الغموض في النص الأدبي
على هذا الرابط مقال لي نشرته مجلة الرافد في عددها الصادر في إبريل 2011 بعنوان
الغموض في النص الأدبي
اللغة بوصفها لازمة للوضوح والإبهام معاً
http://www.arrafid.ae/f1_4-2011.html
الغموض في النص الأدبي
اللغة بوصفها لازمة للوضوح والإبهام معاً
الدكتور
عصام محمود أحمد
يمثل الغموض في النص الأدبي عاملاً مهماً للتأثير في المتلقي لما يحمله من مزايا تشحذ عقله وتدفعه للتفكير والمشاركة الإيجابية الفعالة، وبداية نتوقف أمام ما تعنيه لفظة «الغموض» في اللغة، وذلك لكونها نقطة مهمة لازمة في توضيح هذا الأمر كما يجب التفرقة بين لفظتين تبدوان متشابهتين وهما (الغموض والإبهام).
أولاً: الغموض
أشارت المعاجم العربية القديمة إلى الغموض من خلال استخداماته اللغوية المختلفة، فيقول صاحب لسان العرب: «ومُغْمِضاتُ الليلِ دَياجِير ظُلَمِه وغَمُضَ يَغْمُضُ غُمُوضاً وفيه غُمُوض... والغامِضُ من الكلام خلافُ الواضح... والغامِضُ من الرجال الفاتِرُ عن الحَمْلة... ويقال للرجل الجيِّدِ الرأْي قد أَغْمَضَ النظر ابن سيده وأَغْمَضَ النظر إِذا أَحْسَنَ النظر أو جاء برأْي جيِّد وأَغْمَضَ في الرأْي أَصابَ ومسأَلة غامِضةٌ فيها نَظر ودِقّةٌ ودارٌ غامِضةٌ إِذا لم تكن على شارع... وحَسَبٌ غامِض غير مشهور ومعنىً غامِضٌ لطِيف»(1)، فالغموض فيه لطف والمسألة الغامضة هي التي تحمل في طياتها النظر والدقة.
هذا في اللغة العربية أما الإنجليزية ففي Oxford Word power فتعني كلمة (Ambiguity) «الغموض هو ما يمنح الفهم من أكثر من طريق أو تعدد احتمالات المعنى»(2)، كمــا يحمــل مصطـلح (Figure of speech) في الإنجليزية المعاصرة معنى اللــغة المجازية، «وهي تعني تلك اللغة التي تمثل المستوى الفني والجمالي المتصل بالدلالات والرموز المرتبطة بالأعمال الإبداعية(3).
ثانياً: الإبهام
أما عن الإبهام فيقول ابن منظور عنه: «وقال الزجاج في قوله عز وجل: }أُحِلَّتْ لكم بَهِيمة الأَنْعامِ{ وإنما قيل لها بَهِيمةُ الأَنْعامِ لأَنَّ كلَّ حَيٍّ لا يَميِّز فهو بَهِيمة لأَنه أُبْهِم عن أَن يميِّز ويقال:أُبْهِم عن الكلام وطريقٌ مُبْهَمٌ إذا كان خَفِيّاً لا يَسْتَبين ويقال ضرَبه فوقع مُبْهَماً أَي مَغْشيّاً عليه لا يَنْطِق ولا يميِّز ووقع في بُهْمةٍ لا يتَّجه لها أَي خُطَّة شديدة واستَبْهَم عليهم الأَمرُ لم يدْرُوا كيف يأْتون له واسْتَبْهَم عليه الأَمر أَي استَغْلَق وتَبَهَّم أَيضاً إذا أُرْتِجَ عليه وروى ثعلب أَن ابن الأَعرابي أَنشده
أَعْيَيْتَني كلَّ العَياِء فلا أَغَرَّ ولا بَهِيم
قال يُضْرَب مثلاً للأَمر إذا أَشكل لم تَتَّضِحْ جِهتَه واستقامَتُه ومعرِفته وأَنشد في مثله:
تَفَرَّقَتِ المَخاضُ على يسارٍ فما يَدْرِي أَيُخْثِرُ أَم يُذِيبُ
وأَمرٌ مُبْهَمِ لا مَأْتَى له واسْتَبْهَم الأَمْرُ إذا اسْتَغْلَق فهو مُسْتَبْهِم وفي حديث عليّ كان إذا نَزَل به إحْدى المُبْهَمات كَشَفَها، يُريدُ مسألةً مُعضِلةً مُشْكِلة شاقَّة، سمِّيت مُبْهَمة لأَنها أُبْهِمت عن البيان فلم يُجْعل عليها دليل، ومنه قيل لِما لا يَنْطِق بَهِيمة وفي حديث قُسٍّ: تَجْلُو دُجُنَّاتِ الدَّياجي والبُهَم، البُهَم: جمع بُهْمَة بالضم وهي مُشكلات الأُمور وكلام مُبْهَم لا يعرَف له وَجْه يؤتى منه، مأخوذ من قولهم حائط مُبْهَم إذا لم يكن فيه بابٌ. ابن السكيت: أَبْهَمَ عليّ الأَمْرَ إذا لم يَجعل له وجهاً أَعرِفُه، وإبْهامُ الأَمر أَن يَشْتَبه فلا يعرَف وجهُه وقد أَبْهَمه، وحائط مُبْهَم لا باب فيه، وبابٌ مُبْهَم مُغلَق لا يُهْتَدى لفتحِه إذا أُغْلِق»(4)، والإبهام هنا يحمل الاستغلاق عن الفهم، والتخبط لانعدام وضوح الهدف، فالإبهام أشد من الغموض لعدم وجود هدف يذهب إليه الإنسان.
