النية في الشرع تنقسم الي قسمين:
القسم الاول الاخلاص .
والقسم الثاني المراد به تميز العبادات والعادات .
فأما النية بمعني الإخلاص فالمراد بذلك أن يوقع العامل فعله وقوله لايريد بذلك إلا وجه الله عز وجل وهذا المعني هوالذي يعتني العلماء بالتنبيه عليه في إرادة الأعمال وقال العلماء الإخلاص لفظ لايراد به إلا القصد لله سبحانه وتعالي قال بعض العلماء الإخلاص أن يستوي عند الانسان مدح الناس وذمهم وقال بعض العلماء إنما يحب النسان أن تكون اقواله وافعله بين الله لا تراها عين ولاتسمع بها أذن وقال بعض العلماء إن الإخلاص مأخوذ من الخلوص أي لا شائبة في نية الإنسان والمراد من ذلك أن يوقع العمل وليس في قلبه إلا الله والي ذلك أشار الإمام الحسن البصري رحمه الله بقوله لا يزال الرجل بخير إذا قال لله وإذا عمل عمل لله وهذا الاخلاص هو الذي يعظم الله به القليل ويجعله كثيرا عنده سبحانه وتعالي كما قال بعض السلف كم من عمل قليل عظمته النيه فإذا أخلص العامل النيه لله عز وجل شكر الله سعيه وعظم أجره وأحسن العاقبة له في الدنيا والاخره ومن هنا قال الله عز وجل {لو يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا }وقال سبحانه وتعالي {ومن اراد الاخرة وسعي لها سعيها وهو مؤمن فؤلائك كان سعيهم مشكورا} ولاينظر الله الي عمل العامل إلا إذا أراد وجهه كما قال سبحانه وتعالي فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولايشرك بعبادة ربه أحدا أما الركن الثاني وهو تميز العبادات والعادات فالمراد بذالك أن النية تميز قصد الانسان في العباده فهي تفرق بين النوافل والفرائض وتفرق بين العادات والعبادات إما تميزها بين الفرائض فالإنسان إذا صلي الصلاة فإنه إذا نوي بها الفريضة كانت فريضة وإذا نوي النافلة كانت نافله وهكذا إذا قصد بمعاملاته فإذا أعطي الإنسان المال وهو يريد الصدقة لم يجزيه ذالك قضاءا لدينه لانه انما نوي الصدقة ولم ينوي قضاء الدين ولو اعطاه بالنية قضاء الدين لم يكن صدقة لأنه نوي قضاء الدين ولم ينوي الصدقه ثم إن الفرائض تتميز فلو صلي الإنسان أربع ركعات أحتملت ان تكون صلاة للظهر او صلاة للعصر ولا يمكنه أن يميز بين الصلاتين إلابالنيه ولذالك أعتد بالنية فان نوي الظهر لم تقع عن العصر ولو نوي العصر لم تقع عن الظهر ولذلك قال صل الله عليه وسلم مؤكدا هذا المعني وإنما لكل إمرء ما نوي أي ما قصد من عبادته إن كان نافلة فنافلة وإن كانت فريضة ففريضه وإن قصد بالإيطاء عادتا وقعت عادة وان قصد به عبادتا وقع عباده فلو أنفق علي زوجته يحتسب الأجر عند الله كان إنفاقه عبادة ولو أنفق علي زوجه وأولاده يريد بذلك وجه الله عز وجل كانت له عباده فتردد إنفاقه بين العادة و بين العبادة وتميز بالنية والقصد ومن هنا أخذ العلماء رحمه الله تعالي .
القاعدة الشرعية المشهورة الامور بمقاصدها :
وهي احدي القواعد الخمس التي انبني عليها قواعد الفقه الإسلامي :
أولها الأمور بمقاصدها .
والثانية اليقين لايزال بالشك .
والثالثة الضرر يزال .
والرابعة تجلب التيسير .
والخامسة العادة محكمه .
