هل تعرف من هو : الشيخ محمد بن يوسف سيتي " رحمه الله "ولد قبل ثمانين عاما ً تقريبا في أسرة ثرية تعيش في شبه القارة الهندية وتحديدا في باكستان ، وهذه الأسرة كانت من طائفة السيخ . وكعادة الأسر الثرية ، التي تعهد بأبنائها إلى معلمين ومربين يعلمونهم ويربونهم ؛ عهدت هذه الأسرة بابنها إلى معلم مسلم يتربى عنده . تعلَّم هذا الابن وتربى على يد هذا المعلم المسلم ، وتلقى منه قيم الإسلام وأخلاقه وعقيدة التوحيد ، فما كان منه إلا أن أعلن دخوله في هذا الدين وأسلم لله تعالى .
● غضبت أسرته من دخول ابنها في الإسلام ، فتبرأت منه . ولكن لأن هذا الشاب رضع لبان التجارة وعاشها بفطرته ؛ فقد شق طريقه حتى كوَّن له ثروة مرموقة . تزوج وصار له أبناء ، وأدخل أبناءه مدارس تحفيظ القرءان الكريم في بلدته ، لكن أبناءه خذلوه ولم يستمروا في الدراسة ، فشعر بالحزن ؛ لأن أمله في أن يحفظ أبناؤه القرءان الكريم قد تبخر . شعر مدير المدرسة بالألم الذي أصاب الرجل من جراء ترك أبنائه تعلُّمَ القرءان ، فطرح عليه فكرة ، قال : " أنت تحرص على تعليم أبنائك القرءان ، فاعتبر أن جميع الطلاب الذين في هذه المدرسة هم أبناؤك ، فارعهم واحرص على تعليمهم القرءان ، وتبنَّ الاهتمام بهم وتطوير هذه المدرسة " .
● راقت الفكرة لهذا الرجل " محمد يوسف سيتي " وفكّر في أن يطور هذه المدرسة وأن يجلب لها أفضل المعلمين من بلاد الإسلام . وعندما سأل نفسه : أين يمكن أن يجد أفضل المعلمين لتعليم القرءان الكريم ؛ لم يجد أمامه إلا إجابة واحدة ؛ مكة المكرمة ستكون الموطن لهؤلاء المعلمين المتميزين .
● حزم أمتعته وتوجه إلى مكة يبحث عن معلمين لتعليم القرءان الكريم ، لكنه فوجئ بأنه لا توجد في مكة جهة تُعنى بتعليم القرءان الكريم ، وإنما هناك مبادرات من أفراد وحِلَق وكتاتيب لتعليم القرءان الكريم تتناثر في زوايا المسجد الحرام ، فطرح على نفسه سؤالاً : " أيهما أَوْلى بالاهتمام : مدرسة تُعنى بتعليم القرءان الكريم في بلدي أم في المسجد الحرام ؟ فلم يجد أمامه إلا إجابة واحدة : المسجد الحرام .
● عرض الشيخ محمد يوسف سيتي فكرته في إنشاء جمعية لتحفيظ القرءان الكريم في مكة المكرمة على علماء المسجد الحرام ، فتحمسوا لها ودعموها ، فكانت أول جمعية لتحفيظ القرءان الكريم في المملكة العربية السعودية وذلك عام 1382 هـ ، وجلب لها الشيخ مائة معلم من باكستان لتعليم القرءان الكريم ، وبدأت هذه الجمعية المباركة في رحاب المسجد الحرام ومساجد مكة المكرمة .
● بعد سنتين ، انتقل محمد يوسف سيتي إلى المسجد النبوي لنقل فكرة تأسيس جمعية لتحفيظ القرءان الكريم في المدينة النبوية ، وعرض الفكرة على علماء المدينة ، فرحبوا بها وتحمسوا لها . وكانت هذه الجمعية ثاني جمعية لتحفيظ القرءان الكريم في المدينة في عام 1384 هـ . نشطت هذه الجمعية في المسجد النبوي الشريف وفي مساجد المدينة ، حتى أقبل عليها الناس لتعليم أبنائهم كتاب الله ـــ تعالى ـــ وتحفيظهم القرءان الكريم .
● وفي عام 1386 هـ ، انتقل إلى الرياض للفكرة نفسها ، ألا وهي إنشاء جمعية القرءان الكريم في مدينة الرياض العاصمة ، وعرض الأمر على سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم ـــ رحمه الله ـــ آنذاك ، فما كان من الشيخ إلا أن رفع الأمر إلى الملك فيصل ـــ رحمه الله ـــ الذي وافق على الفكرة ، وكلّف الشيخ محمد بن إبراهيم بالإشراف على هذه الجمعية ، فاختار الشيخ أحد أبرز تلاميذه النجباء ، وهو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن فريان ـــ رحمه الله ـــ لتأسيس هذه الجمعية وإدارتها .
● بدأت هذه الجمعية في مدينة الرياض بخمس حلقات في مساجد الرياض ، ثم توسعت وتوسعت حتى زاد طلابها في وقتنا الحاضر من الذكور والإناث عن مائة وعشرين ألف طالب وطالبة .
● وتوالى إنشاء جمعيات تحفيظ القرءان الكريم حتى وصل عددها إلى ما يزيد عن 120 جمعية في أنحاء المملكة . كانت تلك البذور الطيبة التي ابتدأت في مكة ثم المدينة ثم الرياض هي النواة لهذه الجمعيات المباركة .