وقد استخدم سيبويه(ت 180هـ) مصطلح اللبس في كتابه (الكتاب) للدلالة على الغموض الناشئ عن وجود لفظ يحتمل أكثر من معنى أو دلالة أو تركيب يؤدي إلى الغموض عند السامع، يقول سيبويه: «ولا يبدأ بما يكون فيه اللبس، وهو النكرة. ألا ترى أنك لو قلت: كان إنسان حليماً أو كان رجل منطلقاً، كنت تلبس، لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا إنسان هكذا، فكرهوا أن يبدؤوا بما فيه اللبس ويجعلوا المعرفة خبراً لما يكون فيه هذا اللبس.... وينبغي لك أن تسأل عن خبر من هو معروف عنده (يقصد السامع)كما حدثته عن خبر من هو معروف عندك بالمعروف، وهو المبدوء به»(5)، وكان سيبويه يقصد هنا بأن الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة لكي يصح السؤال عنه، وإذا لم يكن المبتدأ معرفة وقع الغموض في الكلام، وترتب عليه عدم فهم السامع.
على الرغم من أهمية اللغة بالنسبة للإنسان كأفضل وسيلة للدلالة على الأفكار، والتعبير عن المشاعر والرغبات فإن هناك أسباباً عدة تؤدي إلى غموض اللغة، وحدوث الإبهام عند المتلقي في فهمه للمراد من الكلام؛ ونستطيع أن نرجع أسباب الغموض في المعنى إلى هذه الأسباب:
1ـ الغموض من جانب المتكلم:
هو ما قد يقع الشخص فيه بسبب مشكلة في جهازه الصوتي، وهو الذي يحدث فيه تداخل في مخارج الحروف عنده، أو خروج حرف مكان حرف آخر، أو أن يكون هذا الشخص يعاني من صعوبة نطق بعض الحروف مما ينتج عنه لبس في فهم المراد منه، أو الفهم عن طريق الخطأ للمعنى الذي يريده المتكلم، وربما يصل الأمر إلى الغموض التام في فهم المراد من الكلام، وهو غموض غير متعمد من قبله، أو قد يتعمد المتكلم ذلك الغموض في محاولة منه للهروب من موقف ما، أو تجاهل أو لقلق وتوتر أو خجل، ويدخل في هذا النوع من الغموض أحد فنون البلاغة وهو التورية، «ومثال ذلك ما جاء في السيرة النبوية عندما كان النبي وأصحابه في الطريق إلى بدر للقاء القافلة التي يقودها أبو سفيان بن حرب وكان حريصاً على السرية المطلقة حتى لا يعلم أبو سفيان بخروجه إليه فلقيهم أعرابي فسأل: ممن القوم؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم مورياً وصادقاً نحن من ماء، ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: ما من ماء، أمن ماء العراق؟» (6)، ولم يهدف الرسول في هذا الموقف الجانب البلاغي مباشرة بل إنه استخدم إحدى سمات العربية في تجنب الكذب مع الحفاظ على أسرار جيشه.
2ـ غموض التركيب النحوي:
قد تكون الألفاظ المستخدمة في عبارة معينة واضحة ولا تحمل غموضاً، وقد لا يتعمد الشخص المتحدث الوقوع في الغموض ولكن على الرغم من ذلك تأتي العبارات غامضة بسبب التركيب النحوي، ومثال ذلك قول أبي نواس من الوافر:
أفرُ إليك منك وأين إلا إليك يفرُّ منك المستجيرُ
ويمكننا تقريب هذه الفكرة من خلال هذا المثال البسيط: (كتب الطالب الواجب الذي أمره به المدرس في المدرسة)، والمعنى هنا يحمل الغموض في طياته، فلا ندري هل كتب الطالب الواجب في المدرسة، أم أن الأمر من المدرس هو الذي كان في المدرسة، فالجملة هنا تحمل الاحتمالين معاً.
3ـ الغموض بسبب علامات الكتابة:
هو ما يحدث في وجود علامات الترقيم مثلاً، فنظام الكتابة في اللغات يختلف عن النظام الصوتي لها، فالحروف ما هي إلا وسيلة التعبير عن الأصوات ولا تختلف اللغة العربية في هذا عن غيرها، ونستطيع هنا أن نستخدم العلامات التي أعدت لقراءة القرآن الكريم مثل علامات الوقف والوصل فيقول سبحانه وتعالى:}ألَم ? ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ{(7)، فهنا ينفتح المجال للتأويل؛ فهل ـ لا ريب فيه ـ تعود بالمعنى إلى الكتاب أم تعود إلى هدى للمتقين، والمعنى بالطبع يختلف بحسب ما تعود عليه الكلمات في الآية الكريمة، إذ المعنى يحتمل الأمرين كذلك، وكذلك لو قلت (حضر محمد). فهي جملة خبرية تتكون من مبتدأ وخبر، أما إذا كانت الجملة نفسها (حضر محمد؟)فمع وجود علامة الاستفهام تغيرت الجملة من خبرية إلى استفهامية، وبدون تحديد العلامة إذا قرأت هذه الجملة في رسالة فقد يحدث اللبس فهل يقصد المرسل الإخبار عن حضور محمد أم يستفهم عن حضوره؟
4ـ الغموض البلاغي
من هذا النوع من الغموض أيضاً الغموض المتولد عن الأساليب البلاغية المختلفة؛ مثل أسلوب الالتفات والتشبيه والاستعارة والمجاز والتورية والكناية وغيرها، وهو ما يخلق نوعاً من تعدد احتمالات المعنى، فضلاً عن اتساع دائرة التأويل والتفسير الناجمة عن هذا الغموض، «فالغموض بهذا المعنى يشكل جوهر الشعر، وهو نتيجة أساسية تميز النص الشعري عن غيره، وتمنحه الخصوصية الفنية والجمالية»(
.
