ترميك الحياة بالصخور
فهل تعمّر بها أم تندثر تحتها؟
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب:
مع أوّل خيوط الفجر أو قبلها طرح الحصان العجوز "صابر" لحاف التبن عن نفسه، و مثلما كان يفعل يوماً بعد يوم نهض ليقوم بجولته الباكرة في المزرعة منتظراً نهوض الجميع ليعرض خدماته عليهم و ليرفضه الجميع ساخرين أو مشفقين، ثم يعود إلى النوم مقهوراً متحسّراً على أيام شبابه و على عرقه الذي امتصّه تراب الحقل و تجسّد في أغصان الزروع و ثمارها.
هذا اليوم كان مختلفاً. لم تنته الجولة بصابر في الحظيرة ، بل انتهت به في قاع حفرةٍ مهجورة.
آخ يا لها من سقطة! ليتني أموتُ و أنتهي من هذه الأوجاع...
لم يعد صابر يطيق الصبر فاستجمع ما بقي لديه من أنفاس و أخذ يصهل و يحمحم حتّى سمعه مالك المزرعة و عائلته.
- و جرح ذوي القربى أشدّ مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهنّد:
من بين دموع الفتيات الصغيرات و ضحكات بعض الصبيان الذين تربّوا على ظهره، و وسط شجار صاحب المزرعة مع زوجته و جيرانه الذين طالما حمل لهم الطحين و الماء و الحطب تسلّل إلى أذني صابر القرار المنطقيّ الفاجع:
نعم البئر ليست عميقةً و ربّما يمكننا سحبه لو استأجرنا رافعةً أو مزيداً من العمّال و لكن كم سيعيش لو أخرجناه و عالجناه! و هل يحتمل جسده الضعيف آلام العلاج؟ و لو أنّنا أخرجناه فماذا سنستفيد منه غير خسارة العلف و أجرة البيطري؟ فلندفنه في هذه الحفرة و لنصب عصفورين بحجر: نرتاح من صابر و نريحه، و نتخلّص من خطر هذه البئر العقيم فلا نخشى سقوط أحدٍ فيها.
من يستطيع إهدائك الأذى إن رفضت تلقّي الهدية؟
ضمّ صابر أذنيه العجوزين على رأسه و أطبق فمه و عينيه و أحنى رأسه بين رجليه الأماميّتين محتمياً من أذى الخيانة و مرارتها، و أخذ يتلقّى على ظهره أكوام الحجارة المنهالة.
تخامدَ أنين صابر و ظنّ فاعلو الخير أنّّه مات فاشتدت هممهم و تسارع إلقائهم للتراب حتّى ينتهوا من هذه المهمّة النبيلة...
وقفَ صابر مستنداً إلى جدار البئر و أبقى رأسه بين رجليه و ثبّت ظهره حتّى تستقرَّ عليه طبقةٌ من التراب و الأحجار الصغيرة فتخفّف أضرار و آلام ما يليها. و مع تدفّق التراب و الحصى تحته كان صابر يرفع حوافره بحذر بين الحين و الآخر و يرتفع على التراب الذي كان ينبغي أن يدفنه!
مع اقتراب الظهيرة أخذ التعب يتسلّل إلى المزارع و معاونيه و اقترب أحدهم من حافة البئر ليرى كم بقى عليهم من عمل و يا لهول ما رأى!
إنّه العجوز صابر و ليس بينه و بين الخروج إلاّ القليل!
نحن العجزة! و نحن مجرمون و مغفّلون يا قوم! هاتوا حبالاً! هاتوا جذوعاً خشبية!
قفز ناسٌ إلى الحفرة و شدّ آخرون من خارجها و إذا بالحصان الحكيم على ظهر الأرض، في جسمه رضوضٍ طفيفة من أثر السقطة، و في قلبه جرحٌ عميقٌ نازفٌ من وفاء البشر و حسن تدبيرهم.
قرأ الحصان الحكيم ما كتبت فصحّح لي قائلاً: ربما يكون الجرح نافذاً لا يبرأ لو كنتَ أنت الواقع في الحفرة و ليس أنا! ألم تتعلّم شيئاً من تلقّي الأحجار بجسدي و لكن ليس برأسي و لا بروحي!