فقولهم الأمور بمقاصدها إنبنت علي قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث إنما الأعمال بالنيات أي إنما إعتبارها وإجزائها بالنيه وذلك قوله إنما لكل إمرء ما نوي وقد اعترض علي هذه القاعدة باعتراضات قال بعضهم ان هذة القاعدة يخرمها أمور منها ان الإنسان لوقال لرجل زوجتك بنتي وهو هازل غير قاصد وجاد وقال قبلت فإن النكاح يقع مع أنه قد قصد الهزل ولم يقصد الجد ولذلك لوقال لعبده انت حر يريد الهزل فإنه يمضي عليه عتقه ولارجعة فيه مع أنه لم يقصد العتق وكذلك إذا نذر نذرا فإنه يمضي عليه النذر ولو كان هازلا مع أنه غير قاصد للنذر وهكذلك لوقال لأمرأته أنت طالق قال إنما قصدت الهزل فإنه تطلق عليه إمرأته ولايلتفت إلي نيته وقصده وقالوا قد ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه أربع جاءزات إذا تكلم بهن النكاح والطلاق والعتاق والنذر فكيف يمكننا أن نقول أن الامور بمقاصدها مع أن الهازل في نكاحه وطلاقه وعتقه ونذره لا نية له في الإيقاع وقد أجاب العلماء رحمهم الله بأن هذا الإيقاع مرتبط بالحكم الوضعي لا بالحكم التكليفي وذلك لأن الشرع جعل ايقاع الطلاق والعتاق والنذر والنكاح من باب الاسباب التي إذا وجدت بأسبابها بغض النظر عن كون الإنسان قاصدا للطلاق اوغير قاصد وهذا هو اقوي الوجوه كما ذكر الامام الشاطبي رحمه الله في الموافقات وعلي هذا فقد سلمت القاعده واعتبر العلماء النية في العبادات والمعاملات .
ففي العبادات لو ان انسانا اغتسل ونوي بالغسل أن يتنظف أو يتبرد فإن غسله لايجزيه عن الجنابة الفرض وهكذا لو توضأ في الصيف ويقصد البرودة فإن وضوئه علي هذا الوجه لا يقع عباده لأنه لم يقصد التقرب إلي الله سبحانه وتعالي بوضوئه وهكذا الحال بالنسبة لأفراد العبادات فلو أنه طاف بالبيت فإن نوي بالطواف طواف النافلة لم يقع عن الفريضه وهكذا لو نوي الفريضه لم تجزئ عن فريضة اخري فلو أنه طاف طواف الإفاضه ونوي بذلك طواف الوداع فإن كان طوافه للإفاضه في اخر ايامه اجزأه عن الوداع تبعا لا من جهة القصد والنيه وانما من جهة كون الشرع جعل العبرة بجعل الطواف اخر عهد الانسان بالبيت لقوله عليه الصلاة والسلام إجعلو اخرعهدكم بالبيت طوافا فقالو فالعبرة بوقوع الطواف بغض النظر عن كونه طوافا للافاضه او غيره فذا نوي اندراج طواف الوداع تحت الإفاضة أجزأه وهكذا بالنسبه للصور الأخري التي يتحقق بها مقصود الشرع في الإندرج كمن دخل إلي المسجد وصلي راتبة الظهر فإنها تجزيه عن تحية المسجد لأن مقصود الشرع أن يصلي قبل أن يجلس وهكذا بالنسبه لبقية العبادات التي نص عليها العلماء علي صحتها الإدراج فيها كما هو الحال في دعاء الإستخاره فإنه إذا صلي راتبة الفجر ثم دعا بعدها دعاء الاستخارة أجزي لا من باب النية ولكن من باب قصد الشرع ان يوقع صلاة الركعتين من باب الفريضه وقوله عليه الصلاة والسلام { فمن كانت هجرته الي الله ورسوله فهجرته الي الله ورسوله } الهجرة في لغة العرب المفارقة والترك ومنه الهجران وهو ترك الكلام و المباعدت و المفارقة للمهجور وفي الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال والمهاجر من هجر ماحرم الله عليه أي ترك محارم الله وحدوده وأما الهجرة في الشرع فإنها تطلق علي عدد من الهجر الهجرة الأولي هجرة الصحابة رضوان الله عليهم من مكة إلي الحبشه وقد وقعت بعد ايذاء الشركين لأصحاب النبي صلي الله عليه وسلم لما توفي أبو طالب فقال عليه الصلاة والسلام { إن في الحبشة ملكا لا يظلم عنده احد } فتحول المهاجون من الصحابة