مجلة المحاماة – العدد الرابع
السنة الثامنة عشرة
وقف التقادم للحوادث القهرية والظروف المعجزة
Contra non valentem agere non currit praescriptio
لحضرة صاحب العزة الأستاذ زكي خير الأبوتيجي بك رئيس النيابة لدى محكمة النقض والإبرام (الدائرة المدنية).
=====================
1 – تمهيد:
غير خافٍ أن وقف سريان التقادم يراد به أن مضي المدة المكسبة أو المسقطة للحقوق يقف ردحًا من الزمن بسبب الأعذار التي ذكر القانون بعضها ثم يستأنف التقادم سيره بعد زوال تلك الموانع وإذا كانت هناك فترة قد سبقت قيام المانع فتضاف إلى الزمن الذي يلحق زواله - ويسري التقادم ما لم يقطعه فعل من صاحب الحق يدل على سهره ويقظته على حقه وأنه ليس بغافل أو تارك له وقد عدد القانون المدني في المادة (82) أحوال انقطاع التقادم وأهمها التكليف بالحضور للمرافعة أمام المحكمة أو التنبيه بالرد تنبيهًا رسميًا مستوفيًا للشروط اللازمة إلى غير ذلك من الأحوال المنصوص عليها ولما كانت هذه الإجراءات القاطعة للتقادم تتطلب أهلية وإدراكًا لذلك رأي الشارع أن لا يكلف مفقودي الأهلية والإدراك ما ليس في وسعهم فنص في المادة (84) مدني على أن لا يسري التقادم على من يكون مفقود الأهلية شرعًا.
إلا أن الشارع وقف عند هذا الحد وصمت عن الأحوال الأخرى التي قد تحول دون اتخاذ مثل هذه الإجراءات القاطعة للمدة وقد تكون هذه الحوائل ناشئة عن مانع قانوني أو حائل من الحوادث والأفعال القاهرة والمثال على الحالة الأولى دائن المفلس الذي لا يستطيع أن يرفع دعواه مطالبًا بدينه بعد الحكم بالإفلاس عملاً بنص المادة (217) تجاري أو اتخاذ أي إجراء طالما أن إجراءات التفليسة قائمة وقد يمضي أثناء ذلك على استحقاق ذلك الدين أو فوائده المدة المقررة للسقوط فهلا يقف سريان التقادم لهذا العذر القانوني.
وكذلك قد يطرأ من الحوادث ما يكون قاهرًا كأسر صاحب الحق في الحرب أو غيابه غيبة منقطعة وهو لا يستطيع طبعًا أن يتخذ أي إجراء لحفظ حقه من السقوط فهلا يقف سريان التقادم في مثل هذه الصور التي أغفل القانون النص عليها.
هذا هو موضع البحث وقد أرسل رجال الفقه من قديم الزمن المثل اللاتيني المأثور كحل لهذه المسائل:
Contra non valentem agere mon currit praescriptio
ومعناه أن التقادم لا يسري ضد من يستحيل عليه اتخاذ أي إجراء ولما كان النص القانوني المصري مقصورًا على حالة فقد الأهلية وجب البحث في هل يسوغ الأخذ بهذه القاعدة في مصر.
ولما كان باب التقادم في القانون المصري منقولاً عن القانون الفرنسي فلا مندوحة من تتبع سير هذه القاعدة في الزمن السابق واللاحق للقانون الفرنسي للتعرف على روح التشريع المنقول إلينا واستجلاء مراد الشارع المصري من النص الذي وضعه في المادتين (82) و (83) من القانون المدني.
2 - التعليل المنطقي:
وقبل الخوض في غمار هذا البحث يبدو لمن يمعن التفكير أن مفقودي الأهلية شرعًا يكون لهم من يذود عن حقوقهم وهم الأوصياء والأولياء وإذا أهمل هؤلاء يجوز الرجوع عليهم بما جنت أيديهم فهم إذن في غنى عن هذه الرعاية ودونهم في ذلك بالطبيعة من تعيقهم الحوادث القهرية أو الموانع القانونية التي تحول استحالة مطلقة دون اتخاذ أي عمل لصون الحق من السقوط – وهذا اعتراض له وجاهته، إلا أن الفقهاء يعللون ذلك بأسباب تاريخية ترجع إلى عصر القانون الروماني إذ يقول كولان وكابتان أن القاصر لم يكن مأذونًا له في العصر الروماني بالخصومة لعدم أهليته ولم يكن رئيس عائلته ممثلاً له قانونًا حتى يستطيع أن يصون حقه من السقوط بالنيابة عنه وإذا رفع الدعوى لم تكن لتقبل منه لانعدام مصلحته فيها لذلك كان من العدل أن يقف سريان التقادم إبان قصره (انظر كولان وكابتان طبعة سادسة ص (897) جزء أول)، على أن هذا الاعتبار لا محل له الآن لزوال علته إذ أن الأولياء والأوصياء والقوام يمثلون مفقودي الأهلية تمثيلاً قانونيًا صحيحًا ولهم بل عليهم أن يصونوا حقوقهم.
