، ويشير استعماله إلى اتفاقه هو ورفاقه وتعاقدهم الظاهر، ولكن الصورة التشبيهيه في قوله :
إذا رجَّعت في صوتها خلت صوتها
تجاوب أظآر على ربع ردى
تفضح تميزه، فإذا كان المشبه خارجياً متفقا عليه من مجتمع الحانة، فإن المشبه به يمتاح من داخل الشاعر، ويكشف استجابته المتميزة لذلك المؤثر السابق، فإنه يستقبل غناء القينة في ذلك المشهد الجاهلي البهيج على أنه (تجاوب أظآر على ربع ردي) بكاء نياق متجاوبة على ولدها الردى، ويكشف سر هذا الحزن قوله في البيتين بعده : (وما زال تشرابي … إلى أن تحامتني العشيرة كلها، وأفردت إفراد البعير المعبد) . فإن إصرار الشاعر على ذاتيته، الذي فرط بسببه في تراث قبيلته (وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي)، يتكرس بعده إفراد الشاعر ونفيه عن قبيلته . فيتأكد ما سبق ظهوره من تناسب عكسي بين الانتماء للذات والانتماء للقبيلة كما تظهر الثنائية المتضادة (القرب × البعد)، والتي ستشغل فضاء القصيدة فيما سيأتي من أبيات أكثر مما مضى، ويلاحظ أن موقف القبيلة الحاسم بإبعاد الشاعر يأتي في إطار الزمن الماضي (تحامتني العشيرة كلها وأفردت ….) ولذلك ربما كان يصلح بداية للصورة الشعرية في الأبيات السابقة .
2- جدل الأنا والآخر (الموت) .
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد(5)
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الطراف المعمد(6)
كريم يروى نفسه في حياته
ستعلم إن متنا غدا أيُّنا الصدى
أرى قبر نحام بخيل بماله
كقبر غوى في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزاً ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكا لطول المرخى وثنياه باليد