|
|
| |
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قنديل أم هاشم 27/2/2010, 15:19 | |
| 11 هرب إسماعيل من الدار, لم يستطع الإقامة فيها وفاطمة أمامه, وعماها دليل على عماه. عيون أبيه وأمه تلومانه. ما الذي حدث? لماذا أخفق? إنه لا يفهم شيئًا. أين يذهب? لم يبدأ بعد عملاً, ولا هو بقادر ولا راغب في الالتجاء للحكومة لتعيينه في إحدى القرى النائية. باع كتبه وبعض الأدوات التي أحضرها معه من أوربا, وسكن في غرفة ضيقة في بنسيون مدام إفتاليا, وهي سيدة يونانية بدينة أخذت تستغله منذ أول وقوعه في يدها حتى لتكاد تضع في كشف الحساب تحية الصباح, أو تستقضيه خطوتها إذا قامت وفتحت له الباب. حاسبته مرة على قطعة سكر استزادها في إفطار. يحس بابتسامتها أصابع تفتش جيوبه. أهداها بعض الفطائر والسجائر فأخذتها نهمة متلهفة, وفي الصباح سألته ألا يطيل السهر في غرفته حرصًا على الكهرباء. لا شك في أن الإفرنج في مصر من طينة أخرى غير التي رآها في أوربا. كان يحبس نفسه في غرفته, فطردته هذه المعاملة إلى الشوارع يجوبها من الصباح إلى منتصف الليل. وفي كل ليلة يجد نفسه - ولا يدري كيف - وسط ميدان السيدة يجوب حول داره, يتطلع إلى نوافذها, يريد أن يرى وجه فاطمة أو يسمع صوتها. فاطمة ضحيته, ومع ذلك لم تثر... لم تشك... لم تلمه. أسلمت إليه نفسها عن رضا فأوردها التلف, فما قالت لذابحها تريث. وهكذا يظل واقفًا في الميدان, ساعات طويلة, سارح الذهن شارد اللب, تتسرب إلى أذنه النداءات القديمة. هي هي لم تتغير, ماذا? لعل كل والد أورث ابنه مهنته وصوته وموضعه في الميدان: مساكين! كل مَن خدمهم مَنَّ عليهم واستعجلهم الجزاء أضعافًا مضاعفة. لم يخدمهم أحد لله أو حبًّا فيهم, ومع ذلك جروا وراء كل من توهموا فيه الإخلاص وتشبثوا بأذياله, ورفضوا أن يروا ضعفه أو خيانته. هذا شعب شاخ فارتد إلى طفولته. لو وجد من يقوده لقفز إلى الرجولة من جديد في خطوة واحدة, فالطريق عنده معهود والمجد قديم, والذكريات باقية. تساءل إسماعيل: هل في أوربا كلها ميدان كالسيدة زينب? هناك أبنية ضخمة جميلة, وفن راق, وأناس وحيدون فرادى, وقتال بالأظافر والأنياب, وطعن من الخلف واستغلال بكل الوسائل. مكان الشفقة والمحبة عندهم بعد العمل وانتهاء النهار, يروحون بهما عن أنفسهم كما يروحون عنها بالسينما والتياترو. ولكن. لا. لا. لو أسلم نفسه لهذا المنطق لأنكر عقله وعلمه. من يستطيع أن ينكر حضارة أوروبا وتقدمها, وذل الشرق وجهله ومرضه? لقد حكم التاريخ ولا مردّ لحكمه, ولا سبيل إلى أن ننكر أننا شجرة أينعت وأثمرت زمنًا, ثم ذوت. يفر إسماعيل من الميدان إلى غرفته, ويقضي ليلته يفكر كيف يهرب لأوربا من جديد, ولكنه لا يلبث أن يعود إلى موقفه المعهود بميدان السيدة في مساء الليلة التالية.
