من هو ذو القرنين؟
هذا الرجل طاف لمسافات كبيرة جداً في الكرة الأرضية، هو وفريق العلماء الذي يرافقه، ومفتاح شخصية هذا
الرجل شيئين: الأول دنيوي والثاني إيماني. الشيء الدنيوي: هو حب اكتشاف المجهول، الشيء الإيماني: هو
حب الخير والإصلاح في الناس، فاستخدم حبه لاكتشاف المجهول من أجل الإصلاح في الأرض.
قصته توجد في سورة الكهف، وبعد قصة موسى والخضر مباشرةً، ويقول الله سبحانه وتعالى في الآية: "... قُلْ
سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً "(الكهف83)، فلم يحكي الله عنه كل شيء من تفاصيل مولده أو حياته الشخصية، لكنه
حكى لنا عن القوة العالمية حينما توَجَه للخير، وحينما تكون هناك قوة عالمية في الأرض فلا تُنهبُ ثرواتُ الشعوبِ
وإنما تُصلحِ في الأرض، وهذه الزاوية التي سنراها اليوم وهي لمن يُعطي ولا يأخذ خير الآخرين . ثم تأتي
الآية: "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً "، إذن كل إمكانيات الإصلاح، والنهضة، والقوة العالمية
موجودة لديه، من قوة عسكرية رهيبة، وقوة اقتصادية عظيمة، وقوة تكنولوجية، وعلمية غير موجودة في الأرض،
وقوة روحية، وإيمانية، ودافعة غير موجودة في الأرض، وهو رائد التنمية بالإيمان. وهي الفكرة التي ذكرناها في
صناع الحياة، فإذا أردت أن تراها مُجسدة في قصة من قصص القرآن فستجدها في ذي القرنين: التنمية بالإيمان.
فإذا قارناه بنابليون، فيكون هوالأفضل؛ فنابليون هُزم في النهاية، وإذا قارناه بالإسكندر الأكبر، فيكون هو الأفضل؛
فالإسكندر أفسد في النهاية، فإذا قارناه بأمريكا، فيكون هو الأفضل؛ فأمريكا لديها بعض أسباب القوة، لكن لم
يجتمع لأحد من كل شيء سبباً، فهي قوة لم تحدث من قبل! يقول سفيان الثوري:" لم يجتمع لبشر مَلَكَ الأرض إلا
لمؤمنين: سُليمان وذي القرنين"، والآية تقول: "... وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً "، فالله تعالى أعطاه الأسباب ولا
توجد خوارق، فهو ليس نبي ولا مَلِك، فالله تعالى أعطاه مفاتيح العلوم، والحضارة، والنجاح، وهو لديه حب اكتشاف
المجهول، وتَربى على حب الخير والعطاء لكل البشر بصرف النظر عن جنسياتهم أو أديانهم، وهو مشابه لإبراهيم
عليه السلام ويوسف عليه السلام، ومن أشباه الفاتحين في الإسلام: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهم،
ومن أشباه المستكشفين: كولومبس، وتاسكو داجاما، و من أشباه زعماء العالم الذين طافوا الأرض كالإسكندر
لكنه تفوق عليه بشدة. هو شخصية عالمية، فذة، مؤمنة، مُصلحة. فلماذا يحكي لنا الله قصته في القرآن؟ فهذا هو
قرآننا والله آتانا من أسباب الإصلاح والنهضة.
