قدم الحاج (عثمان بابا) من قريته القابعة في وسط غابات الكاميرون عام 1812م ، وركب السفينة متوجها للديار المقدسة لتأدية فريضة الحج ، فخاضت سفينته عباب البحر وركبت موجة وراء موجة ، حتى وصلت للديار المقدسة ، وما إن وضعت قدميه مرفأ ميناء جدة إلا وانقض عليه شحاتينها من الأعراب يطلبون ما تطيب نفسه لإلقاءه لهم من فتات خبز أو دنانير فضة أو حتى ابتسامة ... ، ويقوم الحرس بدفع أولئك الشحاتين عن الحاج (عثمان) وينظرون إليه نظرة أمل ورجاء بتقدير جهودهم وألسنتهم تخاطبه بكل أدب (كل سنة وأنت طيب يا أبويا) ، فيطنش الحاج (عثمان) رزالة الحرس وجشع الشحاتين الأعراب ، ويقوم بركب راحلة فاخرة متوجها إلى مكة المكرمة لتأدية مشاعر الحج ...
بعد ان انتهى الحاج (عثمان) من حجه وزيارته للمدينة المنورة ذهب للميناء كي يعود للكاميرون ولكنه لم يجد أي سفينة تنقله إلا بعد شهرين من الزمان ، فقرر أن يبقى في مدينة جدة وأن يشتري منزلاً فخماً في أرقى أحياء جدة آنذاك (الكرنتينة) وهي ضاحية قرب الميناء يسكن فيها رجال الأعمال ، وصادف أن وجد حجاجاً من اندونيسيا والمغرب وكثير من حجاج الدول الأفريقية الأخرى قاموا بشراء منازل بجواره ، فحدثت جيرة مباركة وتناسب الناس فيما بينهم وتناسوا ديارهم التي قدموا منها ، فجدة آنذاك كانت غير حيث الخدمة (فايف ستارز ) من الأعراب ، والاحترام المبالغ فيه من الحكام ....
مرت السنوات والأجيال وحدثت تغييرات كبيرة في مجتمع (الكرنتينة ) حيث مات الحاج (عثمان بابا ) وأورث أبناءً غلب عليهم الدلع والكسل والرفاه المبالغ فيه ، وعند دخول الملك عبدالعزيز الحجاز قام أغلب سكان جدة بمبايعته إلا ضاحية (الكرنتينة ) لأن عمدة الحارة (ادريس عثمان بابا) طلب عقد مفاوضات مستقلة بينه وبين الملك عبدالعزيز لأنه ليس من مواطني جدة بل من ضيوف بيت الله الذين بقوا في جدة دعماً للاقتصاد آنذاك ، فتركهم الملك عبدالعزيز في وضعهم ذلك وآثر الانصراف لما هو أهم...
بعد استقرار الامور بيد الحكم السعودي قام رجال الشرطة بحمل أكياس تحوي وثائق (التابعية) السعودية أي بطاقة الأحوال لتوزيعها على سكان الحجاز ، فعندما مروا بالكرنتينة طردهم خدام أسرة (آل عثمان بابا) ورفضوا مجرد النظر لتلك التابعيات أنفة وعزة ....
مرت السنوات الطويلة وبعثر ( آل عثمان بابا) الفلوس التي ورثوها عن آبائهم وكثرت زيارات الأهل من الكاميرون ومصر والمغرب واليمن وغيرها لهم ، بل والبقاء عندهم إما للعمل أو للتزاوج والتناسل ، فكثر الفقر بينهم ، فتحولت الكرنتينة من حي للطبقات الراقية إلى حي فقير لا يسكنه إلا فقراء الحجيج الذي يهربون من السلطات العامة.. ، وبعد تلك السنين تيقظ (آل عثمان بابا) وتوجهوا للملك فيصل رحمه الله معترفين بالتابعية ومبشرينه بقبلوهم إياها ولم يستطيعوا مقابلته وقابلوا أحد البطانة الذي ضحك عليهم كثيراً وقال اتركوا عناوينكم وسنتصل عليكم لاحقاً ، وتكررت زيارات (آل عثمان بابا) لدوائر الدولة وقد أعطت الدولة بعضهم التابعية السعودية والبعض الآخر تم ترحيله ...
مرت السنوات وأزداد الفقر في الكرنتينة وهجرها أعرق سكانها الذين إما دخلوا العسكرية أو أصبحوا لاعبي كرة قدم ومن لم يتوفق بقي في الحارة يتأوه على الماضي التليد ويندم على (عنطزة) الأجداد ويجهز أكياس اللوز والفصفص والغورو لبيعها أمام المدارس والمساجد...
وبما أن الكرنيتنة كانت أرض عزة وكرامة لم تطئها قدم رجل أمن أو بلدية (هيبةً) لأل عثمان منذ غابر العصور، وبالتالي فهي لم تشهد نقلة نوعية كما في الحارات الأخرى بل بقيت بدائية كما بناها آل عثمان وأنسابهم ، فلا خدمات ولا مقومات للحياة الكريمة بل أصبحت مع مرور الزمن وكراً لتجار المخدرات والدعارة الرخيصة وجرائم الاختطاف والقتل وغير ذلك .
استمرت بيوت الكرنتينة مستباحة للأعمال غير المشروعة إلا أن بيت الحاج (عثمان) الآثري بقي شامخاً كما كان وسكنه أحفاده وأحفاد أحفاده ، وبقيت الحاجة (خديجة) المرأة المكافحة والتي امتهنت بيع اللوز البقري حتى كانت أشهر (الحجّات )في منطقة جنوب جدة ، تمارس طقوساً غريبة بوقوفها لمدة خمس دقائق أمام صورة للحاج عثمان صورها له أحد المستشرقين الذي قدموا للحجاز في القرن التاسع عشر لقراءة بعض سور القرآن الكريم على روحه ....
وفي الأسبوع الماضي وبالتحديد في أيام الحج الأكبر 2009م هطلت أمطار عجيبة على مدينة جدة وسالت على اثرها الأودية والشعاب واهتزت أركان الحواري القديمة ومنها الكرنتينة والتي دخل الماء لكل شبر في مبانيها فهوت أغلب البيوت القديمة ومنها بيت (آل عثمان) وغرق الكثير من سكان الحارة رحمهم الله ، ولكن المفارقة الغريبة والتي أدهشت الجميع هي أن جدار المنزل الذي تعلق فيه صورة الحاج (عثمان) بقي شامخاً في وسط حارة منهارة ، ولم يتم العثور على جثة الحاجة خديجة رحمها الله حتى الآن....
منقول