|
| | | عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قنديل أم هاشم 27/2/2010, 15:20 | |
| 12 وجاء رمضان, فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو, في الهواء, في المخلوقات, في الجمادات كلها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديدًا. علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف. يحدث إسماعيل نفسه: لماذا خاب? لقد عاد من أوربا بجعبة كبيرة محشوة بالعلم, عندما يتطلع فيها الآن يجدها فارغة, ليس لديها على سؤاله جواب. هي أمامه خرساء ضئيلة, ومع خفّتها فقد رآها ثقلت في يده فجأة. ودار بعينيه في الميدان. وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها, وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه. ما يظن أن هناك شعبًا كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين. "ابن البلد" يمر أمامه كأنه خارج من صفحات "الجبرتي". اطمأنت نفس إسماعيل وهو يشعر بأن تحت أقدامه أرضًا صلبة. ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى, بل شعب يربطه رباط واحد: هو نوع من الإيمان, ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره. وعندئذ بدأت تنطق له الوجوه من جديد بمعان لم يكن يراها من قبل. هنا وصول فيه طمأنينة وسكينة والسلاح مغمد. وهناك نشاط في قلق وحيرة, وجلاد لا يزال على أشده والسلاح مسنون. ولم المقارنة? إن المحب لا يقيس ولا يقارن وإذا دخلت المقارنة من الباب, ولى الحب من النافذة. وحلت ليلة القدر. فانتبه لها إسماعيل, ففي قلبه لذكراها حنين غريب. ربي على إجلالها والإيمان بفضائلها, ومنزلتها بين الليالي, لا يشعر في ليلة أخرى - حتى ولا ليالى العيد - بمثل ما يشعر به من خشوع وقنوت لله. هي في ذهنه غرة بيضاء وسط سواد الليالي. كم من مرة رفع فيها بصره إلى السماء فبهره من النجوم جمال لا يراها تنطق به بقية العام. وغاب لحظة عن أفكاره, فإذا به ينتبه على صوت شهيق وزفير عميقين يجوبان الميدان. هذا هو سيدي العتريس ولا ريب رفع بصره. القُبّة في غمرة من ضوء يتأرجح يطوف بها. انتفض إسماعيل من رأسه إلى أخمص قدميه. أين أنت أيها النور الذي غبت عني دهرًا? مرحبًا بك! لقد زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعيني. وفهمت الآن ما كان خافيًا عليّ. لا علم بلا إيمان. إنها لم تكن تؤمن بي, إنما إيمانها ببركتك أنت وكرمك ومَنِّك. ببركتك أنت يا أم هاشم. ودخل إسماعيل المقام مطأطئ الرأس فأبصره يرقص عليه ضوء خمسين شمعة زينت جوانبه, والشيخ درديري يتناولها واحدة واحدة من فتاة طويلة القامة سمراء اللون, جعدة الشعر. هي نعيمة! قد زال انطباق شفتيها وبدت لها أسنان. وإن تكلمت فصف من أسنان بيض كاللؤلؤ. تكفي النظرة إليها أن تنسي وجود كل قبيح. لقد صبرت وآمنت, فتاب الله عليها, وجاءت توفي بنذرها بعد سبع سنوات. لم تقنط, ولم تثر, ولم تفقد الأمل في كرم الله. أما هو - الشاب المتعلم, الذكي المثقف - فقد تكبر وثار وتهجم وهجم, وتعالى فسقط. ورفع إسماعيل بصره, فإذا القنديل في مكانه يضيء كالعين المطمئنة التي رأت, وأدركت, واستقرت. خيل إليه أن القنديل. وهو يضيء, يومئ إليه ويبتسم. وجاءه الشيخ درديري يسأله عن صحته وأخباره, فيميل عليه إسماعيل يقول: - هذه ليلة مباركة يا شيخ درديري, أعطني شيئًا من زيت القنديل. - والله أنت بختك كويس. دي ليلة القدر? وليلة الحضرة كمان. وخرج إسماعيل من الجامع وبيده الزجاجة وهو يقول في نفسه للميدان وأهله: - تعالوا جميعًا إليّ! فيكم من آذاني, ومن كذب عليّ, ومن غشّني, ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم, فأنتم مني وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي .. أنا ابن هذا الميدان. لقد جار عليكم الزمان, وكلما جار واستبد, كان إعزازي لكم أقوى وأشد. ودخل الدار ونادى فاطمة: - تعالى يا فاطمة! لا تيأسي من الشفاء. لقد جئتك ببركة