ذو القرنين والطموح:
ملحوظة عجيبة: لماذا ذكره القرآن باسم ذو القرنين؟ ألأنه بلغ قرنيِّ الشمس! أم لأنه ملك قرني الحضارة! وهو
المعنى الأعمق، والحضارة إما مادية أو روحانية، وعادةً الذي يجمع بين الاثنين يكون قليلاً جداً، فالغرب يمتلك
حضارة مادية عظيمة لكنه يفتقر للروحانيات، أما ذو القرنين فقد ملك قرن العلم، وبتوجيهه العلم للإصلاح فقد ملك
قرن الإيمان. "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ". أنه مُكِن من كل الأرض، بالأسباب وليس
بالتواكل، بل بالعمل، والهندسة، والجغرافيا، والطب، والتاريخ، والعلوم، واللغات، والمعمار والآلات الحربية،
فعندما يجوب العالم سيحتاج لكل تلك العلوم، فكفانا تواكل! ونحن ندعو كل رمضان أن ينصرنا الله ومع ذلك حالنا
كما هو، لأنه دعاء بدون عمل، وفي سورة آل عمران صفحة كاملة دعاء: "رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ
أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا ... " (آل عمران 193)، ثم الرد على الفور "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ
عَامِلٍ مِّنكُم ... "، ولم يقل دعوة داعٍ، وذو القرنين لم يكتفِ بأخذ الأسباب كلها، بل في الآية: "فَأَتْبَعَ سَبَباً "
(الكهف85)، وجه شعبه وشباب الأُمة لمزيد من العلم، فعلم الله لا ينفذ وقد أعطاه مفاتيحه، وهذا طموح غير عادي.
فإذا أعطى الله أحد الشباب موهبة ما، تجده يحمد الله عليها ثم يتوقف على ذلك، ويستخدمها عدة سنوات ثم يقف،
مثل لاعب الكرة الذي يوقف طموحه ولا ينطلق للعالمية لكي نرى أفضل لاعب مسلم على مستوى العالم، ومثل
صاحب شركة محلية ينجح بشدة ولا يصل بها إلى العالمية مثل الغرب لأن طموحه توقف، ومثل كاتب القصة الذي
يصبح أفضل كاتب في الوطن العربي ولا ينطلق للعالمية لأنه لا يُطور من نفسه.
نشأة ذو القرنين :
الله تعالى جعل السماء عالية ليصبح طموحك بلا نهاية، فتخيل إن كانت فوق رأسك مباشرة! أما ذو القرنين فهو
يعمل بطموحه ليل نهار، والسؤال هو كيف أصبح هكذا؟ الجواب يتلخص في ثلاث نقاط:
1. ذو القرنين نتاج أُمة فمن غير الممكن أن يكون هكذا وحده، لكي لا نظلم أنفسنا، أو أظلم الشباب بأن أجبرهم
على أن يكونوا ذا القرنين، فذو القرنين عمل تراكمي، من الممكن جداً أن يكون 300 سنة عمل من جيل لجيل،
يبدأ بالتعليم مثل قصة موسى والخضر، ثم أُمة لها رسالة، ثم عزم، ثم قوة، ثم علم، ثم ينتج ذو القرنين، فذو
القرنين ليس نتاج نفسه بل نتاج أُمة، مثل صلاح الدين الذي ليس نتاج نفسه، فأولاً خرج الإمام أبي حامد الغزالي،
وقدم كتاب إحياء علوم الدين، ليُفهَمَ الدين بشكل يناسب زمانهم، وبدأ ينشئ مدارس تَخَرج منها نور الدين محمود،
وأسد الدين شيركوه، ثم خرج صلاح الدين، فإذ هم ثلاث أجيالٍ. فلن نظلم الشباب ولكن على الأقل لابد من وضع
بذور ينتج منها ذو القرنين، ولماذا يحكي الله تعالى لنا هذه القصة؟ أين الأُمة التي تُخرج ذو القرنين؟
2. ذو القرنين بدايته حلم، وأنا متأكد أن قصة مشرق الشمس ومغربها بدايتها حلم زُرع به منذ الطفولة من والديه
أو منه، ويتفكر ويرى الشمس والغروب وحب الاستكشاف وهي الصفة التي يفتقدها شباب المسلمين اليوم،
والمجهول لايزال كثير في العالم، المجهول في أعماق البحار، وآفاق السماء، وفي الكائنات الحية، وفي جسم
الإنسان، وفي قاع الأرض من معادن وبترول. لذا فالمجهول لازال كثيراً ويبحث عن من يكتشفه، شباب الغرب
مازال لديهم حب الاستكشاف، ومازال شباب المسلمين لديهم خجل وتوقف من اقتحام المجهول، فهل هذا بسبب
طريقة التعليم؟ أم قلة الثقة بالنفس؟ أم قلة الطموح؟ وذو القرنين حلمه الأرض كلها، والله تعالى لم يصف لنا
الأماكن التي وصل لها جغرافياً، لكن أخبرنا أنه وصل لآخر الأرض غرباً وأخر الأرض شرقاً، وهكذا كان
طموحه، فلم يُحَجمه بأماكن، فلماذا لا تحلم أنت؟ هل تخاف أن تدفع! أم تخاف أن تحلم! لا تكن ضعيفاً وتقول أنا
أقلُ من الحلم، احلم فعلى الأقل من سيحلم يمكنه تنفيذ حلمه، فالذي لا يملك أن يحلم، سيقوم غيره بهذا الدور بل
سيضعه جزء من حلمه، والبلد التي لا تملك حلم، ستصبح جزء من أحلام بلاد أخرى، وذو القرنين كان حلمه
استكشاف الأرض ولا تستهينوا بكلمة حلم.