على أن الشارع الفرنسي أصر على إعفاء مفقودي الأهلية من سير التقادم في بعض الأحوال وجرى وراءه الشارع المصري ولا اجتهاد مع النص الصريح.
3 - تاريخ التشريع في فرنسا:
أخذت قاعدة الأعذار عن القانون الروماني وأول من قال المثل المأثور contra non valentiem هو برنولي عند شرحه قوانين جوستنيان والمجموعة الرومانية وكانت المحاكم الفرنسية في جميع المقاطعات لا تتردد في تطبيقها تطبيقًا واسع المدى فكانت تأخذ بأحوال القوة القاهرة والغيبة والجهل بالحق وغير ذلك من الأعذار وتعتبرها معطلة لسير التقادم وكان للقاضي سلطان واسع في تقدير هذه الأعذار.
ولما صدر القانون المدني الفرنسي ورد النص في المادة (2252) منه كما يأتي:
La prescription ne court pas contre. Les mineurs et interdits, sauf ce qui est dit à l’article 2278 of à l’exception des autres cas dèterminés par la loi
وورد النص في المادة (2251) هكذا:
La prescription court contre tontes personnes, à moins quelles ….. [(1)]dans quelque exception établie par une loi.
وترجمته أن التقادم لا يسري ضد القصر والمحجور عليهم ما عدا ما نص عليه في المادة (2278) ويستثنى من ذلك الحالات التي حددها القانون وأن التقادم يسري ضد كل شخص إلا من استثنى قانونًا.
4 - خلاف الفقهاء في تفسير النص الوارد في القانون الفرنسي:
وقد آثار هذا النص الخلف في آراء علماء القانون المدني في فرنسا فذهبوا مذاهب ثلاثة في تفسيره.
5 - المذهب الأول:
ومنهم لوران في كتابة القانون المدني جزء 32 وديمانتى وكولمبيه سانتر في الجزء الثامن بند (358) ثم بودرى وتيسيه في كتاب التقادم ص (284) بند (366) وما بعده.
ويقول أصحاب هذا المذهب أن الشارع الفرنسي أراد بالنص الوارد في المادة (2252) أن يحضر أحوال وقف التقادم بحيث لا يجوز الاجتهاد ولا التوسع فيها وأنه إزاء اختلاف الشراح والمحاكم في الأخذ بالأعذار المتعددة أراد الشارع القضاء على هذه الأعذار التي كانت تطيل أمد التقادم والتي كان يترتب عليها عدم استقرار الحقوق وتجدد النزاع على وقائع قديمة توالت عليها السنون.
ويعللون هذا الرأي بأن التقادم لا يقوم على افتراض الإهمال فقط بل على فكرة أسمى وهي المصلحة العامة التي يجب صونها والتي يجب أن تزول أمامها مصلحة الأفراد حتى لو كانت الموانع التي عاقتهم عن حفظ حقوقهم من السقوط قوية وجدية، ولا يجب أن يقال أن هذا مما ينافي العدالة لأن التقادم لا يقوم على أساس من العدالة بل على أساس الصالح العام وأنه إذا اعترض على هذا بأن الشارع راعى العدالة بإعفائه القصر والمحجور عليهم من سريان التقادم وتقاس عليه الأحوال الأخرى التي يقتضيها الإنصاف فإنه يرد على هذا بأن الشارع أظهر تساهلاً مع من ذكرهم على سبيل الحصر فيجب التزام الحد الذي وقف عنده الشارع ولا يسوغ تجاوزه إلى حالات أخرى بعيدة عنها وتختلف عنها في طبيعتها ونوعها، وإذا تُرك للقاضي الحبل على الغارب فإن بواعث العدل والعطف قد تحمله على قبول كل عذر ومانع مثل الجهل أو الغباب أو المرض وبهذا يصبح النص على التقادم حبرًا على ورق (انظر بودرى وتيسيه في شرحه هذا الرأي بالأسباب في المرجع المشار إليه آنفًا).