أم هاشم! ستجلي عنك الداء, وتزيح الأذى, وترد إليك بصرك فإذا هو حديد... وشدّ ضفيرتها واستمر يقول: - وفوق ذلك, سأعلمك كيف تأكلين وتشربين, وكيف تجلسين وتلبسين, سأجعلك من بني آدم. وعاد من جديد إلى علمه وطبه يسنده الإيمان. لم ييأس عندما وجد الداء متشبثًا قديمًا, يجادله بعناد ولا يتزحزح. ثابر واستمر ولاحت بارقة الأمل. ففاطمة تتقدم للشفاء على يديه يومًا بعد يوم, وإذا بها تكسب في آخر العلاج ما تأخرته في مبدئه, فهي تقفز أدواره الأخيرة قفزًا. ولما رآها ذات يوم أمامه سليمة في عافية, فتش في ذهنه وقلبه عن الدهشة التي كان يخشاها, فلم يجدها. |
| | | عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قنديل أم هاشم 27/2/2010, 15:21 | |
| 13 وافتتح إسماعيل عيادته في حي البغالة بجوار التلال, في منزل يصلح لكل شيء إلاّ لاستقبال مرضى العيون. الزيارة بقرش واحد لا يزيد. ليس من زبائنه متأنقون ومتأنقات, بل كلهم فقراء, حفاة وحافيات, والغريب أن شهرته استقرت في القرى المجاورة للقاهرة دون القاهرة ذاتها, فاكتظت داره بالفلاحين والفلاحات, يجيئون بهدايا من البيض والعسل والبط والدجاج. كم من عملية شاقة نجحت على يديه, بوسائل لو رآها طبيب أوربا لشهق عجبًا. استمسك من علمه بروحه وأساسه, وترك المبالغة في الآلات والوسائل. اعتمد على الله, ثم على علمه ويديه, فبارك الله في علمه ويديه. ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان , وإنما قصد أن ينال مرضاه الفقراء شفاءهم على يديه. وتزوج إسماعيل فاطمة, وأنسلها خمسة بنين وست بنات. وكان في آخر أيامه ضخم الجثة, أكرش, أكولا نهما, كثير الضحك والمزاح والمرح, ملابسه مهملة, تتبعثر على أكمامه وبنطلونه آثار رماد سجائره التي لا ينفك يشعل جديدة من منتهية. وأصيب بالربو, فاحتقن وجهه وتندى العرق على جبينه, وانقلب تنفسه إلى نوع من الموسيقى. وأصبح من يشاهده لا يدري أهو متعب أم مستريح. فلما احتبست ضحكاته في حلقه, اجتمعت في عينيه, فليس هناك عيون أقوى على التعبير من عيون المصدورين يكاد يقفز منها إليك شيطان لعوب, كلها حب وفهم, فيها خبث وطيبة, وتسامح وإعزاز, وكأنها تقول لك قبل كل شيء: - ليس كل ما في الوجود أنا وأنت, هناك جمال وأسرار ومتعة وبهاء. السعيد من أحسها, فعليك بها عليك... إلى الآن يذكره أهل حي السيدة بالجميل والخير, ثم يسألون الله له المغفرة. مم? لم يفضِ إليّ أحد بشيء, وذلك من فرط إعزازهم له. غير أنني فهمت من اللحظات والابتسامات أن عمي ظل عمره يحب النساء, كأن حبه لهن مظهر من تفانيه وحبه للناس جميعًا. رحمه الله
[ 1939 - 1940 ] |
| | | رأفت الجندى المدير الإداري
العمر : 65 عدد الرسائل : 9511 بلد الإقامة : الفيوم احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 13230 ترشيحات : 29 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قنديل أم هاشم 27/2/2010, 18:45 | |
| |
| | | بروسلي عضو متقدم
العمر : 33 عدد الرسائل : 692 بلد الإقامة : الفيوم احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 6938 ترشيحات : 5 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قنديل أم هاشم 4/4/2010, 18:30 | |
| شكرا لكى تحياتى/بروسلى الفيوم |
| | | عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| | | | يسرى محمد جاد مراقب عام
العمر : 63 عدد الرسائل : 5625 بلد الإقامة : جمهورية مصر العربية احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 10704 ترشيحات : 62 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قنديل أم هاشم 15/4/2010, 03:46 | |
| تسجيل حضور وإثبات اننى متابع
بكل شغف ومتمتع بالقصة
ولكن ردى وشكرى اطلب تاجيله
لحين اصلاح العيب القاتل بجهازى
شكر وتقديرى لأختى الفاضلة الاستاذة القديرة
عبير عبد القوى |
| | | |
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|