3. ذو القرنين لديه منظومة قيم وأخلاقيات، إذا لم تكن عنده كان من المستحيل أن يُمَكَن هذا التمكين وكان قد أفسد
في الأرض فساداً شديد، ورصيد قيم ذو القرنين كان: قيمة العمل، قيمة العلم، قيمة الأيدي النظيفة؛ فلم تمتد يده
إلى خيرات الشعوب، قيمة الطموح، قيمة العطاء وحب الخير وإسعاد الآخرين، قيمة الإتقان التي تظهر عند بناء
السد، قيمة العدل وكراهية الظلم والسلبية، هل يمكنك أن تُحضِر الآن ورقةً وقلمًا وتكتب قيمك أنت، من أين تأتي
القيم؟ من الأب والأم والدين، وهذه دعوة للآباء والأمهات، فحكاية قبل النوم هامة جداً خاصة إذا كانت مذاب فيها
مجموعة قيم، ومثلما تشتري لهم الملابس وتزيد من رصيدك في البنك لكي تتركها لهم، فأهم من هذا وذاك أن
تترك لهم قيماً، فهدايا القيم أغلى بكثير من هدايا المال، وإذا مت ولديهم قيم وليس لديهم مال؛ سينجحون، أما إذا
مت ولديهم مال بدون قيم؛ فلن يحققوا شيئاً. أولادكم يحتاجونكم فأعطوهم وقتاً، فالأب والأم ليسوا شئوناً إدارية،
يملون أوامر كالأكل، والنوم، والنظافة، والمذاكرة، بل الأب والأم مخزون قيم يدخر للأولاد عن طريق القدوة،
والمواقف، والتربية، والمعاشرة، والكلام، والحب وليس العنف، ولذلك ذو القرنين كان مؤهل للتمكين بسبب ما
يملكه من رصيد للقيم.
التوكل والأخذ بالأسباب:
ولقد نزلت في ذي القرنين أكثر من عشرين آية، ألهذا القدر يحبه الله تعالى! وقد سمع الصحابة هذه الآيات في
مكة، ففعلوا ما فعل ذو القرنين في 25 عاماً، جيلُ وراء جيل، وحتى بعد موت النبي_ صلى الله عليه وسلم_، لم
تكن حدثت بعد، فكانوا لا يزالون في الجزيرة العربية، لكن يبدوا أنهم حين سمعوا سورة الكهف وقد أمرنا الله
تعالى بقراءتها كل يوم جمعة، حدث شيء ما في تفكيرهم.