وفيه ما يطلق عليه من الألفاظ المشتركة أي التي تحمل أكثر من معنى؛ فإذا استخدمت كلمة في أكثر من معنى في السياق نفسه فإن هذا قد يؤدي إلى الغموض، ومن هذا النوع من الغموض أيضاً ما يعرف في علوم البلاغة «بالجناس»، كقوله تعالى }وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ{ (9)، فساعة الأولى بمعنى يوم القيامة، وساعة الثانية بمعنى مدة من الزمن.
والغموض في العمل الأدبي عنصر يمثل أهمية كبيرة، فهو عنصر لا غنى عنه فيه، والعمل الأدبي ـ منذ اللحظة الأولى التي تنبت في قلب المبدع وعقله وحتى وصول هذا العمل إلى المتلقي ـ عملية شديدة التعقيد في كل مراحله؛ وهذا ما قال به رينيه ويليك «إن العمل الأدبي الفني ليس موضوعاً بسيطاً، بل هو تنظيم معقد بدرجة عالية وذو سمة متراكبة مع تعدد في المعاني والعلاقات»(10)، فالتداخل الذي يحدث في العملية الإبداعية يجعل عملية تحديد المعنى بصورة تامة أمراً غير واقع الحدوث، «وعلى فرض أننا استطعنا أن نعين لب المعنى وجوهره بصورة لا يتطرق إليها الشك، فإن حدود هذا المعنى سوف تظل غامضة ومائعة، مع احتمال وجود حالات كثيرة من التداخل بين هذه الحدود» (11).
* الغموض في النقد الحديث
وأما عن مصطلح الغموض في النقد المعاصر، فيرجع الفضل فيه إلى الناقد والشاعر الإنجليزي وليام إمبسون (William Empson1906) في كتابه المعروف سبعة أنماط من الغموض (Seven Types of Ambiguity) الذي نشره عام 0391م، حيث عرّف الغموض بقوله:«كل ما يســمح لعدد من ردود الفعــل الاختيارية إزاء قطعة لغوية واحدة»(12)، وعلى الرغم من اهتمام William Empson ـ بالغموض في الأدب فإنه يرى أن «الغموض ليس مطلباً في حد ذاته وإذا لم يزد في فضل المعنى ويعلي من أثره في النفس فلا مسوغ له» (13).
هذا وقد حدد وليام إمبسون أنماط الغموض في سبعة أنواع، كما هو واضح من عنوان كتابه، ثلاث منها تتصل بالنص، وثلاثة أخرى تتصل بالمؤلف، والسابع يتصل بالعلاقة بين القارئ والنص»(14):
أولاً: الغموض الذي يتصل بالنص:
1ـ النوع الأول من الغموض الذي يتصل بالنص يحدث عندما يتضمن النص عدداً من التفاصيل التي تقدم أو تتحدث عن دلالات متعددة في آن واحد، ويتمثل ذلك في مقارنة عدد من الصفات بعضها ببعض، أو يتمثل في الاستعارات المعقدة، أو ما يوحيه الإيقاع أو الوزن من معانٍ مختلفة أو ما تحتوي عليه بعض أنواع النصوص من ألوان التهكم والسخرية.
2ـ أما النوع الثاني فيه فيتمثل في وجود تركيب نحوي في النص يسمح بتعدد التأويلات وهو ما يسمى بالتركيب النحوي المزدوج.
3ـ والنوع الثالث منه يقع حين يسمح النص بفهم معنيين مختلفين في آن واحد، ويتمثل في وجود بعض المفردات أو التراكيب ذات الصيغ العامة أو الدلالات المشتركة.
ثانياً: الغموض الذي يتصل بالمؤلف:
1ـ والنوع الرابع من أنواع التعقيد عند (William Empson) ويتمثل في عدد من التراكيب ذات المعاني المتبادلة التي تجسد نوعاً من التعقيد في تفكير المؤلف.
2ـ النوع الخامس، يحدث عندما تظهر في لغة المؤلف جمل وعبارات يختلط بعضها ببعض بصورة غير متوقعة؛ نتيجة لعدم تحكم الكاتب تحكماً تاماً في الفكرة التي يريد التعبير عنها، أو التعبير عنها أثناء تخلقها في ذهنه، ويظهر ذلك بوضوح في الكتابات التي تتعلق بعالم ما وراء الطبيعة.
3ـــ النوع السادس، يقع عندما تظهر في لغة المؤلف عدة تراكيب ذات معانٍ متناقضة أو متعارضة، مما يضطر القارئ إلى ابتكار أو وضع عدة تفاسير لها.
ثالثاً:الغموض الذي يتصل بالعلاقة بين القارئ والنص:
ويمثله النوع السابع عند (William Empson) ، وهو يتمثل في نوع من التعارض أو التناقض التام الذي يقع أحياناً في لغة الكاتب أو الشاعر وينبئ عن درجة من درجات التشتيت الذهني (15).
