د. أيمن: التفصيلات الصغيرة مطلوبة دون تأثير علي الإبداع هل من حق المبدع ان يحور في الشخصية التاريخية. ويبدل في الأحداث التاريخية. بما يضيف إلي عمله الإبداعي. بصرف النظر عن الصدق أو نقيضه في روايته للوقائع التاريخية. الوجدان الشعبي أطال في عمر عنترة مئات الأعوام ليلحق الإسلام ويدافع عنه. وحول أدهم الشرقاوي من محترف للجريمة إلي بطل شعبي. والأمثلة كثيرة. لكن العديد من المؤرخين الأكاديميين - د. سعيد عبدالفتاح عاشور علي سبيل المثال - يصرون علي ان تحتفظ الشخصية بقيمتها التاريخية دون اضافة ولا حذف.
الإبداع - في تقدير يوسف الشاروني - يغير ما هو تاريخي. المبدع له رؤية خاصة. والإبداع يستمد مادته من منابع مختلفة. منها ما هو تاريخي. فالمبدع يأخذ الشخصية أو الحادثة التاريخية. ويصيغها. ويضيف إليها رؤيته. وهذا ما حدث في روائع شكسبير. وقد اختلف التناول في العقود التالية لأن الرؤية العصرية ينبغي أن تتلاءم مع روح العصر الذي تقدم فيه هذه الشخصية. الحقبة التاريخية التي عني بها المبدعون. وعلي سبيل المثال. فقد قدم الروائيون المحدثون العصر المملوكي علي أنه تاريخ ماض. لكن تناول الشخصية التاريخية جاء كقناع لتناول شخصية معاصرة وحاضرة. لا أتصور ان هناك من يرفض حرية تعامل الأديب مع الشخصية التاريخية.
تهريج
من حق المبدع - والكلام للدكتور أحمد عتمان - ان يطوع الشخصية التاريخية لأغراض فنية. يتوخاها وهو يرسم الخطة للأحداث. وللهدف الذي يرمي إليه. لكن هناك شروطاً أخري. أهمها ألا يخالف التاريخ مخالفة جوهرية. لنقل - مثلا - ان جمال عبدالناصر صعيدي مصري قاد ثورة 23 يوليو. فلا يمكن ان يخالف الكاتب هذه المعلومات. فإذا فعل ذلك فهو درب من التهريج. وإذا كان نابليون قاد حملة إلي مصر. استمرت ثلاث سنوات. إذا قلنا غير ذلك فهي مخالفات. الحرية في التفصيلات الصغيرة حين يستخدمها القاص أو الشاعر. إن له حرية في ذلك. لأن كتب التاريخ تصمت - في الأغلب - عن ذكر ذلك. يمكن للكاتب ان يخلق شخصية غيرموجودة أصلا تؤدي دوراً في تعميق الشخصية الرئيسية. أو تفسر سلوكها. أما أن نقول ان نابليون قدم إلي القاهرة للتنزه. أو نهمل ثورة المصريين علي قوات نابليون. فهذا أمر لا يمكن تقبله. علي الكاتب ان يتوخي الحذر. ولا يمس الخطوط الأساسية والجوهرية للشخصية التاريخية. وكما قلت فلا مانع من الحديث عن تفصيلات غير مؤكدة تاريخياً. لانها تضيء الشخصية وتؤكد معالمها الدرامية.
ويري د. حامد أبوأحمد ان هذا الأمر وارد كثيراً. لاختلاف المؤرخين والمصادر التاريخية نفسها. فكل مؤرخ ينطلق من رؤية مختلفة عن الآخر. الواقدي يختلف عن الطبري أو ابن كثير. هذا يدخل فيما يسمي علم التأويل وهو علي صلة قوية بالتاريخ وابن خلدون في مقدمته تحدث عن هذا وأشار إلي أن كثيراً من المؤرخين يدخلون الكثير من الخرافات والأساطير. واستثني عدداً قليلاً من المؤرخين لا يفعلون ذلك. إذن اختلاف الآراء في المصادر يجعل من حق الروائي أو الكاتب أن يأخذ بوجهة نظره التي تتفق مع منطلق عمله. ثانياً: الكتابة الإبداعية في العادة تكون متحررة من الرؤية الأحادية. لأنها تقوم علي ما يسميه باختين تعدد الأصوات الروائية. فتعدد الأصوات يعني تعدد وجهات النظر. باختين له تنظير كبير في هذا الجانب. وكتبه تتحدث عن هذا. تعدد الأصوات يمنح الكاتب فرصة أوسع لتناوله وبنائه. ففي المرايا لنجيب محفوظ كل شخصية تحكي من وجهة نظرها. حتي علي مستوي الحياة الواقعية موجود. كل هذا يعطي الكاتب ليقول رؤيته الخاصة. وهذا ما كتبته بالنسبة لروايتي محمد جبريل وسالم بن حميش عن الحاكم بأمر الله. فروايتاهما قائمتان علي شخصية الحاكم. وهناك اختلافات في التناول ووجهة النظر والرؤية. وأيضاً في اختلاف التقنيات. هي شخصية واحدة. لكن كل روائي منهما حملها بوجهة نظره. وأنا لا أمانع في هذا. بل هو أمر طبيعي. وإلا ما كان يحدث بينهم من اختلافات في جو العمل الإبداعي. منذ جورجي زيدان إلي محمد جبريل وسالم بن حميش وجمال الغيطاني.