● لم يتوقف أثر هذه الفكرة على المملكة العربية السعودية ، بل تجاوزه إلى أقطار عدة في إنشاء جمعيات متخصصة في تحفيظ القرءان الكريم ؛ حيث أنشئت في دول الخليج وفي مصر وفي الشام وفي الأردن ، بل في فلسطين ولبنان واليمن وغيرها من الجهات التي تسابقت لإنشاء مثل هذه الجمعيات ، وتسابقت للعناية بتربية هذا النشء على القرءان الكريم .
● ويكفي هذه الجمعيات فخراً أنها خرجت جيلا ً مباركا ً من العلماء وطلبة العلم ، بل خرّجت جيلا ً مباركا ً من أئمة المسجد الحرام والمسجد النبوي الذين يصلي خلفهم الملايين ، وتشرئب أعناق الناس لزيارة بيت الله الحرام وزيارة مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم والصلاة خلف هؤلاء الأئمة المباركين ، الذين هم نتاج لتلك الحلقات المباركة التي حفظوا فيها كتاب الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وتربوا عليه ، وكانوا قدوة في الخير ، وقدوة في العمل ، وقدوة في الدعوة .
● محمد يوسف سيتي ـــ رحمه الله ـــ قدم إلى ربه وهو لا يعلم إلى أي حد وصلت أو ستصل هذه الجمعيات وهذا الأثر المبارك لتلك الحِلَق الطيبة ، ولكن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وحده يعلم أثر هذه الجمعيات .
● وهنا نقول : إن هذه الثمرة المباركة التي بذرها أولئك النفر المباركون من أهل العلم في هذا البلد المبارك كانت لها هذه الثمار اليانعة الطيبة التي نسأل الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أن يجزيهم عليها خير الجزاء .
اسمه محمد يوسف بن عبد الرحيم سيتي .ولادته ونشأته: ولد سنة 1324هـ .أعماله: ورث عن أبيه حب الأعمال التجارية والصناعية فضلاً عن حبِّ القرآن وقراءته والتشجيع على حفظه وتعليمه ، وعندما بلغ السابعة والعشرين من عمره ناب عن أبيه في توزيع الجوائز على التلاميذ الحفظة في المساجد .نجح الشيخ يوسف في تجارته حتى صار من كبار أرباب الصناعة في بلاده باكستان ، ولقبّته غرف التجارة والصناعة في أوربا وأمريكا بملك القطن والصوف .وكان - رحمه الله - يدير حلقات تحفيظ القرآن ويشرف عليها بعقلية رجال الأعمال ، فكوّن جمعيات للتحفيظ
على مستوى المدن ؛ فكانت الجمعية تجمع تبرعات من أهل المدن بمقدار ثلثي ميزانيتها السنوية ، ويتبرع الشيخ بالثلث الباقي ، وتقوم الجمعية بتمويل حلقات مساجد الأحياء بمقدار الثلثين ، ويتولى أهل الحي جمع الثلث الباقي .ثم تقاعد الشيخ عن إدارة مؤسساته الصناعية ، وأوكل ذلك لأبنائه .قدم الشيخ إلى مكة - شرّفها الله - في رمضان عام 1381هـ للاعتمار والمجاورة بها . وربما كانت أجواء رمضان القرآنية بالمسجد الحرام دافعاً إلى مدّ مشروعه إلى مهبط الوحي ؛ فبدأ ذلك بمعاونة صديقه الدكتور مصطفى محمد إبراهيم الطبيب المعروف بمكة ؛ فكونت أول حلقة لتحفيظ القرآن الكريم بمسجد الحوازم بحيّ الزاهر بإشراف إمام المسجد الشيخ محمد الردّادي - مدّ الله في عمره - مع لجنة من أفاضل الحيّ ومتابعة شخصية من الشيخ يوسف نفسه .وفي أوخر شعان عام 1382هـ أقام المسجد حفلته الأولى لتكريم تلامذة الحلقة ؛ حضرها لفيف من أهل مكة الذين تشكّلت من أعيانهم على أثر ذلك جماعة تحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة ، وانتخب الشيخ يوسف أول رئيس لها تكريما له ولجهوده .وكان مسجد بن لادن بالحفاير أول المساجد انضماماً للجماعة مع مسجد الحوازم ، ثم تولّى انضمام كثير من مساجد مكة المكرمة .قام الشيخ يوسف بصحبة الدكتور مصطفى - الذي ترك مهنة الطبِّ وتفرغ متطوعاً لخدمة القرآن الكريم - برحلات عديدة لأنحاء المملكة ؛ منها رحلة إلى القصيم بطلب من الشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد - رحمه الله - ورحلة للمدينة النبوية والطائف والجنوب والرياض بطلب وعدم من الشيخ عبد الرحمن الفريّان - رحمه الله - فتكونت جمعيات لتحفيظ القرآن الكريم في أماكن مختلفة من المملكة ، وكلها كانت تابعة للجمعية الأم بمكة - شرفها الله - ثم وفق الله أن استقلت هذه الجمعيات بأمرها واحدة تلو الأخرى .قام الشيخ يوسف بدعم منه ومن بعض رجال الأعمال بجدة ومنهم الشيخ عبد الله السليمان والشيخ محمد صالح با حارث برحلات إلى خارج المملكة مثل سوريا ولبنان والسودان وبعض أقطار الخليج وشرق أفريقيا ؛ حيث بدأ هناك بتأسيس جمعيات محلية لتحفيظ القرآن الكريم . ولكن وفاة الشيخ يوسف حالت دون بروز نشاط تلك الجمعيات واستمرارها ، فقد توفي في مدينة كراتشي سنة 1397هـ . رحمه الله تعالى رحمة واسعة ، ورحم كل من أسهم في هذا المشروع المبارك ، ومدّ الله في عمر الأحياء منهم على العمل الصالح
منقول