* الغموض في الأدب
وإذا كان هذا الغموض على مستوى العملية الإبداعية من حيث الإبداع والتلقي، وكذلك على المستوى اللغوي والبلاغي فإن الأمر يقع بالصورة نفسها في داخل العمل الأدبي ذاته؛ فسهولة العمل الأدبي تجعله يقف عاجزاً عن إحداث الأثر المطلوب في نفس المتلقي، وهذا يتوافق مع رأي ريتشاردز الذي يقول:«ولا شك أنه من المشكلات الصعبة مشكلة تفسير السبب الذي يجعل القصيدة تعجز عادة عن توليد أي أثر في نفوسنا حينما تبدو غاية الشاعر فيها واضحة أكثر مما ينبغي»(16)، أي أن الوضوح هنا أخرج القصيدة من حيز التأثير في المتلقي، فالمباشرة في الفن غير مقبولة، وليس مطلوباً منه أن يكون ناقلاً للحقيقة نقلاً تاماً، فهذا الأمر بعيد كل البعد عن وظيفة الفن، لذلك «فالفن عند السيكولوجيين مثير للحلم يفتح أمام العقل طرقاً ملأى بالوعود فيسير فيها مبهوتاً، ومن هنا يستحسن الغموض في الفن لأنه أشد إثارة للحلم»(17)، كذلك يعلق الهنداوي على موقف فاليري (*) في هذا الإطار قائلاً: «في الوقت الذي نرتد فيه عن بعض الآثار الفنية الواضحة كل الوضوح ضيقي الصدور مظلمي القلوب، تملأ نفوسنا بعض الآثار الغامضة روعة وجلالاً»(18)، فالوضوح التام في العمل الفني مثله في ذلك مثل الغموض التام الذي يستغلق معه العقل على الفهم والتواصل.
ويقرر أروين أدمان أن أهمية الغموض ليست في الشعر وحده بل في سائر الفنون الأخرى ويجعله من الأهمية بمكان في تحقيق سعادة دائمة للإنسان تستمر مادامت الحياة ذاتها مستمرة؛ ومن هنا فهو يبرر المعاناة من صعوبة الفن وغموضه بقوله:«حتى يبدو ما لاقيناه وكأنه لقاء مع الموسيقى أو التصوير أو الشعر، وعندئذ تكون الحياة عملاً خلاقاً وتذوقاً جمالياً مستمراً، ويصبح كل ما فعلناه فنّاً، وكل ما عانيناه تذوقاً ومتعة» (19).
أما الغموض الذي تعنى به الدراسة هنا فهو الغموض الذي تحدث عنه (William Empson) والذي يسمح بتعدد القراءات للنص الواحد لكنه في الوقت نفسه ليس مستغلقاً على الفهم، ويخرج من دائرة الغموض فيصل إلى درجة الإبهام التام، وهو الأمر الذي حذر منه دريد الخواجة قائلاً: «ليس ذلك الذي يصعب فتح أقفاله، وتخطي أسواره ليصل إلينا، بل هو السمة الطبيعية الناجمة عن آلية عمل القصيدة العربية وعناصرها المكونة من جهة، وعن جوهر الشعر الذي هو انبثاق متداخل من تضافر قوات عدة من الشعور والروح والعقل متسترة وراء اللحظة الشعرية»(20)، أي الغموض بوصفه خطاباً مختلفاً عن السائد المعتاد، للخطاب المباشر ـــ بما يملكه من طاقة إيحائية متجددة، تختلف عما اعتادت عليه الذائقة الثقافية، وتزيد النص دلالة ولذة، وبين الغموض المقفل (الإبهام التام) الذي يستعصي على الفهم، والذي يعتمد العلاقات الغريبة بين الألفاظ المعجمية، ولا يعتمد الجانب الفني الجمالي للغة الشعرية، ومن ثم فهذا الإبهام لا يمكن أن يمنحنا سوى شكل معقد من الألغاز التي يستعصي فك رموزها اللغوية والبلاغية.
والغموض المعني هنا هو ما شدك إلى حوار مع النص الأدبي الذي تتناوله، واستنفر مشاعرك ووجدانك وشحذت له عقلك حتى تتلاقى معه من خلال غموض يشمل النص كله؛ عباراته وخيالاته، وعاطفته وموسيقاه، ومن ثم فإن هذا الغموض النصي يتجسد في ثراء النص الإبداعي، وتعدد دلالاته وتنوع قراءاته، مما يخلق نوعاً من اللذة الحسية والمتعة الذهنية لما يحمله من خبايا النص الذي تحمله المفاجأة واللامتوقع أو اللامنتظر ـ الجديد الذي يصدم المتلقي ـ في صوره وجمالياته الفنية، وهذه الحال هي التي تخلق نوعاً من التواصل والألفة بين النص والقارئ الذي يتلقاه، وهو ما يجعله يشعر بأنه في حاجة ماسة إليه مهما يحمل هذا النص من الغموض كي يطفئ من خلاله لهيب شوقه ومشاعره، ويرضي طموحه الذهني المتعطش للجديد دائماً.