إلي الحبشه وأما الهجرة الثانية فهي من مكة الي المدينه التي ورد المدح والثناء عليها في النصوص والهجرة الثالثة وهي هجرة الوفود وقد وقعت بعد فتح مكة وأما بالنسبة إلي النوع الرابع من الهجرة فهي مفارقة ديار الكفر إلي ديار المسلمين وهي باقية إلي قيام الساعة لحديث أحمد في مسنده لاتنقطع الهجرة حتي تنقطع التوبة ولاتنقطع التوبة حتي تطلع الشمس من مغربها فدل علي بقاء الهجرة الي هذا الزمان وزمان طلوع الشمس من مغربها هو الزمان الذي لاينفع نفس ايمانها لم تكن امنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولا يعارض هذا الحديث ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلي الله عليه وسلم قام في اليوم الثاني من فتحه لمكة فقال الهجرو بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا فان قوله عليه الصلاة والسلام لاهجرة بعد الفتح هذا النفي مسلط علي نوع خاص من الهجرة وهو الإنتقال من مكة إلي المدينة وذالك أن مكة قد فتحت وصارت من ديار الإسلام وحينئذ لا يوصف المنتقل منها إلي المدينة بكونه مهاجرا فنفي النبي صل الله عليه وسلم الهجرة بهذا المعني ولذالك قال العلماء ببقاء الهجره واعتبروا قوله عليه الصلاة والسلام لا هجرة بعد الفتح المراد به الخصوص وهو معجزة من معجزات الني صل الله عليه وسلم كما قال العلماء لأن فيه إشارة إلي أن مكة تبقي دار إسلام إلي قيام الساعه وقوله عليه الصلاة والسلام فمن كانت هجرته الي الله ورسوله بعتبر بمثابة التفصيل للجملة المتقدمة في قوله انما الاعمال بالنيات ووجوه ذلك أن الهجرة لله ورسوله درب من الأعمال التي انصرف عمل الإنسان إليها بالقربة والنيه وهذا من باب التمثيل لامن باب الحصر ولذلك قال العلماء فبه دليل علي مشروعية ضرب الامثلة لتقريب الأحكام و ذكر الصور والمسائل التي هي افراد لعموم القواعد والاصول حتي يتسني للإنسان معرفة الأصول بها وذالك أن النبي صل الله عليه وسلم ذكر نوعين من الهجرة النوع الأول يعتدد هجرة وطاعة وقربة لله عز وجل والنوع الثاني يعتبر من أمور العادات التي لا أجر فيها للإنسان فذكر النبي صل الله عليه وسلم هذين النوعين علي سبيل التمثيل للأصل الذي قدمه بقوله إنما الأعمال بالنيات وقوله عليه الصلاة والسلام فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله المراد بذلك نية وقصدا فهجرته إلي الله ورسوله ثوابا واجرا وقوله عليه الصلاة والسلام ومن كانت هجرته الي دنيا يصيبها الدنيا اما مأخوذة من الدناءة والاحتقار وذلك لحقارتها وهوانها علي الله عز وجل ولذلك قال صل الله عليه وسلم { لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضه ماسقي الكافر فيها شربة ماء } فسميت بهذا الاسم لدناءتها وحقارتها وقال بعض العلماء سميت بالدنيا لدنوها وقربها من الاخرة وقوله عليه الصلاة والسلام ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها كأن يهاجر لتجارة أو نحو ذلك من عرض الدنيا ومتاعها وذكر مثالا علي ذلك بقوله أو أمرأة يتزوجها أو أمرأة ينكحها أو يتزوجها كل ذلك من باب عطف الخاص علي العام وذلك أن الزواج من باب الامور المتعلقة بالدنيا وقد يقع طاعة وقربة لله عز وجل إذا قصد الانسان من زواجه أن يعف نفسه عن الحرام ويحصن فرج أهله عن الاثام كما قال عليه الصلاة والسلام { وفي بضع أحدكم صدقه قالوا يارسول الله أيأتي احدنا شهوته وله بها اجر قال لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر } فدل علي أن النكاح يكون عادتا ويكون عبادة ولكن النبي