المدير.. ابن الكئيبةأسامة غريب
التحرير الإلكترونية - بقلم أسامة غريب
الابتسامة فى وجه الناس صدقة، ولكن الكثيرين لا يحسنون التصدق، خصوصا الرؤساء والمديرين فى الأعمال المختلفة، فهم يظنون أن الجهامة والسحنة المقلوبة من شأنهما أن يبعثا على الاحترام وعلى بث الرهبة فى نفوس الموظفين، وأن هذا من شأنه أن يدفع لإنجاز العمل ويحفظ للمدير مهابته.
فى الحياة العملية التى عشتها رأيت وفهمت تأثير تكشيرة المدير على حياة الموظفين، وأدركت أن هناك من المديرين أناسا طيبين حقا، لكنهم لا يتمتعون بالوعى ولا الإدراك الذى يجعلهم يجنّبون موظفيهم الصغار الكثير من العذاب لو أنهم فقط ابتسموا فى وجوههم. وكثيرا ما ترِد على خاطرى قصة تشيكوف الرائعة «وفاة موظف» كلما شاهدت رئيسا فى العمل يستغل سلطاته وصلاحياته وقدرته على المنح والمنع فى إهانة موظفيه وتكديرهم وكسر نفوسهم، وهو ضامن أن أحدا لن يفتح فمه بكلمة تأفُّف أو اعتراض. صحيح أن المدير فى قصة تشيكوف لم يفعل شيئا من هذا مع الموظف بطل القصة، ولكن هذا لم يطمئن أبدا.. وملخص القصة أن موظفا كان يجلس بالصف الثانى بالمسرح يشاهد إحدى المسرحيات عندما أطلق عطسة مفاجئة، ثم خيل إليه أن الجنرال الجالس أمامه قد أخرج منديله لمسح رذاذ أصاب صلعته.. يحكى تشيكوف أن الموظف مال على الجنرال معتذرا بأنه لم يقصد ما فعل، فقال له الجنرال لا عليك.. لكن الموظف لم يهدأ فذهب إليه فى الاستراحة واعتذر ثانية بأن العطسة فعْل لا إرادى، وأنه لا يقصد أى إهانة، وعندئذ نظر إليه الجنرال فى دهشة ثم أشاح عنه.. فى اليوم التالى ذهب إلى الجنرال فى مكتبه، لأنه خشى عاقبة غضبه بعد أن ظن أنه لن يسامحه وكرر اعتذاره، وهنا تعجب الجنرال وقال: يا للتفاهة.. ماذا تريد؟ ازدادت حالة الموظف سوءا وظن أن الجنرال لن يرحمه، لهذا فقد عاود الزيارة مرة أخرى وأخذ يشرح للرجل ملابسات العطسة التى خرجت دون قصد منه وكرر اعتذاره وأسفه.. وهنا زأر الجنرال وقد أربد وارتعد قائلا: اخرج من هنا. امتقع وجه الموظف وأحسّ بشىء يتمزق فى بطنه، ثم تراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئا، وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه، وعندما وصل آليًّا إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن يخلع جاكتته.. ومات.
إلى هذا الحد يمكن أن تصل الأمور، وفى ظنى ليست المسألة متعلقة ببلاد غنية أو بلاد فقيرة، عالم متقدم أو عالم ثالث، فمشاعر الناس ورهافتهم واحدة فى كل مكان، والموظف الصغير فى الغالب يكون فى حالة هشاشة وانكشاف نفسى تجعل جرحه من أسهل ما يكون من جانب رؤسائه الكبار. كنت زمان أشعر بغضب عارم من الزملاء عندما أذهب إلى العمل فى الصباح وأجدهم يتحدثون عن أن المدير اليوم فى حالة مزاجية غير طيبة، ولهذا يحسن أن لا يقترب منه أحد! كنت أرى أن عمل حساب لمزاج سيادته هو فى حد ذاته أمر مهين، لأن ما يربطنا به هو العمل ولكل منا دوره واختصاصه فيه، ولا يفضُل أحدٌ أحدا فى هذا الشأن إلا بمقدار إجادته لما يؤديه، وأذكر أننى كنت أنفعل عليهم وأنا أذكّرهم بأن كلا منا يأتى إلى العمل وهو محمل بالهموم والمشكلات، فمنا مَن يمر بضائقة مالية ومن لديه طفل مريض ومن يتعذب فى الحب، ولكننا لا نجعل شيئا من هذا سببا للتجهم فى وجه سيادته أو معاملته على نحو فظ. لكن من الواضح أن الكثيرين لم يكونوا يشاطروننى الرأى وكانوا يرون مزاج سيادة المدير مسألة فى غاية الأهمية وأنك إذا تجاهلت هذه الحقيقة تكون من الخاسرين. ولقد خسرت بالفعل فرصا كنت جديرا بها بسبب أننى لم أكن أقيم وزنا لصاحب السيادة ولا كنت أسمح لمزاجه المعتل أن يكون ذريعة لتوبيخى ومعاملتى بغلظة. وأذكر أننى صادفت مديرا كان الأسوأ من بين الأوغاد الذين لقيتهم، فقد كانت سحنته كئيبة بطبعها دون أن يبذل أى جهد وكانت تزداد انقباضا حين يغضب، ولهذا فقد سميته ابن الكئيبة.. هذا الرجل تسبب فى إصابة زميل بأزمة قلبية كادت تقضى عليه بسبب أن هذا الزميل قال له صباح الخير فلم يرد. ظل الزميل يسألنا ويسأل نفسه طوال اليوم: ماذا فعلتُ؟ وما عساه يكون قد أغضبه منى؟ وهل يؤثر هذا الغضب على الترقية القادمة فتتأخر، وهل يكون سببا فى إلغاء المأمورية التى حاربت لأجل الفوز بها؟ وعندما ذهب إلى البيت نقل تعاسته معه فتشاجر مع زوجته وقام بتعنيف طفليه دون داعٍ، ثم انتهى اليوم بسقوطه مغشيا عليه ودخل المستشفى فمكث به أسبوعين للعلاج. لأجل هذا فإننى حين صرت مديرا وتحت يدى موظفين فقد كنت عارفا تماما قيمة الابتسامة، وكنت حريصا ما استطعت على أن لا أجعل أحدا يذهب إلى البيت حزينا بسببى لأننى أدركت أن العمل يمكن أن يسير بشكل طيب دون الحاجة إلى استخدام آليات الترويع البدائية التى يظن الجبناء أنها تصنع لهم هيبة وتمنحهم أهمية، ووعيت أن الحياة مؤلمة بما فيه الكفاية ولا تحتاج إلى أن نضيف إلى الناس فيها أحزانا فوق أحزانهم.. والحمد لله أننى ابتعدت تماما عن هذا العالم الكاسر للقلوب