العيش مع القرآن
في زمن مضى ، ودهر قد انقضى ، كنت أحث الخطى بهمة علية ، وأسارع الريح بنفس تواقة أبية ، فاصطدمت – فجأة- بباب مفتوح لإحدى المدارس القرآنية ، فكانت هناك مشاهد حية ، سأنقلها لكم بكل صدق ومصداقية; طلاب يلتفون في حشود مستديرة جماعية ، يحملون معهم مصاحف يحدقون فيها بروية ، وعالم في الوسط يرقب الأوضاع بجدية ، فلما أتموا ، قال لهم : هلموا نتذوق هذه الزبدة التفسيرية ، التي فيها من الرقائق الإيمانية و اللطائف الوعظية ، والنكات الأدبية ما يجعلها غضة طرية ، ونسائمها ذات هبة فجرية ، وخلاصتها معطرة بفوائد علمية ، فتأملت فيما يقولون مليا ، وتسللت إلى الفناء عرضيا ، وسجلت في قراطيسي ما يسر الله لي ، فهيا – آيها المسافر – نحلق في سماء القرآن سويا . استقام المدرس حين قام و استهل بخير الكلام : يا أحبابي اسمعوا وتدبروا ، وفي آي الذكر تبصروا وتفكروا ، فالتدبر حياة القلب ، والتفكر مناجاة للرب ! ‹ قبل الدخول في عالم القرآن الرحيب ، وفضاءه المعجز العجيب ، ووصف ما بداخله عن قريب ، أردت أن أهمس في أذن كل حبيب :‹ إنها لحظات ندية وطيوب إيمانية ذات نكهات رمضانية ، سالت منها – بفضل الله- أودية من الهدايات القرآنية تدعوا الأمة المحمدية للعودة إلى مصدر العزة الإسلامية ›هذه مجالس التدبر والإيمان، ننتقل فيها وإياكم من جنان إلى أفنان ، من آي القرآن ، وإلى أحكام الفرقان ، نتجول مع قصص الأنبياء ، نطلب الهداية والاقتداء ، نجني أطايب الثمر ، من عظات و عبر، وأمثال نقوم بها بنات الفكر ، عسى الله أن يمن علينا وعليكم بالتمسك بحيل الله المتين ، ومدارسة كتابه المبين ، فيكون لنا – بعد ذلك- منهج حياة ، وعنصر التزام وثبات ، وقارب نجاة ! فيا رب اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا .يا سادة يا كرام : لقد هجر بعض المسلمين المتأخرين روضة القرآن، وانشغلوا بالقنوات و المجلات ذات الزخارف والألوان ، وأكب البعض الآخر على ضبط التلاوة من الألحان، والرقي بها للتحقيق والإتقان ، ونسوا أو تناسوا أن الهدف من انزال القرآن هو ضبط سلوك الإنسان، بما يحقق الرحمة والعدل والإحسان.وتنهد المدرس بعد أن بكى ، ثم صاح بأعلى صوته واشتكى : ‹يا أمة الآيات البينات ، لم اكل هذه لآهات والزفرات ، والدمعات والصيحات !ألم تعلمي أن القرآن هو الدواء ، فبالعودة الكاملة له تشفين من كل الأدواء ، و يموت معك كل شقاء و عناء ، ويتحقق الميلاد الجديد ويشع الضياء ، فاستجيبي- رحماك- لنداء السماء › وواصل المدرس حديثه الماتع بدعوتهم للحياة مع هذا الكتاب الجامع فقال وصال وجال :يا رجال الجد ، يا شموس الغد : العيش مع القرآن يثير في النفس أشواقا ، يعالج ملتاعا وينعش مشتاقا ، يسيل في الجسم ترياقا ، ويفتح للروح الطموحة أفاقا ، يجمع أحبة له ورفاقا .العيش مع القرآن رحلة إيمان و ينبوع معرفة بالرحمان ، هو هزيمة كاسحة للشيطان وهداية للإنسان.العيش مع القرآن انفعال وتفاعل ، وامتثال وتماثل ،عمل وتعامل .العيش مع القرآن انسجام وتلاحم ، تناسق و تناغم ، فهم وتفاهم . العيش مع القرآن آيات وسور ، دروس وعبر ، كنوز ودرر .العيش مع القرآن عملية تفاعلية بين الوحي والقلوب المستعدة الحية ، بتحقق الشروط الأساسية ، وانتفاء الموانع الفهمية ، هنالك تؤتي التلاوة أكلها ، ويتضاعف أجرها بمثلها ، حينما يتمثل القارئ الآيات في حياته تطبيقات في كل المجالات.آيها الطلاب الكرام : هذه قصة البداية ، توضح للعالم الهدف والغاية ، وتدلل على المنهج الرباني للهداية ، نحن الآن في موسم رمضان ، ورمضان شهر القرآن ، فرمضان والقرآن قرينان لا يتفارقان ، وصاحبان متلازمان ، فرمضان يأنس بالقرآن ، والقرآن يستأنس برمضان ، فتقدس الملك الجليل ، الذي جمع بينهما بالتنزيل ، على قلب صاحب الغرة والتحجيل ، المذكور في التوراة والإنجيل بواسطة أمين الوحي جبريل !