صل الله عليه وسلم أراد أن الهجرة يقصد منها النكاح وبناءا علي هذا انصرفت الهجرة منقصد القربة إلي قصد النيه وقوله عليه الصلاة والسلام أو إمرأة ينكحها أطلق النبي صل الله عليه وسلم بهذا و قال بعض العلماء من هاجر الي امرأة يتزوجها وقصد من نكاحه وزواجه أن يعف نفسه عن الحرام كانت هجرته طاعة لله عز و جل علي سبيل التبعية لنية الزواج وهذا المهاجر الذي هاجر لزواج بالمرأة إما قصد من هجرته النكاح والشهوة ولذلك انصرف إلي الدنيا ولم ينصرف إلي الأخرة استفتح المصنف رحمه الله هذا الكتاب بهذا الحديث و استفساحه له فيه دليل علي امربن الامر الاول ما تقدم في الاشارة اليه من كونه قصد تشديد النية بلاخلاص لله عز وجل واما الامر الثاني فقد اشار المصنف رحمه الله بهذا الحديث الي مسألة خلافيه بين العلماء وهي نية الطهارة من غسل من الجنابه و وضوء من الغسل سواءا كان من جنابة أو غيرها وكذلك الوضوء وقد أختلف العلماء رحمهم الله في الطهارة من الحدث هل تشترط النية لصحتها أو لا تشترط فذهب جمهور العلماء رحمهم الله إلي أن الوضوء والغسل لا يصح إلا بنيه وهذا هو مذهب المالكيه والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله علي الجميع وذهب الامام ابو حنيفة رحمة الله عليه إلي القول بصحة الوضوء والغسل بدون نية واستدل جمهور العلماء بهذا الحديث وذلك أن الني صل الله عليه وسلم { قال انما الأعمال } والوضوء عمل من الاعمال وهكذا الغسل من الجنابة والحيض والنفاس كل هذة الاغسال نعتبر من الاعمال فدخلت في عموم قوله عليه الصلاة والسلام انما الاعمال بالنيات فلا يصح الوضوء ولا الغسل إلا بالنيه أما الدليل الثاني ما ثبت في الحديث الصحيح عن الني عليه الصلاة والسلام الطهور شطر الإيمان وجه الدلة أن الني صل الله عليه وسلم جعل الطهور وهو جعل الطهارة من وضوء وغسل شطرا للايمان وهو الصلاة لان الله سمي الصلاة الايمان كما في قوله سبحانه وما كان الله ليضيع ايمانكم اي صلاتكم الي بيت المقدس فإذا كان الوضوء شطر الايمان هي الصلاة فتشترط النية للوضوء كما تشترط للصلاة وقالوا ان الوضوء عبادة غير معقولة المعني ولذاك اشتمل علي نوعين اعني الغسل والمسح وادخل الله الممسوح بين مغسولين وحدد اعضاء المسح والغسل فدل علي كونه عبادة غير معقوله المعني وقال الامام ابو حنيفة رحمة الله عليه ان الله عز و جل يقول { يأيها الذين ءامنوا اذا قمتم الي الصلاة فغسلوا وجوهكم } الايه فأمرنا بفعل الوضوء فمن فعل الوضوء فقد فعل المأمور ولم يأمرنا سبحانه بالنية فدل علي عدم وجوبها واشتراطها فرد الجمهور أن الاية أمرت بالوضوء للقيام إلي الصلاة وهذا الأمر لاينفي كون النية واجبه لأن السنة ذادت اشتراطها ودلت علي وجوبها وهذا هو الراجح من قولي العلماء أن الوضوء لايصح إلابنية وهكذا الغسل سواءا كان من الجنابة او من الحيض او من النفاس فلا بد من جميع ذلك من النية والفائدة من الخلاف ان الانسان اذا غتسل في اليوم الصائف شديد الحر وكان عليه جنابه فدخل في بركة ونحوها و اغتسل وكان يقصد ان يتبرد من الصيف ثم إذا ما خرج تذكر أنه جنب فإنه علي قول الجمهور لايجزيه الغسل عن الجنابه وعلي قول الامام أبي حنيفه رحمة الله عليه يجزيه لأن المقصود إنما يعمم بدنه بالماء بعد حصول الجنابة وقد وقع ذلك بغتساله ولذلك قال يصح غسله من هذا الوجه وهذا الحديث بناءا علي هذا الوجهه يكون حجة لجمهور العلماء وهو يشير الي الي اختيار المصنف رحمه الله الي اشتراط النية في عبادة الطهارة أعني الطهارة من الاحداث .