ويقول المسيو لا بيه في تعليقه على مجلة سيري سنة 1878 جزء (2) ص (313) ما هي الفائدة من النص الوارد في المادة (2252) إذا كانت المحاكم لا زالت مصرة على التمسك بالقاعدة القديمة..... Contra mort velentem التي كان معمولاً بها قبل القانون والتي قصد الشارع القضاء عليها وحصر مدى تطبيقها.
وأكثر من هذا فإن أصحاب هذا الرأي يستندون أيضًا إلى المراسيم والقوانين التي تصدر أثناء الحروب بوقف سريان التقادم أثناء قيام الحرب ويقولون لو كان التقادم موقوفًا أثناء الحرب وهو من الحوادث القهرية بحكم المادة (2251) ما كانت هناك ضرورة لإصدار مثل هذه القوانين.
6 - المذهب الثاني:
وزعيم هذا المذهب دالوز في موسوعاته تحت عنوان تقادم مدني بند (684) وما بعده وترولنج بند (701) وميرلان في موسوعاته تحت عنوان التقادم.
ويقول أصحاب هذا الرأي بأن النص الوارد في المادة (2251) لا يمنع تطبيق القاعدة القديمة لأن الشارع إنما أراد حصر الأعذار التي تقوم على حالة الأشخاص فلم يعتبر منها سوى فقد الأهلية أما الأعذار الناشئة عن حوادث القوة القاهرة وغيرها فلم يتعرض لها القانون ولم يحرمها.
ويقول دالوز في المرجع المشار إليه أن القاعدة القديمة إنما تقوم على أساس من العدالة وأن التقادم إنما بنى على افتراض أن الدائن أهمل حقه وتركه فكيف يسوغ عدلاً وعقلاً افتراض مثل هذا الإهمال إذا كان الدائن لا يستطيع مطلقًا أن يعمل شيئًا يصون حقه بسبب القوة القاهرة أو الحوادث المعجزة.
ويقول نرولونج أن أصحاب الرأي المخالف يفسرون المادة (2251) تفسيرًا غير معقول ويفرضون على القاضي أن يحكم بما ينافي الضمير والعدل وهل يعقل أن يجد الشارع متسعًا للنص على جميع صنوف الأعذار والموانع وإذا قيل بأن الشارع لم يقصد سوى ما عدده من الأعذار فيكون عمله هذا ضربًا من ضروب الظلم والعسف.
7 - المذهب الثالث:
وهو مذهب أوبرى ورو في كتاب القانون المدني جزء (2) بند (214) وهامش نمرة (29) ونمرة (53) وجويار في التقادم جزء أول بند (153) ونمرة (165) وهذا المذهب يفرق بين حالتين فإما أن يكون العذر قانونيًا أي أن له سببًا من القانون أو واقعيًا أي أن يكون منشؤه الوقائع والحوادث ففي الحالة الأولى يقف التقادم ومثال ذلك دائن المفلس الذي لا يستطيع مقاضاته أثناء قيام التفليسة فإن التقادم لا يسري حتى تقفل التفليسة ولا تسقط الديون التي استحقت في أثنائها ولا فوائدها أيضًا.
أما في حالة الموانع القهرية فقد اختلف أصحاب هذا الرأي فيما بينهم فقال أوبرى وروانه لا يجوز للقاضي أن يعفي صاحب الحق من سريان التقادم ضده أثناء وقوع الحادثة القاهرة إذا ظهر أنه بادر واتخذ إجراءات المطالبة بحقه عقب زوال الحادث القهري مباشرة ويخالفه في هذا جويار في الجزء الأول من كتابه التقادم ص (169) ويقول أن هذا الحل لا يرتكز على أي أساس من القانون الذي يحرم ما عدا الأحوال المنصوص عليها في المادة (2251) وما بعدها.
8 - مذهب القضاء في فرنسا:
ليس العالم الشارح للنظريات القانونية الصرفة كالقاضي الذي يجابه الوقائع ويَلْمَسُ الظروف في الدعوى وما تحويه من عسف فالأول يبسط آراءه العلمية ونتائجه المنطقية بدون تطبيقها على الوقائع أما الثاني فعند تطبيق القانون تطبيقًا حرفيًا قد يصطدم أحيانًا بما يبعده عن جادة العدل والإنصاف بعدًا شاسعًا عندئذ لا يرى القاضي مندوحة من الاجتهاد والتوسع في تفسير النص القانوني حتى يرى مخرجًا لتحرج ضميره.
( يتبع )