والدليل في الصحيحين من حديث بن عباس –رضي الله عنهما- ” كان رسول الله أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ،فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة “إنه لقاء النور ، فيه الشوق والمحبة والسرور ، فيه المتعة والأنس والحبور .إنه لقاء التميز والريادة ، والضبط والإتقان والإجادة ،اتصلت فيه الألفاظ بالمعاني فحصلت الإفادة . إنه لقاء الهداية والرعاية ، فيه التلقين والمشافهة والعناية ، فأنعم به من مجلس رواية و دراية .إنه بحق لقاء والتقاء ، فيه علو وارتقاء ، اتصلت فيه الأرض بالسماء ، وتنورت بالوحي البطحاء ، وأشرقت الأرواح بالضياء ، ولاح النور القدسي الوضاء .جمع اللقاء بين عظيمين ; أفضل الرسل والنبيين وأفضل الملائكة أجمعين ، وكان محور النقاش الذي بينهم قد جرى ، هو أحسن الحديث نزل به الروح الأمين على خير الورى ، فصلى الله عليه ما قلم جرى !إنها معجزة ( ق والقرآن المجيد ) التي صنعت الإنسان المسلم المتوازن الفريد، وانتشلته من ركام الوثنية والجهالة والظلمة من جديد ، حيث صار المؤمن يستمد قيمه ومبادئه من السماء لا من الأرض ، وينشغل بالروح والمخبر لا بالشكل والطول والعرض ، إنه مصنع القرآن الذي يخرج صناع التأثير و رواد التغيير !فعاش أناس مع القرآن وهداياته ، ففتحوا القلوب بإشراقاته ، ودانت لهم الدول بمناراته . لقد أثر القرآن على محمد النبي ، الطاهر الزكي ، فذرف الدمع عند تلاوته ، وارتعدت فرائصه لجلالته ، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال له : اقرأ علي القرآن ” قال يا رسول الله ، أأقرأ عليك ، وعليك أنزل ! قال : “إن أحب ان أسمعه من غيري ” قال : فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت هذه الآية : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال: حسبك الآن، فالتفت فإذا عيناه تذرفان.تدبر النبي القرآن فإذا قلبه في خفقان، ويداه ترتعشان حتى ذرفت العيانان ! ولقد عاش الصحابة بالقرآن و للقرآن مع القرآن ، فجعلوه دستورا لحياتهم اليومية، وانصاعوا لما فيه من الأحكام الشرعية ، قال عبد الله بن مسعود : ‹ كنا إذا تعلمنا من نبي الله عشر آيات من القرآن ، لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعلم ما فيها ›وبين الله أثر القرآن العظيم على الجبال الجوامد ، فلو خاطبها به لتفاعل معها كل قاس وبائد ، قال تعالى
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ) وقال أيضا : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) ما أعظم القرآن ! وما أحلى العيش في طيوبه ، وما أندى التنقل بين سواقيه و دروبه ، فهنيئا لمن أخذه بحق ، وأعطاه المستحق ، وقرأه كما قال الحق ، فقاده إلى دار الحق .القرآن هو المعجزة المستمرة الباقية ، فيها السور والآيات الراقية ، والمواعظ البليغة المؤثرة ، والقصص المعبرة المحفزة والمنفرة .في القرآن وعد ووعيد ، وتخويف وتهديد ، فيه تنسيق وترتيب ، وترغيب وترهيب، فيه اعجاز وإيجاز ، واختصار وتكرار ، فسبحان الواحد القهار ! يا عباد الله : لابد من ذكر المفهوم ، لتتضح في الذهن الفهوم ، وتدرك دقائق العلوم القرآن هو كلام الله المنزل على قلب محمد بواسطة أمين الوحي جبريل المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته ، المحفوظ في الصدور والسطور، المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس .وصف الله القرآن بأنه سر تميز المسلمين ، قال تعالى في كتابه المبين : ‹وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ›‹ ق والقرآن المجيد › وقال أيضا : (ص والقرآن ذي الذكر) وطالبنا الله بالأدب الجم أجمعين ، إذا ما قرأنا هذا الكتاب المبين ، الذي موعظة للمتقين ، قال تعالى
فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون )فالسماع غير الاستماع ، والزيادة في المبنى زيادة في المعنى فلن تراع .إن السماع هو وصول الأصوات إلى الأذن من غير قصد ، والاستماع هو الفهم والاستيعاب والرصد.ولقد دعانا الله للتهيؤ حين تلاوته ، والاستعادة عند بدايته ، قال تعالى : (فإذا قرات القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم )ولقد ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم – فضل القرآن و قراءته ، فقد روى مسلم عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ‹اقرؤا القرآن فإنه يأتي القرآن شفيعا لأصحابه› ولابد لهذا القرآن من تعاهد والتزام، والزهراوان وهما : سورة البقرة وآل عمران تدفع صاحبيهما إلى الأمام ، فقد روى مسلم عن النواس بن سمعان – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ‹ يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا ، تقدمه سورة البقرة وآل عمران ›اسمع آيها الطالب النجيب الألمعي ، ما قاله الإمام علي- كرم الله وجهه- : ‹كتاب فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، هو الذي لا تزيغ به الألسنة ، ولا تلتبس به الأهواء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ›وقد قال عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما-: ‹ جمع الله في هذا الكتاب علم الأولين والأخرين، وعلم كان وما سيكون ›يا أحباب : انتبهوا لمقاصد الكتاب ، وكونوا من أولي الألباب :يهدف القرآن الكريم إلى ترسيخ القيم التربوية الإصلاحية ، على جميع المستويات الفردية منها والمجتمعية ، فالمقصد الأول هو تخليص العقائد من الشرك والالتباس ، والقضاء على البدع في عبادات الناس ، وترسيخ الأخلاق وتزكية النفوس بالأساس ، وإصلاح الدنيا من خلال أفضل تشريع ينير الدرب ويزكي الحواس .أما خصائص كتاب الله ، أولها أن القرآن الكريم هو من عند الله ، والعظيم لا يأتي إلا بعظيم ، قال تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) وثانيها أن كتاب الله لا شك فيه ولا باطل ، قال سبحانه وتعالى : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) هذا وقد جعله الله ميسرا للاعتبار ، مذللا للاستبصار قال تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) وهو المخرج من كل المحن ، والنجاة من جميع الفتن ، قال تبارك وتعالى
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) آيها الطلاب النجباء ، ارفعوا رؤوسكم للسماء : إن العيش مع القرآن يقتضي أولا معرفة فضله ، وفهم نصوصه وعقله ، ثم استعمال المفاتيح في فن التعامل مع وحيه، والتأدب حين تلاوته واستشعار أمره ونهيه.اعلموا أن أهم المفاتيح هي النظرة الكلية الرامية ، وفهم أهداف الوحي النبيلة السامية ، وملاحظة المهمة القرآنية العملية ، والمحافظة على جو النص القرآني والسياقية .اعلموا أن التلاوة لها آداب ، تبذل كأسباب ، منها استحضار النية ، والإخلاص لله في الطوية ، ثم تفريغ النفس من الشواغل المهمة ، وقضاء الحوائج النازلة الملمة ، ثم الاختيار الأمثل للزمان والمكان ، والجلوس كما للتشهد بحثا عن الخشوع وطلبا للاطمئنان ، والبدء يا فهيم ، يكون بالاستعاذة من المجرم العاتي الأثيم ، كما قال الرب العظيم
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، ثم افتتاح السور بالقول الكريم ، بسم الله الرحمان الرحيم . يا قراء ! عظموا المتكلم- سبحانه وتعالى- واشعروا بكرمه ، وجزيل نعمه ، يا من تلوت البينات ، تأمل فأنت مخاطب بهاته الآيات وما فيها من التكليفات ، قفوا طويلا مع الآيات وكرروها وابكوا وتباكوا حتى تفهموها ، واعلموا أن القرآن كالمطر لا يؤثر في الصخر ولا الجماد ، بل يتفاعل مع التربة المهيأة بالسماد ، فأصلحوا قلوبكم التي تمثل المحل و الوعاء ، ووظفوا كل حواس الغطاء لعملية التفاعل والانفعال مع القرآن سواء بسواء . وفي الأخير، أسأل ربي العفو عن كل تقصير ، وصل الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير.
المصدر
mqalh
عبد الغني حوبة