ومن هنا يبرز الدور الذي تقوم به الثقافة في مجال تلقي العمل الأدبي، والذي جعل رولان بارت يفرق بين النصوص بحسب ما تقدمه من جديد للمتلقي وبحسب درجة من يتلقى هذا العمل. ولذا، فإن الغموض في العمل الأدبي له دلالتان: دلالة جمالية يكون الغموض بموجبها فناً ملازماً للعمل الأدبي ولا غنى عنه، ودلالة لغوية يكون فيها إبهاماً وتعمية، وبهذا المفهوم يشكل الغموض ظاهرة فنية مرتبطة بالفن الإنساني، وبالفنان المبدع، مما يجعل المتلقي لهذا العمل الفني بحاجة حسية وفكرية ماسة من أجل فك رموز العمل الفني، وتفسير دلالاته، وتحديد قراءاته، لكي يقف المتلقي على طبيعة العمل الفني وجوهره، وهذه الحال تشكل قمة اللذة الحسية والمتعة الذهنية عند المتلقي، كما أنها تجسد غاية المبدع في تواجده وتصل به إلى هدفه المنشود، وهــذا هـو سر النص الإبداعي، وجوهر وجوده، «وقد نال مصطلح الغموض من القلق والاضطراب أكثر من أي مصطلح نقدي آخر لارتباطه بجوهر العمل الإبداعي من حيث المبدع والنص والمتلقي. ويعود هذا القلق والاضطراب في تحديد مصطلح الغموض إلى تعدد مستوى درجاته، وإلى الاختلاف في تحديد مفهومه، ومعرفة غايته وأهميته، كما تعود إشكالية تحديد مصطلح الغموض إلى مرادفاته اللغوية الكثيرة مثل التعمية والإبهام والاستغلاق والألغاز وغيرها من التسميات التي ربما يضلل بعضها المتلقي في تقدير أهمية المصطلح ومفهومه ووظيفته» (21).
ويبرز دور الغموض بشكل كبير في التمييز بين النصوص ومستوياتها في هذه الدراسة؛ وهذا الأمر هو ما قام عليه جوهر الإحساس بالدرجة القصوى من اللذة (المتعة)عند سانتيانا عندما قال «إن اللذة هي جوهر إدراك الجمال، ولكنه من الواضح أن لذة الجمال تتميز بشيء من التعقيد تخلو من اللذات الأخرى» (22)، فالغموض سمة رئيسة في نص المتعة، ولذلك فهو نص لا يخاطب القارئ العادي، أو متلقي نص اللذة، لكنه يخاطب قارئاً أكثر رقياً وثقافة لأنه نص مركب ومعقد، يرهق القارئ حتى يشعره بالجمال ويمنحه المتعة، وهو فكرة قديمة في الأدب تحدث عنها أرسطو في فن الشعر، واعتبرها النموذج المثالي للعمل الجميل، إذ قال:«فإن أجمل التراجيديات ما كان نظمها معقداً لا بسيطاً» (23)، وهذا الموقف من أرسطو حول ضرورة الغموض في نص المتعة هو الذي يرتضيه بارت في النصوص الأدبية، وبخاصة النصوص ذات الطبيعة الخاصة، فقال:«إن عليَّ أن أرتضي ذلك الغموض لأنني بحاجة للذة عامة، في كل مرة ينبغي أن أرجع فيها إسراف النص إلى كل ما فيه تجاوز» (24)، وفكرة الغموض للتأثير في المتلقي قديمة جداً، فقد استخدمها الكهان في سجعهم للتأثير في الناس.
وهذا الغموض مباح في الشعر، بل إنه يعتبر عنصراً مميزاً فارقاً للشعر عن النثر الذي يجب أن يتميز بالوضوح والمباشرة، «فالشعر من حيث هو وسيلة للتوصيل أشد تعقيداً جداً من النثر» (25)، ويتفق الأستاذ أحمد أمين في هذا الرأي مع ريتشاردز فيقول: «ولكن يباح في الشعر بعض الغموض والاكتفاء بالإيماء والرضا عن الرمز، ولا يباح للناثر إلا أن يكون واضح الدلالة سهل العبارة بين الناس»(26)، ويرجع روز غريّب هذا الأمر إلى الطبيعة الخاصة للشعر التي يتميز بها عن النثر فيقول: «فألفاظ الشعر أميل إلى الإغراب والطرافة وأبعد عن الابتذال من ألفاظ النثر، وهذا لا يعني التوعّر ولا الوحشية، بل أن يكون ذلك مع حسن وقع وسلامة ذوق. والألفاظ الشعرية تثير الخيال فهي أكثر إيحاء من ألفاظ النثر» (27)، وثمة فرق كبير بين الغموض المعني هنا والتوعر واستخدام الوحشي من الكلام في الشعر، فالغموض كما قال روز غريب يمنح الشعر إيحاء يتدرج بتدرج الغموض، و«كلما ازداد الفن غموضاً زادت فيه قوة الإيحاء»(28)، أي أن هنا نقطة وسط بين الوضوح التام المطلوب في النثر، ودرجة من الغموض اللازمة في الشعر. ويرجع الغموض في لغة الشعر إلى أن لغة الشعر تعتمد الرمز في التعبير، فكأنها لغة الإشارة الرمزية المعبرة في مواجهة لغة النثر الحاملة للمعاني الحقيقية التي تعتمد الوضوح والمباشرة، ولابد للكلمة في الشعر أن تسمو فوق معناها الحقيقي الذي وضعت من أجله، ومن ثم فواجبها أن تزخر بأكثر مما تعنيه، وهذا الأمر يجب أن يتم عبر إدراك الشاعر لقدرات اللغة التي يستخدمها في التعبير وبخاصة القدرات المجازية التي تمنح تلك اللغة مساحة أوسع من دلالتها المعجمية ومن ثم يمكنه الانحراف بالمعنى الأصلي إلى المعنى الذي يريده؛ وهو الأمر الذي يزيدها قوة تبدو في أنه يمكن للكلمات أن تعني أكثر مما تشير إليه، والكلمات لدى الشاعر تختلف عن الكلمات المستخدمة في الحياة اليومية؛ فالشاعر يستنفر في الكلمات المعاني المجازية لخلق صور تخيلية للتعبير عما يجيش في صدره ونفسه، وهو الأمر الذي يستلزم مقداراً عالياً من الثقافة عنده حتى يتمكن من استنطاق اللفظ الذي اختاره لمعانٍ جديدة غير تلك المعاني التي يعبر عنها اللفظ مباشرة.
