الشكر لله
فضيلة الشيخ / ناصر بن مسفر الزهراني
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ... [البقرة: 172]. الشكر لله اعتراف بفضله، واحترام لكرمه، وإجلال لنعمه، وثناء على عطائه، واعتراف بجميله...
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ... [البقرة: 172].
الشكــر لله اعتراف بفضله، واحترام لكرمه، وإجلال لنعمه، وثناء على عطائه، واعتراف بجميله، وإن ظهور أثر النعمة، وجلاء لطيف المنّة، ووضوح فضل المتفضل بالثناء عليه، والمحبة له، واستعمال ما أعطى فيما يحب، والانقياد لأمره، والرضى بحكمه. معرفة مصدر النعمة شكر، والثناء عليها شكر، وتوجيهها في الطاعة شكر، ومشاهدة المنّة بها شكر، وحفظ حرمات المنعم شكر، وامتلاء القلب بمحبته شكر، ولهج اللسان بذكره شكر، والتسبيح بحمده شكر.
الشكــر يزيد النعم، ويزيل النقم، ويُبلِّع المنى. إن الإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر، بل قد لا يبعد الأمر إذا قلنا إن الدين كله شكر، فمن شُكْر الله الاعتراف بوحدانيته، والإيمان برسله، والصلاة شكر، والزكاة شكر، والصوم شكر، والحج شكر، والذكر شكر، والعابد لله حقًُا شكر: ﴿ وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ... [النحل: 114].
وقــرن عبادته تعالى بالشكر فقال: ﴿ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ... [العنكبوت]، وترك الشرك كفر: ﴿ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ ... [البقرة: 152]، وإبراهيم - عليه السلام – كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين؛ لأنه كان شاكرًا لأنعم ربه وأجلها نعمة التوحيد: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿120﴾ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ... [النحل: 120، 121]، وامتدح الله نوحًا لأنه ﴿ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ﴾ ... [الإسراء: 3]، بل إن الله جل وعلا خلق الخلق وأوجدهم ليشكروه: ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ... [النحل: 78].
ومـن أسمـائـه جل وعلا شاكر وشكور، ويحب لعباده أن يتصفوا بهذه الصفة الربانية، والسمة الإلهية، ولقد ورد في آية واحدة الحث على الشكر وبيان أن الله تعالى شاكر عليم، وتلك فيها لفتة كريمة، ولطيفة بديعة، وكأنه تعالى يقول: إذا أمرتكم بالشكر فامتثلوا الأمر فإنها رتبة رفيعة، ودرجة عالية، ولذلك كانت من أسمائي وصفاتي وأنا أحبها لعبادي، وأدفع عنهم بها العذاب: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾ ... [النساء: 174].
الشكــر يرضاه الرب، ويحبه المولى: ﴿ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ ... [الزمر: 7]، والشاكر سعيه مأجور وعمله مشكور: ﴿ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ ... [الإنسان: 22].
الله جل وعلا هدى الناس لعلهم يشكرون، وأتم نعمته عليهم لعلهم يشكرون، وبيَّن آياته للناس لعلهم يشكرون، ورزقهم من الطيبات لعلهم يشكرون، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا منه لعلهم يشكرون، وخلق البحر وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وجعل للناس السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون.
إن نعــم الله العظيمة، وآلاءه الكريمة، ومننه المتتالية، وأفضاله المتتابعة، قد يسرها جميعًا للناس، ووهبها للبشر ليقوموا بشكره، ويسبحوا بحمده، ويعترفوا بفضله، فله الحمد والشكر في الأولى والآخرة.
ومـن عظمــة العزيز الشكور، وفضل الرحيم الغفور، أنه يجعل الشاكر مشكور، انظر إلى بديع لطفه، وعظيم فضله، وواسع عطائه، هو الذي خلقك، وهو الذي رزقك، وهو الذي هداك للإيمان، وجملك بالإسلام، وأعانك على ذكره، ووفقك لشكره، فكل الفضل والمن والثناء والحمد والشكر له جل وعلا، ولكن مع ذلك فمن تمام نعمته، وعظيم بره، ووافر كرمه، ولطيف جوده، أن ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة، ويوفقك إلى الثناء عليها، ويرضى عنك، ثم يعيد إليك منفعة شكرك له ويجعله سببًا لتوالي نعمه عليك، واتصالها إليك، ويمن عليك بالزيادة في الدنيا، والمغفرة في الآخرة، فهو يحب منك الشكر، ويرضاه لك، ويثيبك عليه، ومنفعته لك، وثمرته لك ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ ... [النمل: 40]، فشكرك له إحسان منك إلى نفسك، وتفضل منك على ذاتك في الدنيا والآخرة، هو غني عنك، غير محتاج إليك، فهو المنعم المتفضل الخالق للشكر والشاكر وما يُشكر عليه، ولا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه، ويقابل إحسانه، ويحصي ثناءً عليه، وإنَّ شُكْرك له نعمة منه تحتاج إلى شكر منك.