فلماذا نصوم رمضان؟ ألكي نعود للمعاصي أول يوم للعيد؟ أم أنه مخزون طاقة لكي نقوم بنهضة ونُصلحَ ونُعلمَ،
فالصحابة وهم مستضعفون في مكة- كأني أرى أعينهم تلمع وهم يقرأون قصة ذو القرنين كل يوم جمعة! والفكرة
وصلتهم بما فيها من قيم، بالإضافة لمجئ هذه القصة بعد قصة الخضر مباشرةً، فالخضر كان يتكلم عن الغيب
والروحانيات، فكان لابد من التوازن باتباع الأسباب في قصة ذو القرنين، فلو كان الكلام توقف عند الخضر لكان
الجميع ينتظر أفعال الله فيه بدون فعل منه. وقد تحدثنا كثيراً عن الرضا عن الله وأفعاله. أما ذو القرنين فقد قام
بثلاث رحلات في كل منها كلمة قبلها "فَأَتْبَعَ سَبَباً" فليس متواكل، فالتوكل هو أن تأخذ بالأسباب وتقوم بكل شيء
ثم تقول يا رب!
قرر ذو القرنين قراراً عظيم، فلديه إمكانيات وبداخله طموح وحب لاكتشاف المجهول، لذا قرر أن يأخذ أمته
ويذهب بها للطواف بالأرض في ثلاث رحلات من غربها لشرقها لشمالها، وأثناء مروره يساعد البشرية ويُصلح
في الأرض، فقد استكمل قوته كأُمة فلمَ لا يفيض بالخير على الآخرين! ولا ينهب شيء من ثروات الشعوب بل
يعطي هو، وقد أعطاه الله كثيراً حتى أصبح قوة عالمية، فكيف توظف لخير الآخرين، إذاً ففكرة العولمة ليست
جديدة بل بدأها ذو القرنين وهي عولمة الحق والخير، وأيهما أسعد للبشرية؟ عولمة التكنولوجيا أم عولمة الحق
والخير؟ ففكرة ذو القرنين هي أنني أنجح وينجح معي الآخرين، وليس من الضروري لكي أنجح أن يفشل الآخرين!
ونموذج ذو القرنين هو نموذج عالمي وليس مُهدى فقط للمسلمين، بل مهدى لكل القوى في العالم في كل زمان
ومكان، فالقرآن عالمي فلا تغلقوه علينا كمسلمين، وذلك ما قلته في كل القصص مثل قابيل وهابيل ومريم، وأن
كلها قصص عالمية.
فالقوى العالمية تحتاج أن تَدرُسَ ذا القرنين، ورجال السياسة يحتاجون أن يدرسوا ذا القرنين، وذو القرنين كان
عظيم في قراره لأن لديه شباب وإمكانيات وعلوم. إذا لم تتحرك ماذا يحدث؟ وإذا كان العالم العربي خالٍ من
مشروع قومي للشباب فماذا يحدث؟ مخدرات، وتطرف، وإرهاب. فذو القرنين وجه أمته للحركة، وأنا أقول للشباب
إذا لم يوجد ذو القرنين ولم يوجد مشروع قومي لبلدك فتحرك أنت، وإلا فلن تخرج الطاقة التي بداخلك، ولهذا تجد
شباب يُصبح متدين ثم يعود كما كان، وتجد شباب يتعاطون المخدرات ويجلسون مع أصحاب السوء، فابحث عن
مشروع تقوم به، أو أسرة تنقذها، اصنع حياة إنسان، أو أسرة، انزل لقرية من القرى، علِّم الناس.
ذو القرنين قام بثلاث رحلات، أخذ الأرض عرضاً... ملايين الكيلومترات! أول رحلة لإقامة العدل التي هي أول
النهضة، والرحلة الثانية هي رحلة تنموية اقتصادية، والرحلة الثالثة هي مواجهة الأعداء الخارجيين المهاجمين
لبلادنا، وسنشاهد خمس أُمم من الموجودين في الأرض، وستجد أنها مثل ما نراه اليوم، لأنها مثل الصور أو
المرايا التي نرى فيها أنفسنا اليوم، وسنأتي في النهاية للسؤال: يا ترى نحن أي أُمة منهم؟
رحلات ذو القرنين :