كما يحيا الناس
ويعبر د. أيمن فؤاد سيد عن رفضه لتحويل الشخصيات التاريخية. لأنها ستعطي انطباعاً معاكساً للشخصية التاريخية وطبيعتها. من حق المبدع أن يتصرف في سير الأحداث. لكن ليس من حقه أن يؤكد علي فكرة معينة من شأنها تحوير طبيعة الشخصية وجوهرها كما جاءت لنا في كتب التاريخ. أما الأحداث المحيطة به. فمن العادي أن يتم التدخل فيها. لأن الدراما ستتطلب خلق شخصيات لم يعد التاريخ يذكرها. أو لم يكن لها وجود أصلاً. لكن ينبغي ألا أضع في الشخصية سمات لم تكن بها. أي أن أجعل من شخصية مستهترة عابثة. شخصية أخري متدينة. أي أن أظهرها بمظهر لم تكن عليه بالفعل. أن أنسج قصة حب بين الشخصية التاريخية وشخصية أخري. فهذا أمر عادي. لأنه لابد للشخصية التاريخية أن تحيا كما يحيا الناس. وهو ما قد يأتي هامشياً في حياة الزعيم مصطفي كامل. لكن أن أجعل مصطفي كامل يتصل بأناس لم يتعرف إليهم. ولم يتصل بهم. فهذا أمر غير مقبول. التفصيلات الصغيرة لم يهتم التاريخ بذكرها. وهذا لا يؤثر في الشخصية. أو جعلها تتحمل أشياء لا تتحملها. أو تتبني آراء لم تقلها. نحن نتفق مع المبدعين علي حرية التصرف في التفصيلات الصغيرة التي لا تؤثر علي تكوين الشخصية.
وهناك حقيقة مهمة في تقدير د. حسين حمودة. لعلها كما يقول أصبحت بديهية فيما يخص العلاقة بين الأدب والتاريخ. وهذه الحقيقة ببساطة هي أن هناك مسافة بين ما يسمي الحقيقة الفنية من جانب والحقيقة التاريخية من جانب آخر. ومعني هذا ان المبدع يتفاعل مع التاريخ ليستخرج منه تاريخه الخاص. ومن المعلوم ان كل الكتابات عن الفترات التاريخية المتنوعة لا تستطيع أن تقدم كل الحقائق. ولا كل التفاصيل عن تلك الفترات. المؤرخ يرصد في تأريخه ما يستطيع أن يصل إليه. ومن ثم تظل هناك في كل تأريخ تغيرات ومساحات فارغة أو مجهولة. والمبدع وحده هو الذي يستطيع أن يملأ تلك التغيرات والمساحات. يمكنه أن يضيف تفاصيل جديدة. أو أن يستبعد تفاصيل موجودة. أو متاحة بالفعل. بالاضافة إلي التلاعب بالزمن وإعادة ترتيبه. وعلي ذلك كله تتداخل الأعمال الإبداعية التي تتعامل مع التاريخ في أبعاد توثيقية مع أبعاد تخيلية أو إبداعية.. بالاضافة إلي ذلك كله. هناك أعمال تاريخية نحت منحي إبداعي. ومن أشهرها كتاب كريستوفر هيرولد بونابرت مصر الذي صيغ صياغة أقرب إلي السرد الروائي. وفي المقابل هناك حشد كبير من الأعمال الروائية العربية التي تعاملت مع التاريخ بحس إبداعي رفيع.
ويذهب الكاتب المسرحي عاطف الغمري إلي انه مادام المبدع دخل في دائرة عمل يتصل بشخصية لها وجود تاريخي. فهذا يحمل أمرين: الأول أن يضطر المبدع إلي ابتداع شخصيات من خياله. وأحداث من خياله. تلبية لقواعد الدراما بإقامة العلاقات والصراعات بين الشخصيات. وتطور الأحداث. يغير المبدع في المسار الطبيعي للشخصية. سواء من حيث ما كانت تحمله من فكر. أو هدفها في الحياة. أو خصائصه المحددة. هنا المجال مفتوح لإطلاق الخيال حسب مقتضيات العمل الفني. لكن دون أي تجاوز يغير من الأحداث. أو من طباع الشخصية.
ومن وجهة نظره ككاتب دراما يجد الكاتب شعبان يوسف أن هناك أمرين. لو أني أكتب الدراما التي تستمد مادتها من التاريخ. فبوسعي أن أتصرف في التفصيلات الصغيرة. أضيف إلي الشخصية بعض التفصيلات الصغيرة التي تضاف إلي الشخصية. فتعمقها دون أن أتصرف في الشخصية ومسيرتها المعروفة. فلا يمكن مثلاً -أن أزعم أن الصليبيين انتصروا في موقعة حطين. المؤلف يستنطق الشخصية التاريخية. التزم بالحدث والتفاصيل التاريخية إلي ما لا نهاية. هناك خطوط عريضة في تاريخ الشخصية. المؤرخ لا يهتم إلا بالأحداث الجسيمة التي تغير مسار الأمم. وهناك خلاف في الرأي بالنسبة لنكبة البرامكة ودوهم في عهد هارون الرشيد. هل تآمروا عليه. فنكل بهم؟ أو أن الموضوع هو موضوع عرقي. لأن الوزير البرمكي تزوج من العباسة أخت هارون الرشيد. التاريخ بالنسبة للمبدع هو المادة الخام التي تكون مصدراً من مصادر الإبداع. عليه أن يتعامل معه الفنان بما يسهم في صقل عمله