وإذا أمعنا النظر في المفاهيم والقيم التي تحدث عنها الباحث تحت عنواني الثقافة والذوق العام نجد أن للتعقيد دوراً كبيراً فيه؛ فيرجع الدكتور عبد الرحمن محمد القاعود الغموض في الشعر إلى ثلاثة أسباب هي:«غرابة التعبير، وعدم انطباقه على الطريقة المألوفة عند جمهور القراء، ثم ازدحام جملة من الصور الفكرية وتداخلها في رقعة واحدة ضيقة بحيث يتعب العين تبينها دفعة واحدة، ويجهد الذهن تصور علاقة أجزاء بعضها ببعض، ثم ابتعاد الصورة التي يرسمها الشاعر عن تصور الجمهور ومداركهم لما هو مألوف عندهم ومعهود لديهم في معارفهم ومشاعرهم الماضية والحاضرة، حتى في معارفهم ومشاعرهم التخيلية» (29)، وإذا أمعنا النظر في هذه الأسباب الثلاثة التي تنتج الغموض في المعنى عند الدكتور عبد الرحمن القاعود وجدنا أن للثقافة والذوق العام ثلاثة محاور مهمة؛ أولها يرجع الغموض فيه إلى مخالفة الشاعر الذائقة الفنية التي اعتاد عليها الذوق عند الجمهور فبسببها يحدث الغموض والإبهام، بينما ينبع الثاني من خلال ارتفاع ثقافة الشاعر بشكل كبير عن الجمهور الذي لا يتمكن من ملاحقة صوره وخيالاته، فيحدث الغموض، وفي هذا يشبه من يتعلم لغة أجنبية وهو في مرحلة متوسطة من إجادتها فعند الحديث أمامه بها بسرعة تزدحم الصور والمعاني عليه وتستغلق على الفهم، وتصبح مبهمة، والثالث مرجعه تعمد الشاعر نفسه مخالفة الذكريات السابقة ومحاولة تحطيمه للنموذج الجميل المتمثل عندهم في المرجعية الثقافية التي تكونت على مدار حياتهم ومن ثم تصطدم بالجديد الذي يقدمه الشاعر فيحدث شبه غموض.
ويرجع روز غريب غموض المعاني واستغلاقها على الفهم في الشعر إلى أسباب أخرى بقولها: «أما الصعوبة في الشعر فمصدرها إيجازه وما قد يتضمنه من تعريض وتلميح، ومن ذلك عجز الكلام عن استيعاب المعنى بأسرها أو غرابة المعنى ورغبة الشاعر في الغموض وإثارة الفكر» (30).
ويعد بعض النقاد الغموض تقصيراً من الفنان في الوصول بالمعنى إلى ذهن المتلقي، وإن كان هذا الأمر قد وضع في الاعتبار منذ نشأ الفن، فهو سمة من سماته يتميز بها الفن عموماً، يقول ستيفن أولمان:«وفي كثير من الأحيان قد يؤخذ ما كان منقصة في التفاهم اللغوي العادي على أنه ميزة فيما لو نظرنا إليه من وجهة نظر مختلفة، فاستغلال الغموض بوصفه خاصة من خواص الأسلوب يكاد يكون قديماً قدم الأدب نفسه» (31).
ويدفعنا هذا الأمر إلى القول بإمكانية قياس درجة الغموض في الشعر بقياس ثقافة الشاعر نفسه، وهو ما يدفعه إلى تخطي المتلقي العادي في الثقافة العامة المشتركة بينهما في المجتمع «فبقدر ثقافة الشاعر يكون تجاوزه للمشترك العام بينه وبين متلقيه العاديين، لأنه بهذه الثقافة كوّن أفقاً معرفياً مجهولاً عندهم ومفهوماً شعرياً غريباً عليهم، والطبيعي أن يأتي إنتاجه الشعري مجللاً بالغموض والإبهام نتيجة لهذا، حتى لغته الشعرية، تزداد جدة وغرابة بسبب هذا المضمون الجديد الغريب»(32)، وهنا يحتاج الأمر من المتلقي إلى درجة عالية من المعرفة والثقافة تقترب بل توازي درجة الشاعر الذي ينتج هذه النوعية من الفن حتى يحقق التواصل مع العمل، «وإذا لم يكن القارئ ذا خلفية معرفية وثقافية نوعية، عسر عليه فهم هذا النوع من الشعر واقتناص دلالته» (33)، وهو الأمر الذي علله ستيفن أولمان حال حديثه عن العوامل الإضافية التي تساعد على التعقيد فقال: «وهناك عوامل إضافية مختلفة من شأنها أن تعقد هذا الموضوع. من ذلك مثلاً أن بعض الكلمات قد تدل على أشياء ليست مألوفة لدى غالبية المتكلمين؛ فسكان المدن مثلاً ربما لا تكون لديهم إلا فكرة غامضة جداً عن المعنى الدقيق لبعض أسماء النباتات»(34).