تعــريـف الشكــر
وردت تعـريفــات للشكر عديدة، وأوصاف كثيرة، ومعانٍ لطيفة، ومن تعريفاته اللغوية قول الراغب الأصفهاني: “ الشكر تصور النعمة وإظهارها، وقيل: هو مقلوب عن الكَشْر أي الكشف: ويًضاده الكفر الذي هو نسيان النعمة وسترها. وقيل أصله من عَينٍ شَكْرَى أي ممتلئة، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذِكْر المُنْعِمِ عليه “.
وقال ابن منظــور: “ الشكر عرفان الإحسان ونشره، وهو مأخوذ من قولك: شكرت الإبل تشْكُر إذا أصابت مرعى فسمنت عليه، والشُّكران خلاف النُكران، والشكر من الله: المجازاة والثناء الجميل، ويُقال: شَكَرَه وشَكَر له يشكُرُ شُكْرًا وشُكْرانًا، ويقال أيضًا: شكرت الله، وشكرت لله، وشكرت بالله، وكذلك شكرت نعمة الله، ورجلٌ شكورٌ، كثير الشكر، وهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته وأدائه ما وظّف عليه من عبادته “.
الشكر في الاصطلاح:
قال الكفــوي: “ الشكر كل ما هو جزاءٌ للنعمة عرفًا، وقال أيضًا: أصل الشكر: تصور النعمة وإظهارها، والشكر من العبد: عرفان الإحسان، ومن الله المجازاة والثناء والجميل “.
وقال المنــاوي: “ الشكر: شُكْران، الأول شكر باللسان وهو الثناء على المنعم، والآخر شكر بجميع الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر الاستحقاق، والشكور الباذل وسعه في أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه اعتقادًا واعترافًا “.
وقال ابن القيــم - رحمــه الله -: “ الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة “.
ويقــول صـاحـب المنــازل - رحمـه الله -: “ الشكر اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعم، ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن شكرًا “.
معـانـي الشكــر:
قال صاحب المنازل: “ ومعاني الشكر ثلاثة أشياء: معرفة النعمة، ثم قبول النعمة، ثم الثناء بها “.
وقــد شــرح ابن القيــم هــذا الكــلام بقــولـه: “ أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن، ومشاهدتها وتمييزها.
فمعرفتها، تحصيلها ذهنًا، كما حصلت له خارجًا، إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري، فلا يصح من هذا الشكر.
قـولـه: “ ثــم قبــول النعمــة “.
قبولها: هو تلقيها من المنعم لإظهار الفقر والفاقة إليها، وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه، ولا بذل ثمن، بل يرى نفسه فيها كالطفيلي، فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة.
قــولـه: “ ثم الثناء بها “.
الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان: عام، وخاص، فالعام: وصفه بالجد والكرم والبر والإحسان، وسعة العطاء، ونحو ذلك.
والخاص: التحدث بنعمته، والإخبار بوصولها إليه من جهته، كما قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ ... [الضحى: 11].
وفي هذا التحديث المأمور به قولان:
أحـدهمــا: أنه ذكر النعمة، والإخبار بها، وقوله: أنعم الله عليّ بكذا وكذا، قال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة: من جبر اليتم، والهدى بعد الضلال، والإغناء بعد العيلة.
والتحدث بنعمة الله شكر، كما في حديث جابر مرفوعًا: ( من صُنِع إليه معروف فليَجْز به، فإن لم يجد ما يجزي به فليُثْن؛ فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يُعْطَ كان كلابس ثوبي زور ).
فذكر أقسام الخلق الثلاثة: شاكر النعمة المثني بها، والجاحد لها، والكاتم لها، والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها، فهو مُتحلٍّ بما لم يُعْطَه.
وفي أثر آخر مرفوع: ( من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ).
والقــول الثانـي: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية: هو الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته، وتعليم الأمة، قال مجاهد: هي النبوة، قال الزجاج، أي بلِّغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله، وقال الكلبي: هو القرآن، أمره أن يقرأه.
والصــواب أنه يعم النوعين، إذ كل منهما نعمة مأمور بشركها والتحدث بها، وإظهارها من شُكْرِها “.