وعلى الرغم من تعليل روز لغموض الشعر لرغبة الشاعر في الغموض وإثارة الفكر نجد أنه يأخذ موقفاً عجيباً في هذا الإطار؛ فتحت عنوان «الفن والذكاء» نجد أنه يقول: «والغالب في رجل الفن أن يكون ساذجاً في ما لا يخص الفن، وذلك لانصرافه التام إلى فنه كما يقول رودان، وربما جهل النقد وعجز عن نقد إنتاجه الخاص إذا لم يكن ذا ذكاء نقدي، وهو قلما يستطيع التحليل أو التفكير المجرد على طريقة الفلاسفة»(35)، وهو أمر غريب إذ كيف يكون الفنان المبدع عبقرياً في فنه ثم غبياً في أمور أخرى، والصورة الطبيعية الثانية هي أن الناقد غالباً ما يكون مبدعاً، ولكن في الأعم الأغلب لا يستطيع إنسان مهما تبلغ مكانته العقلية أن يقوم بنقد نفسه نقداً علمياً على أساس أن العقلية التي أبدعت هذا الفن هي ذاتها التي تحكم عليه بمقاييسها، والنقد يعتمد على تمييز الجيد من الرديء في الفن فهل يستطيع الفنان أن يذكر قصيدة أساء فيها، وهذا ليس نقيصة في الفنان، بل إنها صفة بشرية عامة ألا يكون الإنسان خصماً وحكماً في آن واحد، ولعل الكلام الذي سبق هذا الرأي عند روز يرد عليه فقد ساق أسماء أعلام برعوا في الفن والنقد والعلم، بينما لم يقدم نموذجاً واحداً للتدليل على هذا الكلام.
وهي في الرأي السابق ترى أن الفنان لا يستطيع أن يفكر بطريقة الفلاسفة تفكيراً يعتمد على التحليل والتفكير المجرد، وقد تحدث الباحث عن طبيعة الشعر في التمهيد واختلافه عن غيره في الطبيعة الخاصة التي يعتمدها منهجاً فليس من وظيفته أن يقدم حقائق مباشرة، فنحن لا «نستطيع الفصل بين الفكر والشعر فصلاً قاطعاً بتجريد الشعر من البعد الفكري، صحيح أن الفكر في الشعر ينبغي أن يكون أشبه بالومض من خلال الكلام الشعري، وليس أفكاراً أو نظريات تسرد وإلا لم يكن شعراً وإنما (هو) نظم، لكن هذا لا يعني مجافاة أي من الشعر والفكر للآخر» (36).
ولعل هذا الأمر هو ما دفع الدكتور عبد الرحمن القاعود إلى القول بأنه «قبل العصر العباسي لم يشتك متلقو الشعر (وأكثرهم سماعاً آنذاك)من صعوبته أو غموضه» (37)، ويرى الباحث أن ذلك يرجع إلى أن الثقافة قبل هذا العصر كانت ذات نسق واحد هو الذي عرفته الثقافة العربية التي كانت تسير عليه حتى هذا العصر، أما في العصر العباسي فقد أخذت نسقاً مخالفاً لذلك بدخول أنساق ثقافية متعددة من الروافد التي وردت إلى الثقافة العربية من خلال شيوع الترجمة مثل ترجمة كتاب الشعر لأرسطو، والعلوم الفلسفية، وكذلك الصراع الثقافي الفكري الذي اشتعل بين الفرق الإسلامية في هذا العصر من المعتزلة والسنة، وغيرهما من الفرق و«هذا المناخ الثقافي الملون المعمق بتلك الثقافات الواردة، والثقافات العربية المتفاعلة في ذاتها ومع غيرها كانت له تأثيراته في الشعر العربي العباسي» (38).
وتعد الإشارة إحدى آليات الغموض التي يلجأ إليها الشاعر في شعرة لإكسابه رونقاً وجمالاً، ويرى ريتشاردز أنها أهم وسيلة في الشعر لجعله غير مباشر فيقول:«إن الإشارة هي أبرز وسيلة يستخدم بها الشعر عناصر وأشكالاً من التجربة غير لازمة للحياة وإنما ينبغي اكتسابها على نحو خاص، والصعوبة التي تثيرها الإشارة ليست إلا مثلاً»(39)، ويتفق روز غريّب مع ريتشاردز في موقفه من ضرورة الإشارة وأهميتها فيقول:«والإشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر»(40).
ويفرق ريتشاردز بين الإشارات التي تتحقق من خلالها جودة الشعر؛ فيحكم بأن«الإشارات التي يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة هي فقط التي يتحقق فيها نظام خاص وعلاقات بالغة التعقيد بحيث إنها تطابق كيفية تركيب الأشياء في الواقع، وإن معظم الإشارات في الشعر لا يتحقق فيها هذا النوع من النظام»(41)، كذلك تؤدي الإشارة دوراً كبيراً في ارتفاع درجة الغموض حال تفاعلها مع عناصر أخرى في داخل العمل الفني «فغموض المدلول والدور الذي تلعبه العناصر العاطفية يعقدان بنية أبسط صورة من صور الجوانب التي يتكون منها المعنى وأوضحها»(42).
وإن كان للأستاذ أحمد أمين موقف آخر إذ يرى أن غموض المعنى ينشأ من غموض الفكر وعدم وضوح المعنى، أي أن ما يعده الدكتور عبد الرحمن القاعود وهو الغموض في الفكر لازماً في الشعر يعتبره الأستاذ أحمد أمين نقيصة في الشاعر لعدم وضوح الفكرة عنده إذ يقول: «وما يحدث من الغموض في نقل المعاني ناشئ غالباً من غموض الفكر وعدم وضوح المعاني في ذهن الكاتب أو عدم محاولته الإيضاح. أما الغموض في نقل العواطف فناشئ من صعوبة التعبير عن العواطف نفسها، لأن اللغة تحاول التعبير عن العواطف بترجمة العواطف أولاً إلى كلمات فكرية وعقلية» (43)، ولعل ما يقصده الأستاذ أحمد أمين هنا هو الغموض التام الذي يستغلق معه التواصل بين المتلقي والعمل الفني، ومرجع ذلك إلى عدم وضوح الفكرة، أو أن الشاعر هنا لم يراع المستوى الثقافي للجمهور مراعاة جيدة فخاطبهم بلغة ثقافية بعيدة عن ذهنهم وهو ما حذر منه الدكتور عبدالرحمن القاعود في مقدمة كتابه، فنسبة من الغموض لازمة في الفن لتحقيق درجة من اللذة في العمل، وهو ما أثبتته الدراسة من خلال أقوال النقاد، ويرتفع الغموض في نصوص المتعة عنه في نصوص اللذة لكنه في هذا لا يصل إلى حد الإبهام التام الذي يستغلق معه الفهم.
1 ـــ انظر لسان العرب:مادة غمض. الجزء:7، ص:991.
2 ـــ Oxford Word power: University press1999p23.
3 ـــ Oxford Word power: University press1999p281
4 ـــ انظر لسان العرب:مادة بهم، جزء21، ص:65.
5 ـــ سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان: الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 6691، ج1، ص:84.
6 ـــ انظر هذا الخبر:
ابن هشام (ت312: السيرة النبوية، تحقيق مؤسسة الهدى، دار التقوى 9991، ص:991، والخبر أكبر من هذا المذكور واللفظ هنا للدكتور بكري شيخ أمين.
بكري شيخ أمين:البلاغة العربية في ثوبها الجديد (علم البديع)، دار العلم للملايين، بيروت 2991، ص:78.
7 ـــ سورة البقرة:الآيتان: 1 ـــ 2.
8 ـــ كمال أبو ديب: في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 7891، ص:231.
9 ـــ سورة الروم: الآية: 55.
01 ـــ استن وارين ورينيه ويليك: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 2791، ص:92.
11 ـــ أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة د. كمال بشر، ط الثانية عشرة، دار غريب، د. ت، ص:801 ـــ 901.
21 ـــ Empson, W: Seven types of Ambiguity, London 1930. P. 19
نقلاً عن حلمي خليل: العربية والغموض، دار المعرفة الجامعية، ط1، الإسكندرية 8891، ص: 62.
31 ـــ نقلاً عن د.إبراهيم سنجلاوي:موقف النقاد العرب من الغموض (دراسة مقارنة)، مجلة عالم الفكر، «أكتوبر ـــ نوفمبر، ديسمبر7891» ص: 502.
41 ـــ د. حلمي خليل: مرجع سابق، ص: 82.
51 ـــ انظر.Empson: Seven Types of Ambiguity, P. 41, 80, 104,127,160,173, 184, 207, 231. نقلاً عن حلمي خليل: العربية والغموض، ص:82 ـــ 92.
61 ـــ ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي، ترجمة الدكتور مصطفى بدوي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر 3691، ص013.
71 ـــ روز غريب:النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية3891، ص56.
(?) موقف فاليري هنا يرى فيه أن الوضوح يفسد الفن إفساداً ويقربه من الابتذال، انظر هذا عند د. عبد الرحمن محمد القاعود: الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة 2002، العدد 972، ص:9.
81 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود:مرجع سابق، ص:9.
91 ـــ أروين أدمان: الفنون والإنسان، ترجمة الدكتور مصطفى حبيب، مكتبة الأسرة1002، ص82.
02 ـــ دريد يحيى الخواجة: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، دار الذاكرة، ط1، حمص 1991، ص 701.
12 ـــ دريد يحيى الخواجة: المرجع السابق، ص: 56 ـــ 66.
22 ـــ جورج سانتيانا: مرجع سابق، ص: 67.
32 ـــ أرسطو: كتاب أرسطو طاليس في الشعر (نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي)، حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية الدكتور شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب3991، ص76.
42 ـــ رولان بارت: لذة النص، ترجمة محمد خير البقاعي، المجلس الأعلى للثقافة 8991، ص92.
52 ـــ ريتشاردز:مبادئ النقد الأدبي، مرجع سابق، ص632.
62 ـــ أحمد أمين: النقد الأدبي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة2591، ص:76.
72 ـــ روز غريّب: مرجع سابق، ص:89.
82 ـــ روز غريّب: مرجع سابق، ص98.
92 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:9.
03 ـــ روز غريّب: مرجع سابق، ص:89.
13 ـــ ستيفن أولمان: مرجع سابق، ص:441.
23 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:52.
33 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:72.
43 ـــ ستيفن أولمان: مرجع سابق، ص:901.
53 ـــ روز غريّب: مرجع سابق، ص:75.
63 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:72.
73 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود:مرجع سابق، ص:91.
83 ـــ د.عبد الرحمن محمد القاعود:مرجع سابق، ص:91.
93 ـــ ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي، مرجع سابق، ص482.
04 ـــ روز غريّب: مرجع سابق، ص031.
14 ـــ ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي، مرجع سابق، ص:543.
24 ـــ ستيفن أولمان: مرجع سابق، ص:511.
34 ـــ أحمد أمين: مرجع سابق، ص85.